الكتابة بوصفها سؤالا في المصير الإنساني
الكتابة هي وجود يخلقه الإنسان في داخله ليكون إنساناً. كان الإنسان القديم، وقبل أن يعرف التدوين، يقول الكتابة صوتاً؛ فهو يكتب صوته في الفضاء الذي يعيش في كنفه شأنه شأن غيره، وإن لم يستخدم اللسان بوصفه عضو الكلام فالصوت يبقى خبيئاً في وجدانه، لكن الإنسان اخترع التدوين الكتابي، وراح يتوافر على أدوات الكتابة الخطية، فأستخدم كينونة الطين، ووصلات جلود الحيوانات، ومن ثم الأوراق والأقلام والأحبار، وكان الجدار الطيني أو الرملي أو الصخري أو المعدني أو الشجري، مثلاً، هو الصفحة التي يخط الإنسان عليها حروف الكلام المكتوب والمدوّن عليها، لكن التطوّر الحضاري للإنسان الذي نهض به لنفسه اخترع من الجلود الحيوانية وألواح الأخشاب والقصب والليف وغيرها من الأشياء صفائح حتى أصبحت سهلة التداول والتنقل.
وهكذا، أصبح للمكتوب والمدوّن وجود حسيّ يُشار إليه بالبنان، وكان كل ذلك، وعبر التاريخ، عرضة للحرق والغرق والتلف والإتلاف والفقدان والضياع والتضييع، ولكن ما وصل إلينا من كل المكتوبات تدويناً هو حصة للقدر شاء أن يبقى متوارثاً حتى جاءت الأزمنة الحديثة، ومن ثم المعاصرة، وصار الفضاء الأزرق الإلكتروني جداراً وصفحة للكتابة، وهكذا بقيت الكتابة سواء في شكلها القديم أو الحديث أو المعاصر وجوداً مخلوقاً من جانب الإنسان للإنسان ولغيره من الموجودات القارئة.
الكتابة والمصير
في خلال كل ذلك، لا تنفصل الكتابة عن الإنسان في كل تفاصيل حياته؛ الذهنية والحسية، والنقدية بالمعنى الكانطي -نسبة إلى الفيلسوف إيمانويل كانط- والقلبية بالمعنى الصوفي والأهوائية.
تغطي الكتابة جُل وجود الإنسان، الداخلي والخارجي، الذاتي والموضوعي، وفي كل ذلك تتبلور -الكتابة- تعبيراً ودفاعاً عن الوجود الذاتي للإنسان سواء كان فرداً أو مجموعاً، وهنا تبدو قضية المصير، مصير الإنسان، ذات شأن محوري، وعندما يكون المصير الإنساني بهذا الشأن سيولّد الاختلاف، وقد يؤدي هذا الاختلاف إلى التصادم، وهو ما جرى بالفعل، وعند ذاك تصبح الكتابة فعل تحدّ وفعل مصير، ولذا تجد الأنظمة التي لا تؤمن بالديمقراطية الحقيقية أنها تخنق الكتابة، تخنقها بوصفها وجوداً إنسانياً لكي تهزمها وتهزم الكاتب والمكتوب، وتقمع الكاتب وتعتقله لترميه في السجن، وقد تنزل به عقوبة الإعدام الذي هو ضمناً إعدام للكتابة، إنه الإعدام لوجود الكاتب.
أسئلة الكتابة
لا كتابة من دون إنسان، والكتابة التي لا تناغي المصير الإنساني تبقى عابرة، تبقى كتابة للتدوين الاستهلاكي ليس إلا، وهنا بيت القصيد، فما جدوى الكتابة؟ وما جدواك أنتَ أيها الكاتب بوصفك وجوداً إنسانياً بأنْ لا تأخذ الكتابة منك مأخذها المصيري فيك ليس بوصفك فرداً فحسب وإنما بوصفك الفرد المجموع كأن تكون وطناً فرداً في وطن بقية الأفراد؟
لذلك، أجد أن سؤال الكتابة الأول هو سؤال مصير الإنسان في المجموع الإنساني ضمن وطن ما، وعندما تفضِّل الكتابة عندك مصير جهوياتك على غيرها؛ جهوياتك القبيلة والمذهبية والمنطقية، والرعاعية الهوجاء فيك، إنما تُفضِّل كل ذلك على بُعدك الإنساني الأصل أو البُعد الإنسي فيك سرعان ما ستتحوّل الكتابة إلى مجرّد صناعة لوجود غفل، وجود للاستهلاك ليس إلا، وهي بذلك كتابة مغتربة عن أن تكون حقّة.
إن سؤال الكتابة الحقيقي لهو سؤال الإنسان بوصفه إنساناً؛ فالكتابة التي تبحث عن مجرّد العرق ومجرّد الطائفة ومجرّد القبيلة ومجرّد المنطقة هي كتابة تنزل إلى درك هذه العناصر الجهويّة تلك التي لا تحتفي بالإنسان بوصفه إنساناً وهو ما ينبغي لوجود الكتابة أن يكونه.
