اللعنة المدهشة
في أواخر التسعينات الميلادية من القرن الماضي، نشرت مجلة نيوز ويك الأميركية تقريرا عن أبوين أميركيين يسكنان كاليفورنيا قررا تربية وتعليم أولادهما تعليما ذاتيا مستقلا، بعيدا عن كل وسائل التكنولوجيا والتعليم النظامي، فلا تلفزيون، ولا راديو، ولا هاتف، ولا إنترنت، ولا مدارس، ولا أيّ وسيلة تقنية يمكن الاستعانة بها في تعليمهم. فقط، كانت الكتب هي المرجعية الوحيدة لثقافتهم، ولمعرفتهم بالحياة وبالعالم. كانا مقتنعَين تماما بأن منظومة التعليم وجميع أدوات التكنولوجيا ستدفع بأبنائهما إلى تحويلهم لقوالب اجتماعية معلّبة شبيهة بروبوتات مبرمجة.
وبالفعل، لقد نشأ الأطفال أذكياء جدا، وصحيين جدا، لكنهم كانوا يتّصفون بسلوك اجتماعي غريب للغاية، كان لهم عالمهم، وأولوياتهم، وأحكامهم، وذوقهم، فلم يتمكّنوا حين كبروا من الاندماج في المجتمع الذي كان متخلفا عنهم، ومتقدما عليهم في ذات الوقت.
في عام 2016، حصد الفيلم الأميركي Captain Fantastic عدة جوائز لتناوله موضوعا مشابها يتعلّق بسؤال ثقافي مرتبط بالفلسفة والدين والتاريخ والعقائد، حيث يُكرّس أبٌ حياته لتربية أطفاله الستة على أسس بدنية صحيحة وتعليم فكري صارم، بعيدا عن التكنولوجيا والمدارس. لكنه يُرغَم على ترك منظومته تلك وخَوض العالم الخارجي، ليواجه تحديات تخص فكرته عن معنى الحياة والأبوة ضمن رؤيته الذاتية عن قوالب قنوات التواصل الاجتماعي الجماهيرية التي تقدم لنا معنى الأشياء بجاهزية عبر التعليم والثقافة والدين، وعبر التكنولوجيا الهائلة التي تجتاح الأبناء ليغدوا كائنات مجهولة.
هذه التكنولوجيا -التي اختصرت الآن في جهاز صغير ذكي يسكن جيوبنا- لم يعد التعامل معها وفق اختياراتنا أو أفكارنا، أو وفق ما نرغب فيه ونريده، لكنها تتسع لتشمل حياة الآخرين واختياراتهم وأسئلتهم الوجودية البسيطة والمعقدة. فلقد تحوّلت إلى نسيج عضوي في حياة الكائن البشري المعاصر، إذ لا مناص من أمرين؛ إما أن تكون في العالم وإما في خارجه، إما أن تكون حيا وإما ميتا. لكن الخطورة حين تتحوّل الحياة إلى موت بمعناه المجازي، والموت إلى حياة بمعناها الحقيقي.
