المأزق الراهن للسينما العربية
كان المقصود بـ"السنيما البديلة" مثلا، الإشارة إلى مجموعة الأفلام التي ظهرت في تونس والمغرب والجزائر ولبنان وسورية واعتُبرت أنها في مواجهة محتومة مع السينما المصرية في تيارها العريض الذي يطلق عليه تارة "التجاري"، وتارة أخرى "السائد". ولكن المشكلة أن هذه التجارب التي نشير إليها في تلك البلدان ظهرت وبرز مخرجوها، بفضل الدعم المباشر الذي كانت تتلقاه من الدولة في تلك الفترة، بل وقد ظهرت في مصر في زمن "القطاع العام السينمائي" الذي كانت تديره وتموله وتشرف عليه الدولة، أفلام كثيرة اعتبرت من أفضل الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية في تاريخها، أيضا بفضل الدعم المباشر من الدولة واستجابة للزخم السينمائي الذي كان قائما خصوصا بعد بدء تخريج دفعات من معهد القاهرة للسينما في منتصف الستينات وما بعدها.
إذن فالقول إن "السينما البديلة" مثلا كانت ترمي الى نفي السينما المصرية، فيه الكثير من الخطأ، فقد كان التعميم، أي القول بسينما مصرية على إطلاقها دون التفرقة بين مساراتها المختلفة وتياراتها المتعددة، يؤدي بالضرورة إلى الوقوع في تلك النظرة القاصرة التي عجزت في وقت من الأوقات وسط غمرة الحماس للتجديد والجديد عقب هزيمة 1967، عن رصد وتمثل والاستفادة من- الأسباب العضوية التي أدت إلى انتشار الفيلم المصري (الذي أصبح يطلق عليه الفيلم العربي) في البلدان العربية كلها من المغرب الى الكويت، وقتما كانت السينما في تلك البلدان لاتزال تحت السطح، بل وحتى بعد أن أصبحت هناك أفلام محدودة العدد تظهر سنويا هنا وهناك، ظل للفيلم المصري بنجومه وحبكاته، سحر وجاذبية ربما تماثل جاذبية الفيلم الأميركي عند جمهور البلدان الأوروبية التي يصنع سينمائيوها أفلاما لا تحقق النجاح الجماهيري نفسه رغم انها ربما تتفوق على الفيلم الأميركي في تحررها من القولب والأنماط.
ولعل من ضمن المشاكل العميقة التي أدت إلى عجز الأفلام العربية- غير المصرية، عن الوصول إلى جمهورها الطبيعي، أي داخل البلدان التي تنتج فيها، أن الغالبية العظمى منها خضع، ولايزال، لفكرة أن المخرج- المؤلف أفضل من المخرج المنفذ، وهي مقولة من الممكن أن تكون صحيحة نظريا، أي أن المخرج صاحب الرؤية السينمائية الذي يكتب موضوع فيلمه بنفسه لكي يعبر من خلاله عن نظرته للعالم، من خلال تأمل اجتماعي أو فكري أو فلسفي، يعبر تجسيده بالصورة والصوت ومن خلال تعبير مبتكر وخلاق، أفضل من الأفلام التي تصنع طبقا لحبكة مقررة سلفا، مضمونة النجاح يجب أن تحتوي على عناصر عدة تتصف عادة بالإثارة وتعتمد على النجوم من الممثلين والممثلات. لكن المشكلة الحقيقية أن معظم أفلام المؤلفين العربية تكتفي بالحصول على هذا اللقب نتيجة إصرار المخرج على كتابة السيناريو بنفسه، دون أي مشاركة من جانب كتاب آخرين محترفين يتمتعون بفهم للدراما السينمائية، واكتفاء برغبة المخرج في أن يكون هو صاحب الفيلم الأوحد، ولكن دون أن يمتلك الرؤية البصرية والفكرية العميقة التي تكفل للفيلم النجاح وكذلك دون ان يتمتع بالشكل الجذاب الذي يصل من خلاله للجمهور، وإن وجدت بالطبع، بعض الاستثناءات هنا وهناك.
