الكتاب المشع: الموبايل والثقافة المعاصرة
الثقافة تسع كل الحياة الإنسانية في مجتمعاتها المتعددة بما فيها ذلك الاختلاف بين الجيل القديم والأجيال الجديدة، لم يكن عمر التلفون كبيرا في حياتنا الاجتماعية، ولكنه بدأ مثل المجتمعات القديمة يسمح بالتشارك الاجتماعي، فكان سلعة لكل العائلة، بينما لم يقف الجهاز عن التطور استجابة لمتغيرات العلم وضغط الاستهلاك، فبات يتحول شيئا فشيئا إلى سلعة فردية يحيطها الفضاء الفردي بسياجه حتى بين أقرب الشركاء في السكن، ولم يتوقف الموبايل عن التطور وبات قادرا على استخدام الكثير من البرمجيات التي كانت حكرا على أجهزة الكمبيوتر، وذلك بشكل متسارع حتى أنه فاق تلك الأجهزة القديمة وباتت برمجياته شكلا جديدا من أشكال التواصل الاجتماعي المكتوب والمنطوق والمرئي.
ومع انتشار العولمة مررت الفردانية إلى مجتمعاتنا التي لم تكمل إنجاز الثورة الصناعية وظلت بناها تقليدية أو شبه تقليدية في تشكيلتها الاجتماعية وأنساق تفكيرها وعاداتها وتقاليدها، وكان المحمول إحدى وسائل تمرير تلك الفردانية، ولعل ذلك هو السبب الأكبر لإنتاج كم كبير من التهويل والتخويف من انتشار الموبايل وتهويل مشاكله، وهو شأن مقصور على الاتجاهات الرجعية التي تحذر من كل جديد، وبحسبة بسيطة نجد كم التحذيرات من المحمول تدخل حتى في الدراسات الأكاديمية الاجتماعية المحكمة، وبطبيعة الحال نجد أن كل جهاز له وجهان ينتجان عن الاستخدام، ولكن فقدان السيطرة على المحمول هاجس لكل من التيارات التقليدية في المجتمع وأجهزة المراقبة والتعقب في الدولة.
لقد ساهم الجيل الجديد من الشبكات اللاسلكية التي تضمن تسارعا فائقا في انتقال البيانات بين المراكز المختلفة وأجهزة المحمول إلى تحول تطبيقات معروفة عند مشغلي أجهزة الكمبيوتر إلى المحمول، وقد فتح ذلك الصراع بين سرعة المعالجات في المحمول واتساع الذاكرة من جهة وتطور برامج جديدة تحتاج إلى معالجات أسرع ومساحات ذاكرة أكبر، مما يدفع الاختراعات لتصغير المكونات وبسط مساحة أكبر للذاكرة وتطوير معالجات أسرع ، حتى بات المحمول يوظف كأداة في التواصل الاجتماعي، ولعل هناك القليل من الناس من ينكر دور تلك البرامج في إحداث الحراك الواسع في ما بات يعرف بالربيع العربي، ولعل أهم تلك البرمجيات التويتر والإنستغرام والواتساب.
من الوجهة الثانية نتكلم عن جيل جديد خلق وفي يده الموبايل منذ الطفولة المبكرة، وبالتالي أصبح أكثر قدرة على التعامل مع هذا الجهاز من الجيل الذي لم ير الكمبيوتر إلا في ثمانينات القرن الماضي، ولعل تعدد البرامج التواصلية يضيق المساحة المتاحة للتواصل المباشر الذي كانت الدراسات التقليدية تشير إليه بأن الإنسان كائن اجتماعي، وقد أضافت تلك البرامج طرقا جديدة لم تكن في حساب تلك الدراسات للتواصل الإنساني، وعندما عجز أمامها الدعاة الذين كانوا يحذرون من استخدامها، صاروا يستخدمونها هم أنفسهم لنشر قضاياهم العامة.
تشكل المعرفة خليطا كبيرا من البيانات المتعددة الموجودة في الكمبيوترات المركزية، ولعلنا اليوم أكثر سرعة في الوصول للمعلومة سواء عن الأزياء أو الطبخ أو حتى التصليح والتركيب، ومعرفة الاتجاهات وأسرع الطرق للوصول عبر المحمول، وربما تكون المعرفة العلمية المتاحة باللغة العربية غير وفيرة بشكل كاف للبحث المتخصص، ويمكننا النظر إلى موسوعة الويكبيديا ومقارنة نسختيها العربية والإنكليزية لنحس بالفارق الكبير بينهما في الدقة ووفرة المعلومات.
ويبدو لنا أن هناك تعديلا في اتجاهات تبني المعرفة صار بفضل المحمول متاحا، ولكن يظل هناك الجزء المظلم من الثقافة يشتغل في دياجير المواقع المتعددة التي يمكنك الدخول إليها عبر المحمول، الذي بات يسحب البساط من تحت الكمبيوترات البرجية، فتجد استباحة شاملة لكل التابوهات التي تقوم في داخل المجتمع بين ثلاثية الدين والجنس والسياسة، وحتى ملاحقة الدول للمواقع الإباحية تعارض اليوم ببرمجيات تتيح التحايل على أنماط المنع التقليدية التي تتبع العناوين العامة لتلك المواقع وتحصرها.