والأمر كان أكثر ثورية حين دخل فعله الاجتماعي إلى حيّز الفضاء السياسي مستحكما في الجماهير، وموجها لهم عبر تطبيقاته الاجتماعية الشهيرة، الأمر الذي أسقط حكومات وأقام أخرى إبّان رياح الربيع العربي التي لم تنتهِ آثارها حتى اللحظة. هذه النتائج الموضوعة على طاولة المحللين والسياسيين وعلماء النفس والاجتماع ستكون لها بالتأكيد حوكمتها الخاصة التي ستجعل من الموبايل فضاء محكوما بما يريد السياسيون ورجال الدين من أن تكون الجماهير عليه. وهذا ما أكّد عليه الناقد السعودي عبدالله الغذامي في كتابيه “الفقيه الفضائي”، و”الثقافة التلفزيونية”، حين تعرّض لسقوط النخبة وبروز الشعبي. وهنا، بالإمكان أن نستحضر نص الشاعر السعودي حسين المنجور في مجموعته “قبر إلكتروني لكائن افتراضي” الصادرة عن دار الغاوون سنة 2010، حيث يقول:
“كفانا إنسانية أنْ نجترحَ آفاقا للتواصل لم يجترحها حتى الأنبياء، أنْ نوقدَ لأضيافنا في الشات وmsn بأنفسنا لا بعبيدنا، أنْ نمتحنَ هذا الصقيعَ بصقيع مثله، ونكافحَ النار بالنار حدّا بحدّ، أنْ ننقعَ القُبل ببقايا شغفنا، ونمارس بعض الشذوذ مع الآلات، ماذا؟ (لو كان حيّا لترحمنا عليه)!!، لو كان حيّا لبصقنا عليه، لو كان حيّا لدهسناه بأحذيتنا كصرصار، ولتمخَّطنا أمامَه بقرف مريض ليرحل عنّا، إنها الآلات… المراوح والمجسّماتُ، الخفّة في الأرواح والأقربُ إلى معدنيّتنا… غرفة أو “نك نيم”، ويتقاطر الأصدقاء كزخّات المطر، على حقول الأزرار”.
مجلة الجديد توقفت مع مجموعة من الكتاب والشعراء والروائيين الشباب، من الخليج العربي واليمن، مستعرضة تجاربهم الشخصية مع الموبايل وتطبيقاته المتنوّعة، وكيف يشكّل جزءا من يومياتهم البعيدة والقريبة، المكشوفة، والمغلقة، سواء كان في المنزل أو في العمل أو في الشارع، أو بين الأهل والأصدقاء والغرباء. وهل يمكن التخلص منه، أم إنه واقع يومي مثل الأوكسجين والأكل والشرب والجنس. وما هي علاقته بحياتهم الخاصة جدا، والسرية للغاية مع حبيباتهم أو أحبائهم. وأيضا كيف هي علاقته بأعمالهم وكتاباتهم وآرائهم وتواصلهم على مستوى الدراسة والوظيفة وأشياء أخرى. هل هم أسراه، أم هو أسيرهم؟
بين العزلة والانكشاف
ترى الشاعرة السعودية رباب إسماعيل أن الموبايل واقع يومي فعلا، لكنه لا يشكل جزءا من يومياتها إلا في حالات مُحدّدة؛ عند الانهماك في الأعمال المكتبية أو ظروف السفر والغربة، وذلك كنوع من التعويض عن فقدان المحيط الاجتماعي الواقعي، عندها يعمل الواقع الافتراضي والموبايل كمسكن تلجأ إليه لتعيش نوعا من المشاركة الاجتماعية المفقودة.
ويضغط على رباب هذا الواقع الافتراضي متمثلا بالموبايل حين يهمس لها في بعض اللحظات الجميلة خاصة في ما يتعلق بيومياتها مع أطفالها بأنه صديق ذكي ووفي ويُجيد الاحتفاظ بذكرياتها وتذكيرها بها بعد سنين.
تقول “المُميّز في هذا العالم أنه لحظة التقاء هجينة بين العزلة والانكشاف على العالم في وقت واحد. هو ينتهك العزلة الجميلة ليكون معك رقيبا صامتا يترصد أن تُشاركه أي شيء. وفي الوقت ذاته يعزلك عن العالم الحقيقي. الموبايل إجمالا أصبح مثل ظلّنا، لكن لا بد من التعقّل في مُحاكاته، لأنه يُجيد بيع الوهم على الذات، وتلك واحدة من ألاعيبه”.
وتضيف “في عالم الأدب والكتابة، قد يُشّكل قرب الموبايل من أيدينا شيئا مهما لرصد الومضة الأولى والملامح الأساسيّة للنص، تلك التي كانت ستبرد وتتلاشى لولا الإمساك سريعا بها على الموبايل، لكن الظن باكتمال النص والتعجّل في نشره ساخنا غالبا ما يعطينا نصّا غير مُكتمل النمو، وهذا ما أقع فيه أحيانا. لكن بطبيعة الحال الكتابة على الحائط اليومي شيء مُختلف عن الكتابة في عالم الأدب، هناك نكتب ومضات سريعة للإمساك بلحظة عابرة أو إحساس غامض، لكن ذلك ليس إلا مِرانا على الكتابة”.