الفيلم الجزائري "السطح" لمرزاق علواش
غياب كتاب السيناريو
هذا التشبث بنهج سينمائي معين طموح دون امتلاك الأدوات وأساسا، الموهبة، أدى إلى إهمال كتابة السيناريو في ظل ندرة وجود كتاب سيناريو متخصصين محترفين يكتبون أو يشاركون المخرجين كتابة أفلامهم وتطوير مساراتها الدرامية. وفي الوقت نفسه اعتمدت أفلام السينما العربية التي ظهرت في تونس والجزائر وسورية ولبنان على النقد السياسي وأهملت كثيرا جانب "المتعة" في الفيلم، أي ضرورة أن يحتوي الفيلم على قدر من التسلية وإمتاع المتفرج. فما السينما في نهاية الأمر، سوى فن رواية قصة بطريقة شيقة. فإذا بدت الأفلام في معظمها، مضطربة، جافة، خاوية، ممدودة ممطوطة بطريقة مفتعلة، لا تتحدد فيها شخصيات رئيسية واضحة، ولا تتمتع بوضوح الفكرة والهدف وتتمحور حول موضوع يجذب المشاهد من البداية أو يثير اهتمامه، يكون من الطبيعي أن تبقى هذه الأفلام أفلاما للعرض في المناسبات، وأكثر هذه المناسبات أهمية لدى السينمائيين- وليس بالضرورة لدى الجمهور- هي المهرجانات والتظاهرات السينمائية التي تقام في العالم العربي. وبعد عرض هذه الأفلام في المهرجانات سرعان ما تذهب إلى المخازن.
تجربة السينما السورية والعراقية والجزائرية منذ السبعينات على الأقل، اعتمدت بالطبع على هيمنة شبه كاملة من الدولة، فهي المنتج والموزع والرقيب، وأصبح السينمائي شبه موظف يعمل عند الدولة، وغير مسموح له بالعمل سوى فيما تقرره الدولة التي تدفع له راتبه ومكافآته، وإذا أتيحت له فرصة العمل في مشروع من الانتاج المشترك مثلا، تسعى الدولة الى عرقلته، ويصبح عليه أن يغادر لكي يمكنه انجاز مشروعه الأكثر طموحا عادة ولكن هذا المشروع سرعان ما يتم منعه من العرض في الداخل بل وأحيانا أيضا، منع مخرجه من العمل!
تجربة السينما السورية والعراقية والجزائرية منذ السبعينات على الأقل، اعتمدت على هيمنة شبه كاملة من الدولة
لهذه الأسباب مثلا توقفت "السينما العراقية" تماما عن العمل في ظل نظام حزب البعث، الذي كان يطلب فقط أفلاما تحمل صبغة دعائية مباشرة، وحدث شيء مماثل، وإن بدرجة أخف قليلا، في سورية التي تمتع فيها السينمائيون المجددون مثل أسامة محمد ومحمد ملص وعمر أميرالاي وغيرهم في فترة ما، بهامش نسبي من الحرية، لكي تتباهى مؤسسة السينما الحكومية بعرض أفلامهم في التظاهرات الدولية، لكن هذه الأفلام نفسها كان مصيرها في معظم الأحوال، المنع من العرض في الداخل رغم انها من إنتاج مؤسسة السينما الحكومية.
نتيجة لهذه التراكمات المريرة كلها أصبح الحديث عن "السينما العربية" اليوم حديثا تنقصه الدقة العلمية، فالواقع يقول لنا إن معظم ما ينتج من أفلام من إخراج سينمائيين ينتمون الى العالم العربي، يتم تمويله أو حتى إنتاجه بالكامل، من أوروبا، بل ويخرجه أيضا عدد كبير من المخرجين العرب الذين اختاروا الحياة في المنفى الأوروبي بعد أن سُدت أمامهم السبل وانعدمت فرص مواصلة اخراج الأفلام في بلادهم العربية الأصلية. ومن هؤلاء على سبيل المثال مرزاق علواش من الجزائر، وأسامة محمد من سورية، وميشيل خليفي من فلسطين، وسمير نصر من مصر، وعبد اللطيف كشيش من تونس، ومعظم السينمائيين العراقيين.