وربما تشارك الإشاعة بشكل قوي في نشر المعلومات المغلوطة أو الكاذبة وصعوبة متابعتها ووقفها نتيجة انتشارها في مجموعات مغلقة وصغيرة في بعض الأحيان، وتقوم بالشحن الطائفي أو المناطقي أو القبلي لتفتيت المجتمع، تلك الوظيفة التي كانت مناطة بمجموعة من الأفراد الذين يشكلون المثقفين المزيفين والمهيمنين على حفنة من الصحف بنجاح منقطع النظير وبعضهم شكل الذباب الإلكتروني. ويبدو أن هناك موتا مزدوجا بطيئا للصحافة الورقية، أظن أنه بات يسحب نفسه على الصحافة الإلكترونية أيضا.
وتزداد الصعوبة في اكتشاف التزوير والتدليس مع وجود برمجيات متنوعة يمكن بها فبركة ما لا يحده إلا ذكاء المستخدم، مما يزيد صعوبة اكتشافها على المتلقي العادي، والتأكد من صدق المعلومة من كذبها إلا عبر بناء العقل النقدي، وتوسيع دائرة التربية القائمة على الفهم والتحليل والتخلي عن دائرة التعليم الاستعادي البسيط.
ويبدو أن المحمول قد تجاوز ثغرة مهمة في العالم السبراني بتعميم استخدام الموبايل في كافة فئات المجتمع وطبقاته المختلفة فمن يعرف القراءة ومن لا يعرفها يستخدمه بشكل ما، ولكن تظل عقبة الدخل عند الفئات العمرية التي من المفترض فيها الدخول إلى سوق العمل وتبقى عاطلة، لا تستطيع الدخول في استهلاك الاتصالات أصلا فكيف لها التوصل إلى استخدام الموبايل.
يقوم صراع كبير بين حقوق المؤلف وبين العالم السبراني حتى على المحمول عبر إباحة الكثير من الإنتاج الثقافي على مواقع مفتوحة يمكن منها تنزيل وقراءة الكثير من الكتب التي تعتبر جديدة نسبيا، أي لم يمر عليها خمسون عاما من إنتاجها، وبالتالي يتضح ذلك الفارق الكبير بين وجود القوانين ومتابعة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية.
ويظل في تعميم الكتب جانب إيجابي في الثقافة الراهنة معتمدا على نوع الكتاب الذي ينزله المستخدم من جهاز الموبايل، كما أن هناك عقبة تتعلق بمسألة مواصلة القراءة لفترات طويلة على جهاز الموبايل ذي الضوء المشع، ولكنها لا تمنع تمرير الثقافة المعاصرة عبره.
ولعل أكثر الجوانب إهمالا لتطوير الجهاز المحمول هو مسألة تعميم التصوير بأشكاله الفوتوغرافية والفيلمية، وهذا التعميم كما يبدو يفتقد إلى معرفة في فنون التصوير تتوازى مع ما يحمله الكثير من الأفراد في أيديهم، فنجد الكثير من الأفلام التي تصور بواسطة المحمول في وسائل التواصل الاجتماعي يغفل فيها المصور عن أن المتلقي لا يستطيع التعرف على المكان أو الزمان أو حتى الحجم الحقيقي لما يصور، وبالتالي نجد كثيرين يغفلون ذكر هذه المكونات الصوتية التي تتبع التصوير الفلمي، بينما صارت الكاميرا في المحمول تتطور بتسارع كبير في قدراتها ودقتها من حيث عدد البكسلات، منذ إنزال الكاميرات الرقمية التي جاءتنا من علوم الفضاء ودخولها إلى المحمول، وظل الكثير من الناس يهلل ويكبر فقط وهو يصور، وبالتالي تفقد الكاميرا التلفزيونية في المحمول الكثير من مساهمتها البصرية والمعرفية، بينما يضج الفضاء السبراني بالنماذج التعليمية والثقافية التي تتراوح في جدية طرحها وتلعب دورا بالغا في نقل المعلومة عن الأحداث الجارية.
من الجانب الآخر هناك اليوتيوب والقنوات المباعة التي تنشر معارف متعددة بعضها علمي، وبعضها الآخر فلسفي، وبعضها يتعلق بنواحي الحياة المتنوعة، وهو ما يمكن أن يغني الفرد العادي الذي يحاول طرح أسئلة بكر على ذاته خصوصا للجيل الجديد، ولكن ذلك الفضاء أيضا بما يحتوي من ديمقراطية سبرانية يسمح بتمرير فيديوهات تملأ النفوس رعبا أو تدعو إلى تبني الفكر المتوحش وغيره بالتساوي عبر إنشاء قنوات في الفضاء السبراني الذي يسهل الدخول عليه من خلال الموبايل عاكسا بذلك الوجه المظلم للثقافة العربية.