لقد خفف الموبايل أحمال رباب من الدفاتر والأقلام والكتب، لكنه لم يحلّ محلها، فما زالت دفاترها تتنقل معها بجمالها وحميميتها، فهو عالم رديف ومُكمّل وتشعر لذكائه بالامتنان الكثير في كل جوانب الحياة، إلا أنها تعرف رسم حدود علاقتها معه، خاصة عندما يتحول ذكاؤه ووفرة ما يرفدنا به لنوع من التشويش أو الصدمات؛ حين يُعطينا خيار الاقتراب من أسماء لامعة.
تقول “تخيّل الحائط اليومي لنزار قباني مثلا، أو وجود محمود درويش أون لاين، أو أنك تُقلّب تلك الصور التي ولّدتها اللغة بطريقتها الخاصة، لا شك أنه أمر جميل ومُدهش لكنه مُخيف أيضا. إذ أن الاقتراب كثيرا من الأشياء أو الأشخاص ليس دائما أمرا جيّدا”.
الخروج من مسار النهر
في علاقتها مع “موبايلها” يبدو الأمر بالنسبة إلى القاصة الإماراتية صالحة عبيد -وهي تتأمل سؤالنا لها- كمن يعتقد بأنه قد خرج عن مسار النهر الإجباري الذي سيقود إلى هاوية ضمنية ما فإذا به يكتشف هشاشة الضفة تحته، كسرة منها تحمل استواءه الوهمي وتدفعه إلى ذات التيار.
تقول “هاتفي المتحرك معي بشكل دائم. هاتفان أحيانا لو تحدثنا عن الآخر المخصص للعمل، أتركهما غالبا في الحقيبة اليومية التي أحملها في يدي، إن شيئا في ملازمتي الدائمة لهما يمنحني شعورا يقينيا صغيرا جدا بالطمأنينة، ومن هنا أدرك سيري مع تيار حملة الأجهزة الصغيرة المضيئة والذكية بشكل مرعب أحيانا. أحاول أن أتجنب فكرة التدوين في مفكرة الهاتف، غالبا مفكرتي الورقية الصغيرة، هي يقيني الآخر، الدائم معي، لكنني مرة شعرت بامتنان غامر وأنا أتابع شاعرا يقرأ قصيدة خلابة من مفكرة الهاتف الإلكترونية، لعطب في يده عطله عن فكرة التدوين اليدوي، امتنان جعلني أتسامح مع فكرة التدوين الإلكتروني، لكنني في حينها أيضا تجنبت تماما أن ألتقط تلك اللحظة بكاميرا الموبايل، كنت أريد أن أكون في اللحظة، أن ألتقطها بعيون الذاكرة البشرية على كل علاتها، لأن الشعور الكامل باللحظة يجب ألّا تشوبه وسائط مهما بلغ تطورها من وجهة نظري”.
وتختم “يحدث أن يكون الأمر أحيانا كبوابة جحيم، إنه يطلعك على الرعب أولا بأول من خلال ما تتصل به تلك الهواتف من شبكات إنترنت حديثة ومواقع إخبارية وأخرى للتواصل.. أنت تشاهد الحروب مباشرة، تتعثر بالقتلى، تشعر بأنك من موضعك الصغير عبارة عن شاهد أخرس وملام على كل الفظاعات الكونية التي تحدث بمنتهى الدقة أمامك. لكن يحدث أيضا، أن يكون الهاتف -إذا عاد إلى أصل وجوده الأول- بمثابة عتبة سلامة، ابتسامة ودودة عابرة للقارات، صوت يعالج الفقد وصورة لوجه أثير ظننت أنك قد لا تراه أبدا مرة أخرى. وككل شيء في الحياة، نألفه بوجهيه، يكون هو، وأظننا نكابر لو ادعينا عكس ذلك”.