وقد بدأ عدد من المهرجانات السينمائية التي تقام منذ سنوات قليلة في العالم العربي في تخصيص أموال لدعم الإنتاج الجديد من الأفلام الروائية والتسجيلية، وإتاحة الفرصة أمام عدد متزايد سنويا من السينمائيين الشباب لصنع أفلامهم. هذا ما يقوم به مهرجان دبي ومهرجان أبوظبي ومؤسسة الدوحة للأفلام بعد توقف مهرجانها السنوي. ولاشك أن هذا التوجه من أهم ما حدث من تطور في "فلسفة" مهرجانات السينما العربية، أي أنها أصبحت ترى ضرورة تقديم الدعم الذي يكفل ظهور سينما ناشئة لاتزال حبيسة تبحث لها عن مخرج، فضلا عن مجرد استهلاك الأفلام التي تصل إليها في العرض على الجمهور لبضعة أيام وينتهي الأمر. إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه كل باحث موضوعي يدرس تجربة صناديق الدعم الذي تقدمه مهرجانات الخليج، يجد أن هذا الدعم يصل عادة، إلى سينمائيين لا يتمتعون بالموهبة الحقيقية البارزة، ولا تشي السيناريوهات التي يتقدمون بها بتألق في الفكر وطموح حقيقي في الشكل، بل تبدو في معظمها- مع استثناءات قليلة معروفة جيدا- جافة، ممدودة، مسطحة، لا تتمتع بأي جاذبية. ويبدو كذلك أن عملية توزيع الدعم تخضع لمنطق تحقيق توازن ما في عملية تقسيم المال على المخرجين الذين ينتمون إلى الجنسيات العربية المختلفة، أكثر مما تخضع لدعم المواهب الحقيقية بغض النظر عن جنسيتها، ومن خلال لجان فنية متخصصة خبيرة تتمتع بالنزاهة والاستقامة والمعرفة- وأساسا- فهم السينما!
المخرج السوري محمد ملص
منافذ العرض
هناك أحاديث كثيرة ممتدة وموائد مستديرة ومناقشات تقام لها الندوات وتعقد المؤتمرات عن السينما العربية، وعن السينما في العالم العربي. ولكننا لا نتوقف لكي نتساءل فقط: وهل هناك أصلا منافذ حقيقية في العالم العربي لتوزيع وعرض الفيلم العربي؟ هل يصل الفيلم العربي إلى الجمهور الناطق بالعربية في المشرق والمغرب؟ بل وهل يصل الفيلم العربي إلى الجمهور المحلي داخل الدولة التي يُنتج فيها؟ وكيف سيصل إذا كانت دور العرض، وهي النوافذ الطبيعية لـ"السينما" والأفلام، أغلقت أو تقلص عددها أو أصبحت في طريقها إلى الإغلاق في معظم الدول العربية؟ وإذا كانت مصر أكبر الدول العربية من ناحية تاريخ وحجم الإنتاج السينمائي مع وجود شريحة كبيرة من العاملين في الصناعة السينمائية بحكم توفر استديوهات التصوير السينمائي ومعامل الطبع والتحميض وغيرها من اعمال البنية الأساسية الضرورية لأي صناعة، فماذا عن دور العرض التي تناقصت حتى وصلت اليوم الى أكثر قليلا من مائة شاشة للعرض في عموم البلاد التي يصل عدد سكانها الى تسعين مليون نسمة. وهل هذا معقول علما بأن بلدا مثل فرنسا يتمتع بوجود أكثر من 4400 شاشة للعرض!
إن الجزائر التي كانت تتمتع بأكثر من 400 دار للعرض وقت أن رحل عنها الاستعمار الفرنسي في أوائل الستينات من القرن الماضي، أصبحت حاليا لا تتوفر على أكثر من 12 دارا للعرض. والأمر ليس أفضل كثيرا في تونس ولبنان والمغرب والعراق والكويت. وهو ما يجعل السوق السينمائي العربي حتى بفرض تمكنه من استقبال الأفلام "العربية"، سوقا هامشية لا تمثل قيمة مالية لدى المنتج والموزع، المحلي أو الأجنبي. وتصبح المراهنة على قنوات التليفزيون "الأجنبية" هي الحل الأمثل اليوم للحصول على التمويل، أي بيع الحقوق لمثل هذه القنوات مسبقا. ولكن ماذا عن قنوات التليفزيون العربية؟
حالة التليفزيون