ولذلك، يسعى التفكير الأيديولوجي والأيديولوجي المعاصر سواء في شكلهما الإسلامي أو الإسلاموي أو غيرهما، وفي كل زمان، أن يُبعد الكتابة الحقّة عن خطاباته، إنما يريد بهذا التفكير أن تكون الكتابة مجرّد تعبير عن الطائفة والعرق والمنطقة، وكذلك عن المصالح السياسية الإقليمية والاقتصادية، إنه يسعى لأن تكون الكتابة رعاعيّة جهويّة لا إنسانية.
أن الكتابة التي تتكرّس في داخل البُعد الجمالي فحسب، لا بد أن تغادر منطقة الكتابة من أجل الكتابة رغم أن الكتابة في هذا المجال لها مبرّراتها في أطر معينة وهي أطر ضيقة، على العكس من ذلك لا بدّ لسؤال الكتابة أن يضع في صلبه مصيرية الإنسان في هذا العالِم الذي تمور فيه شتى الصراعات العمياء والدموية، لا سيما بعد صدوح نظرية “صدام الحضارات” منذ تسعينات القرن العشرين تلك التي كانت ولا تزال تأخذ العالَم إلى مصائر الجهويّات المتقاتلة، وهي نظرية عدوانية جرّبت نصيبها في العالم الثالث بقوة، فضلاً عن غيره من العوالم، ورأينا ما جرى في العراق المعاصر منذ نيسان/أبريل 2003، مروراً بعدد من الدول العربية حتى اليوم ما أدته هذه النظرية في عراق غنيّ لكنه بات من أفقر دول العالم من حيث التنمية الحضارية والصحية والثقافية والتعليمية المختلفة.
ولذلك، لا بد للكتابة أن تتجاوز كينونة ذاتها من أجل ذاتها لتفتح على ما بعد ذلك، تنفتح على المصير الإنساني عندما تعبث به أقدار الخراب واللامعقول والتخبُّط تلك التي تستهدف موجودية الإنسان في حياته الراهنة لتقتل فيها الأمل بالعيش الآمن، وهو ما سعت إليه جُملة من السياسات التي جربناها بعد نيسان/أبريل 2003، تلك المدعومة برؤية “الشرق الأوسط الجديد”، ونظرية “الفوضى الخلاقة”، وتصدير “الديمقراطية الزائفة” كما هو حالها في عراق محررٍّ أميركياً حتى سُلِّم برمته إلى أطراف إقليمية أذاقته الهوان وعلى نحو مُذل.
الموهبة الإنسانية
منذ القديم، بدت الكتابة موهبة للإنسان، وهي أيضاً تتطلّب مهارات تتعلّق بفنونها وجماليات الأسلوب فيها، لكن الموهبة تأخذ مأخذها في الكتابة، وكم شاعر وروائي وناقد لولا موهبته لما كان شيئاً له شأنه في عالم الكتابة؟ بل إن كل الكتّاب الكبار هم ذوو مواهب كبيرة في التاريخ حتى أصبح للكتابة مواهبهما وللكتّاب مواهبهم، وظهر في عصر التدوين العربي والإسلامي كتّاب معروفون بمواهبهم في الكتابة، لكنه، وفي المرحلة المعاصرة، لا سيما عندما ظهرت الكتابة كمهنة صارت الموهبة (Talent) فيها أقل في مقابل الكتابة كحرفة (Craft) يتداولها الناس ولا يُعرف بأنهم كتّاب موهبة، ومن ثمَّ وفي عصر الشاشة الزرقاء والألواح الضوئية أصبحت الكتابة متاحة لعامّة الناس من دون استثناء، لكن من له موهبة إبداعية فيها يحوز مكانة ممتازة في عالم الكتابة.
وفي الدول التي تتردّى فيها الأوضاع التعليمية الأساسية والإعدادية والمتقدّمة تصبح التحديات فادحة بالنسبة إلى الموهبة في الكتابة سوى ما ندر، مع العلم أنه من الصعوبة بمكان تعليم أو تعلُّم الموهبة لكونها هبة من السماء أو قدرة مُلهمة موهوبة يتمتع بها إنسان دون غيره أو هبة موهوبة للإنسان بدواع تربوية عالية المستوى، فقد تكون الموهبة مُكنة موجودة في كل إنسان طبيعياً والمرجو أن تتم عملية إنمائها عبر التربية والتعليم، ولكن الموهبة تبقى لا تمثل قيمة مُعينة إذا ما أدّت إلى مصادرة موجودية الإنسان بوصفه إنساناً في الحياة، فكم من الموهوبين فقدوا مُكناتهم في الوجود عندما ينزلون إلى مستوى بشري هو مجرّد جهوي يتحطَّم الإنسان في داخله ليفقد الإنسانية المرجوة من موهبته.