أنتم الناس
يقول الشاعر العماني وليد الشعيلي في نص من نصوصه “لقد تحوّلت إلى هاتف مؤخرا، كل عالمي في الهاتف؛ كتب، وأغنيات، وتلفزيون، وسينما، وراديو، كاميرا، ودفتر ملاحظات، ورسائل لا يحملها البريد. أنا سعيد بذلك، وبمجرّد كسر الهاتف أنهي الحياة”. ويقول في نص آخر “لم يبق لي ضلع ولا قلب ولا رئة ولا شرايين ولا شجرة ولا نجوم ولا نهر ولا بحر ولا نوافذ ولا جدران ولا هواء. والسبب أنني قمت بتكبير وتقريب صورة ما في هاتفي”.
أول هاتف امتلكه الشعيلي وهو طالب كان من نوع “نوكيا”، وكان مثل حضن دافئ في الظلام، وكانت رسائله النصية القصيرة لها ثمن مادي ووقع روحي. وبعدها كبرت الهواتف وكبرت الدنيا إلى أن أصبحت الرسالة أمرا عاديا يصلنا عبر الإيميل أو الماسنجر أو الواتساب بضغطة زرّ.
ويستمر الشعيلي في تفاصيل شهادته متذكرا لحظات الوحدة حين يفتح الاستوديو لهاتفه الحالي على صوره الشخصية لتتحوّل كل اللحظات إلى ألم يغمر الشاشة.
يقول الشعيلي “أنا مريض هاتف، لقد أصبحت حياتي هاتفا لدرجة أنه تنتابني أحيانا رغبة في إرسال رسائل واتساب إلى أرقام الموتى في هاتفي، وكلما فكرت في الأمر، تظهر “فيسات” دائرية جديدة ليست في القائمة المعتادة، كوجه أرنب مثلا بأذن إنسان، أو ورقية تسقط منها قطرة ندى أخيرة، أو صور مشوّشة بعبارات لا أفهمها، مثل: لا أحد يستلم هراءك، أو لا تزعج الذين عادوا. وهكذا تظل رسائلي تختلط في دمي ولا تخرج”.
ويضيف “لقد استطاع الهاتف أن يساعدني على العزلة المشروطة التي قننتها، بحيث تجعلني مع الناس وليس معهم، الهاتف فعلها. ولدي رغبة أن أنجز كل شيء على هاتفي: أواسي المرضى، وأعزي الناس، وأعشق، وأظهر، وأختفي، كل ذلك في هاتفي. وبذلك ربما أصبح مفيدا أكثر. لقد أسرتنا الهواتف وأحببناها، لكون أشيائنا وعوالمنا وحكاياتنا وقصص حبنا كلها بين يدينا، ومع ذلك أحيانا أقول، وليس دائما للذين بلا هواتف: ربما أنتم الناس″.
في قفص الاتهام
الروائية البحرينية شيماء الوطني ترى أن الموبايل فرض نفسه كأداة ثقافية فاعلة ضمن نطاق الأدوات الثقافية الأخرى كالكتاب والصحيفة، وحتى أن بعض تلك الأدوات قد بدأت تنحسر قوتها أمام جهاز الموبايل كالصحف مثلا.
تقول “الموبايل بتطبيقاته المتنوعة وإمكانية تحميله بالعديد من الكتب والتطبيقات البرمجية على اختلاف مستوياتها أصبح أداة فاعلة يلجأ إليها أغلب الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية والفكرية أو حتى العمرية، وهذا ما قد يحسب لصالح الموبايل من جهة. ولكن على الجهة الأخرى نستطيع وضع الموبايل في قفص الاتهام بعد أن جعل عملية الثقافة عملية سطحية ومبتسرة لا تتعدى أن يفتح المرء موبايله ويتلقى المعلومة دون أن يجهد نفسه في التأكد من صحتها أو حتى مصدرها، فقد تحول المرء بذلك إلى مجرد متلقٍ للغث والسمين مما تتناقله الرسائل أو حتى المنشورات في تطبيقات الموبايل، عدا ذلك فإن الكثير من القراء باتوا يشيرون بأصابع الاتهام إلى الموبايل، حيث أصبح كعامل مساعد يسرق منهم الأوقات التي كانوا يقضونها وهم يمارسون القراءة. وهناك جانب آخر سلبي من وجهة نظري، وهو الضرر الاجتماعي والهوة التي أصبحت تتسع يوما بعد يوم بين الأصدقاء، أو حتى أفراد الأسرة الواحدة، حين يجلس الجميع في مكان واحد ويمسك كلٌ بهاتفه دون أن يدور بينهم حوار مشترك قد يعزز من ترابطهم وعلاقاتهم. فهل نستطيع رفض أو استبعاد الموبايل من قاموس حياتنا؟ لا أعتقد ذلك ما لم يوجد بديل آخر لما يقدمه من تنوع، ولكن على المرء نفسه مسؤولية وضع حدود للتعامل مع هذا الجهاز وتقنين استخدامه”.