هناك اليوم ما يقرب من 800 قناة تليفزيونية فضائية عربية تصل لجميع العرب في العالم العربي وفي أوروبا وأميركا عبر الأقمار الاصطناعية. وتخصص هذه القنوات مساحات واسعة لبث الأفلام، معظمها مكرس في الحقيقة لعرض الأفلام الأجنبية. ومن بين هذه القنوات عدد ملحوظ من القنوات المتخصصة فقط في عرض الأفلام. فماذا قدمت هذه القنوات لدعم صناعة السينما في العالم العربي؟
الفيلم الإماراتي "من ألف إلى باء" للمخرج علي مصطفى
هناك دون أدنى شك فارق كبير بين تجربة القنوات التليفزيونية في فرنسا وإيطاليا والمانيا وبريطانيا والسويد وهولندا وغيرها، وبين نظيراتها في العالم العربي. فالسينما الإيطالية مثلا لم يكن ممكنا ان تستمر وتواصل إنتاج أكثر من مائة فيلم سنويا، سوى بفضل دعم شبكة قنوات "راي" RAI التليفزيونية وغيرها. وكذلك الحال مع قناة بلوس الفرنسية، وبي بي سي والقناة الرابعة الإنكليزية، وزد دي إف الألمانية. ورغم أن السوق السعودية هي أكبر سوق عربي مستهلك للميديا الجديدة وخصوصا الشرائط والاسطوانات والأغاني واسطوانات الأفلام المدمجة وغير ذلك، إلا أن الدولة تحظر منذ نحو أربعين عاما، وجود دور العرض السينمائي وبالتالي عرض الأفلام من خلال دور السينما، فيظل المتنفس الوحيد هو التليفزيون، لكن قنوات التليفزيون العربية وعدد كبير منها يدخل في تمويله المال السعودي، لا يخصص قسطا منه لدعم الإنتاج السينمائي سواء داخل أم خارج الخليج، أو حتى لانعاش ما عرف في الماضي، بـ"الفيلم التليفزيوني" الذي يمكن عرضه أولا في دور العرض قبل أن يعرض على شاشة التليفزيون. وقد ظهر ما أعتبر أول فيلم روائي طويل من السعودية وهو فيلم "وجدة" للمخرجة هيفاء المنصور، من الإنتاج الألماني شبه الكامل، وبمعاونة تقنيين من الألمان في مجالات الصوت والمونتاج والتصوير بل والموسيقى. وهي خطوة لاشك في أهميتها، ولكن ما هو الموقف الرسمي الآن من هيفاء المنصور، وهل ستقدم لها الجهات الرسمية السعودية الدعم لاخراج فيلمها التالي؟ وماذا عن المواهب الأخرى داخل السعودية وبلدان الخليج بشكل عام؟
ربما تكون الإمارات هي الأكثر تحركا ونشاطا في مجال دعم تجارب الشباب سواء من خلال أفلامهم التسجيلية أو الروائية القصيرة. بل وقد شاهدنا أخيرا فيلما إماراتيا طويلا يحاول أن يصل بموضوعه وأسلوب اخراجه، إلى أكبر قطاع من الجمهور، هو فيلم "من ألف إلى باء"، وهو فيلم كوميدي يخضع لأسلوب "أفلام الطريق" فأبطاله يعبرون خلال رحلتهم الطويلة على أكثر من بلد عربي حيث تتاح الفرصة لتوجيه نقد ساخر لبعض المظاهر في تلك البلدان.
أما إذا عدنا إلى الموقف الحالي في سورية والعراق مثلا، فسنرى أن السينما قد توقفت توقفا شبه تام فيهما حاليا، بعد كل ما شهدته الدولتان من أحداث ووقائع عنيفة دامية. وقد تضررت صناعة السينما المصرية كثيرا في أعقاب الاضطرابات التي شهدها ولايزال، الشارع المصري. وخفتت السينما في تونس والجزائر، وإن واصلت تقدمها في المغرب اعتمادا على الخضوع لشروط الانتاج المشترك مع فرنسا تحديدا دون أن تصل أفلامها الى الجمهور المغربي. وفي ظل منافسة شرسة من جانب وسائل الإعلام المصور الجديدة مثل مواقع الانترنت ويوتيوب، وسهولة الوصول إلى آلاف الأفلام من كل الأنواع عبرها، تتعرض السينما في العالم العربي حاليا، إلى ضربة شبه قاضية، فعدد من يشاهدون شريطا قصيرا يعرض عبر يوتيوب ويتم تناقل الأنباء الشفوية عن أهمية ما يصوره ويكف عنه، كفيل بدفع ملايين العرب الى مشاهدته والتفاعل معه، في حين أن الفيلم الروائي أو التسجيلي العربي أصبح مكانه الوحيد الآن.. يقع في العالم الأوروبي. أي خارج نطاق التأثير على جمهوره الطبيعي وهذا هو المأزق الحقيقي.