تبادل التجارب والخبرات
يوضح القاص الكويتي إبراهيم الهندال بأن علاقته بالموبايل معتمدة على حجمه الصغير وسهولة التنقّل به، مشتملا على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات أخرى، لا يمكن التعامل معها باللابتوب أو أجهزة أخرى، الأمر الذي يجعل من موبايله لصيقا له، حيث يكتب من خلاله ملاحظاته وكتاباته ورسائله التي لا تمر إلا عبر الموبايل بما فيها مداخلته هذه مع مجلة الجديد.
ويعتبر الهندال الفيسبوك والإنستغرام جزءا من ذكرياته التي شكّلت علاقاته الاجتماعية الطويلة، حيث كوّن من خلال مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من العلاقات مع كتّاب وقراء وناشرين، حتى بات يشعر بأنهم أقاربه، وحين يشاهدون بعضهم عبر هذه المواقع يتذكرون بعضهم ويتواصلون ويحددون مواعيد اللقاء.
يقول “كثيرة هي فوائد الموبايل، وعلى رأسها تبادل التجارب والخبرات، عبر تطبيق اليوتيوب، هذا المكان الرهيب الذي أكاد أجزم إنه موسوعة شاملة في كل شيء يريد أن يتعلمه الإنسان، فدائما أحن إلى أغنية لأنها تمثل ذكرى ما وأسمعها عبره”.
ويضيف “في السابق، فقط من يملك آلة تصوير يلتقط أجمل اللحظات، أما الآن، فالجميع لديه موبايل وبجودة تصوير ممتازة، وبإمكانه أن يشارك الجميع بمنظر على البحر أو قطة جميلة في الشارع أو ابنه وهو يخطو أولى خطواته في الحياة. فالموبايل ازدادت أهميته عبر السنوات إلى أن أصبح جزءا مهما في حياتنا كشرب الماء، والموبايل هو أسيرنا الذي لن نفرط فيه مهما كان، ودائما نستبدله بآخر، ولا نستغني عنه أبدا. أحيانا أفكر كيف كنا سنعيش من دونه أو كيف عشنا من دونه.
ويختتم الهندال مداخلته مؤكدا على أن الأجهزة الذكية، على عكس التصور السائد عنها، فقد عززت من العلاقات الاجتماعية، وبسببه ازدادت عمقا.
كاتم الأسرار
تؤكد القاصة العمانية وفاء سالم أنها حاولت مرارا الابتعاد عن موبايلها أو تجاهله، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل. هذا هو حالها مع هاتفها الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من يومياتها بكل تفاصيلها، والذي عن طريقه أصبحت سبل التواصل مع الأهل والأصدقاء أكثر سهولة وإن باعدت بينهما المسافات.
تقول وفاء “يستطيع المرء الآن بكبسة زر أو بضغطة على لوح الموبايل أن ينهي أعماله بسهولة، يدير شركاته ومهامه. وإن كنت ممن يشجع على التقليل من استخدام الموبايل خصوصا أثناء التجمع العائلي أو غير ذلك من المناسبات التي تستدعي أن يلتزم فيها المرء ببعض السلوكيات الصحية إلا أن الموبايل أصبح حقيقة جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية..”.
وتضيف “سابقا كان استخدامي له فقط من أجل الاتصال أو إرسال الرسائل النصية، الآن أقرّ بأني أصبحت أكثر ارتباطا به؛ يومياتي، جدولي الصحي، نصوصي، بعض الذكريات المقروءة والمنظورة كلها في هذا المخلوق. الأمر زاد إلى أن الموبايل فتح أذهاننا على عالم آخر لم نكن نعرف عنه إلا القليل، كما أنه جعل العالم قرية واحدة، قرّب كل بعيد، ومهّد الطريق لمعرفة كل غريب. لقد استطاع أن يجعلنا أسراه، حتى وإن أنكرنا الأمر”.
وتتابع “سابقا كنت أحتفظ بكل الملاحظات والأرقام والأسماء في دفتر صغير. الدراسة التي كانت تستهلك منا الأوراق والكتب والتدوينات. الآن أصبحت كلها في بطن هذا الجهاز. كذلك الأمر بالنسبة إلى النصوص التي كنت أدوّنها في دفتري، الآن أصبح الموبايل أول حاضن لها.. كيف لا وهو الذي سهّل علينا حمل أجهزة اللابتوب أو دفتر الملاحظات طوال الوقت. الموبايل أصبح كاتم أسراري. إنه جزء من حياتنا وعلاقاتنا الخاصة جدا، والسرية جدا جدا. أذكر جيدا كيف أني أعود إليه بقوة بعد أن أظل بعيدة عنه لأسبوع كامل كل شهر (نحن أسراه). وفي ما يخص الكتابة، فالموبايل سهّل وصولي إلى القارئ، ووصول نصوصي إلى دور النشر، وحسابات التواصل التي عن طريق الموبايل استطاعت أن توصلنا إلى أكبر شريحة في العالم”.
لعنة الموبايل
ترى الشاعرة البحرينية جنان العود أن اختراع الموبايل لعنة أكثر من كونها نعمة، وتكره فيه سهولته العالية، بحيث إنه جعل كل شيء بسيطا، متاحا، وخفيفا. ومن خلاله صار الناس منفتحين على الكثير من الترهات التي لا تسمن ولا تغني، والتي لا أساس لها من الصحة. تقول “عبر شاشة الموبايل الصغيرة التي تنير لك متى ما أردت بمسحه خفيفة من طرف إصبعك ستكون في كل مكان من قريب أو من بعيد. نظرة واحدة لشاشة موبايلك في الصباح كفيلة بأن تسبب لك الغثيان. نظرة واحدة ستخطفها لترى الخبير والمثقف والناشط وأخصائي التغذية والعالم الروحاني والرياضي والفاشينستا وغيرهم.. ما أسهل ذلك! ناهيك عن النفسيات المتعددة فهنالك النرجسي والمتيم والمغرق في الكآبة والمحب للقهوة وغيرهم من الأصناف المملة. وكثرة النظر إلى تلك النماذج قد تسبب للمرء الانزلاق في التفاهة بعد فترة من الزمن بشكل لا واع″.
وتضيف “لا ننكر وجود إيجابيات كثيرة لاستخدام الموبايل، كالتواصل السريع واختصار المسافة. لكن، شخصيا لا أحبذ استخدام الموبايل طوال الوقت ولا سيما أثناء الجلوس مع العائلة، أو في وقت القراءة والكتابة، أحرص أن أضعه في مكان بعيد عني حتى أمنع نفسي تماما من النظر إليه. أحمله في حقيبتي أينما ذهبت لدواعي الاتصال. وقد أتفقد بعض الرسائل وأردّ عليها سريعا، وآخذ جولة خاطفة في الفيسبوك والإنستغرام من باب معرفة الجديد من الأخبار بشكل عام، أو لنشر بوست بين حين وآخر. لكن لا يصل الأمر عندي إلى حد الهوس أو السيطرة”.
تقف العود في استخدامها الشخصي لموبايلها ضد تصوير كل شاردة وواردة في الحياة وترى في ذلك خنقا للحظات من عنقها، فمن المهم جدا -بحسب رأيها- أن نعيش كل لحظة كما هي ونستمتع بها. تقول “من المهم أن يحصن المرء نفسه من كل هذا الهراء فلا يغدو أسيرا للموبايل، وتلك فكرة مضحكه على العموم. بإرادته يستطيع أن يحافظ على توازنه وصفاء ذهنه وتركيزه عبر تقنين استخدام الموبايل قدر الإمكان. يظل التواصل الشخصي والتخاطب وجها لوجه بعين مفتوحة أقوى وأصدق من عبارات تكتب على عجل متبوعة بالإيموجيز التي يتداولها الجميع، ولا تمتلك أي خصوصية أو عواطف واضحة. ماذا سيحدث لو أن هذه الأعناق المنكبة على الموبايل ارتفعت قليلا لمشاهدة فيلم جيد، أو لقراءة كتاب مهم؟ أو ربما لتنفس هواء نقي أثناء هرولة في الممشى؟!”.
علاقة وديّة
تربط القاصة اليمنية انتصار السري بهاتفها المحمول علاقة ودّ، وبحسب وجهة نظرها فإن العالم في العصر التكنولوجي والتقدم العلمي صار كقرية صغيرة تحملها داخل جيبك أو حقيبتك، وهذا هو ما يمثل لها هاتفها المحمول الذي صار جزءا من أساسيات الحياة. تقول “في البيت، في العمل، كل شيء صار يعتمد عليه، لم يعد فقط مجرد اتصال، بضغطة زرّ يأتي صوت من نتصل به عبر الطرف الآخر، بل صارت بداخله مكتبتي الإلكترونية التي ترافقني في كل مكان أذهب إليه، وفيه مفكرتي، فما عدت أفكر في حمل قلم لتدوين أي فكرة تحاصرني أو أبحث عن ورقة بيضاء لتدوين تلك الفكرة بين بياضها، أسجل كل مواعيدي فيه، وكذلك نصوصي الأدبية. منه أتصفح صفحتي، وصفحات زملائي حتى جعلني أستغني عن الكمبيوتر. فبداخله أكبر ذاكرة لتخزين صوري التي أحتاجها في أي وقت، وكذلك مكتبتي السمعية والبصرية من أغان وأفلام فأقضي أطول وقت معه”.
وتضيف “في هذا الزمن لا أظن أنه من الممكن الاستغناء عن الهاتف المحمول، وأجزم أن هناك أشخاصا صاروا مدمنين على استخدمه، وخاصة عند تحميلهم برنامج الواتساب، والبرامج المختلفة التي يحتويها. قد يكون برنامج الواتساب يسهل لنا عملية الاتصال والتواصل، لكنه يورطك بتدفق الرسائل من المجموعات المختلفة التي يقحمك بداخلها أشخاص دون رغبة منك، فتنهال عليك رسائل قد تستفيد منها وقد لا تستفيد، وأغلبها تشغل وقتك فقط. ومن عيوبه أن البعض يحمل في جوفه الألعاب الإلكترونية التي تدمر عقول الأطفال، وتنهب أوقاتهم، وتضيعها دون أي فائدة. بصدق أقول لقد صار الهاتف داخل البيت يفكك الأسرة، ويجعل كل شخص في عالمه الخاص به؛ لا تفارق عيناه وتركيزه شاشة الهاتف، بل إنها تسرق نظره وصحته، ومع ذلك لا نقدر أن نستغني عنه وعن خدماته”.
تحطيم حاجز الأبوية
الشاعر السعودي قاسم المقبل يقدّم مداخلته بصور شعرية متخذا من عوالم الموبايل منطقة سحرية لآفاق هائلة من الأسئلة الخاصة بكينونته. يقول “يرقد بقربك، يومض فينهمر على الروح شعاع البهجة، قد تستعيض عن المرآة به، ولكنه في الجهة المقابلة قد يكون حضنك الدافئ للعزلة، وملاذك الأثير رغم صلابته وصغر حجمه. فما الذي يشدّك إليه؟!”.
ويتابع “كثيرا ما تنقلنا في معارض الكتب على امتداد الخارطة باحثين عن بعض العناوين الأثيرة لقلوبنا إلا أننا نصطدم بجدارين خانقين: جدار الرقابة والمنع للتابو المحرم (الدين، الجنس، والسياسة)، أو بالجدار الاقتصادي بما يمثله من أسعار نارية للكثير من الكتب. فما عساك أن تفعل -رغم محبتك لتحسس الكتاب وشمّ عبقه وشهوة احتضانك له- أنت حتما ستفكر في الخيار الأسهل، وسوف تنقر النافذة المضيئة التى تفتح لك العالم هاربا من عيون الرقيب وقيود الاقتصاد”.
وفي ذات الشأن يرى المقبل أن الأجهزة اللوحية هيأت الأرضية الخصبة لتحطيم حاجز الأبوية الثقافية التي كانت تتسيّد المشهد الثقافي العربي. يقول “كثيرا ما كان يقع الكاتب المبتدئ أسيرا لسلطة المثقف الأب، فهو الذي يجيز له الدخول إلى هذا النادي النخبوي، هذا بطبيعة الحال بعيدا عن مدى جاهزية المنتِج ثقافيا وإبداعيا من عدمها، فهذه الفسحة من الضوء تعني الفرصة الكبيرة لنشر ما يكتب دون أي حاجز أو كلفة كبيرة ما يحتاج إليه هو الاتصال بالإنترنت، فها هو ذا السيل الجارف من النصوص بمختلف مشاربها ومآربها يأخذك، وقد يستدعي انتباهك أو لا، بيد أنه موجود، مما يعني الانعتاق الثقافي بالنسبة إلى المنتج وهدم الحواجز (ورقية أو غيرها) بينه وبين المتلقي، فكم تمنينا أن نلتقي أو نكون شاهدين على محاضر ما أو ندوة أو أمسية أدبية، ولكننا انكفأنا على حسرتنا وعلكنا مرارة التمني، كان ذلك بطبيعة الحال قبل دخولنا إلى عالم الأجهزة الذكية والإنترنت”.
عضو إضافي
من جهتها ترى الشاعرة السعودية روان طلال أن “الأمر يبدو وكأننا استيقظنا يوما بعضو إضافي، أو نافذة مفتوحة باتجاه العالم.. نافذة مفتوحة على مصراعيها. وكأي بداية، محاولات عديدة لخلق الحدود ورفض الاندفاع نحو ما هو أكثر، وبصرامة المبتدئ: فلتكن فسحة لا أكثر. ثم حدث كل ذلك فجأة، الأصدقاء الأكثر شبها بنا، محادثات تدور حول أشياء عدة، المسافات تطوى، والشعور القديم بالوحشة ينطفئ. كانت هذه الشرارة الأولى وبتحفظ سرعان ما بدأ يتلاشى، عبرنا إلى ما هو أكثر. أيام عديدة تلت ذلك، لم يعد مجرد شعور بالاعتياد، الأمر أشبه ما يكون باحتياج غير مفهوم.. ولكن كيف حدث هذا؟ تسرّب عبر صفوف الدراسة والعشرات من الأسئلة الطارئة والكلمات التي تبحث عن معنى، فالكتب الممنوعة والتي ببساطة يمكن حملها في الجيب، ومن ثم شبكات التواصل الاجتماعي ومشاركة كل ما هو يومي. قصص حب طارئة، أصدقاء في دول عدة، ماراثون كتابة لا ينتهِ، واحتجاجات ترمي كل ما يمثل قيدا. العشرات من التطبيقات، بين تطبيق يطوي المسافة ويقرّب البعيد، إلى آخر ينبه بكل ما هو جديد في الشارع والأدب والعلم، مرورا بما يعمل كداعم للذاكرة البشرية التي قد تخونها اللحظة. المئات من الصور تحتفظ بمكانها في الجيب، فيما الخرائط تنير الطريق نحو البيت، والموسيقى تخلق مدى أرحب. وبينما الحياة تبدو ما قبله شبه مستحيلة، فوجوده الآن جزء لا يتجزأ من روتين الحياة، انصهر العالم المحمول في الجيب مع أيامنا البسيطة المعيشة”.