المثقف الجزائري: الدور وسؤال المعنى
في مواجهة الواقع الجزائري اليوم نجد أنفسنا نقول ما سبق للمرحوم بختي بن عودة كتابته “قد نقول ما معنى أن تكون مثقفا وسط الجحيم التالي: (الشفوية، قوى الماضي، الغموض، الأقنعة، الصراخ، الاستحالة، القتل، الانكسار، النكوص…الخ).. وما معنى أن يظل المعنى هو نفسه غائبا ما دام المثقف هو الباحث عن المعنى والمنتج له، ألسنا أمام إشكال آخر لا نتوفر على لغة جديدة لتسميته، كيف نسمي وكيف يكون الفكر حاضرا في صميم التسمية؟”.
هو السؤال الذي يستمر مطروحا، سؤال عن المثقف وعن النخبة، وفي كل فترة تطرح مفاهيم ومصطلحات وأطروحات مرتبطة بالسياق وما يكتنفه من ملابسات.
في مطلع ثمانينات القرن الماضي ومع بداية تشكل إرهاصات ما سيعرفه العالم من تحولات صاحبتها الخيبات والانكسارات ثم انبعثت محاولات إعادة البنينة والصياغة للتمثلات، طرح السؤال جزائريا عبر المنابر الصحفية وكان الطرح مقترنا مع أحداث كالربيع القبائلي ومع تناول إحدى دورات اللجنة المركزية للحزب الواحد لملف السياسة الثقافية.. وكل ما طرح وما جرى كان بالتعبير المسرحي بمثابة “بروفة” لما سينبثق من رحم الجحيم الذي دخلته البلاد واقترن ذلك أيضا بمتغيرات عالمية، تتابعت بوتيرة متسارعة منذ ثمانينات القرن الماضي أفرزت حيثيات أعادت صياغة التمثلات والصياغات.
وتناول المسألة في سياقنا يجعل كما قال محمد أركون “من المضجر وبلا أيّ قيمة أن نعود مرة أخرى إلى تلك المناقشات التي دارت في فرنسا حول هذا السؤال: ما هو المثقف؟”. طرح المسألة يعني حسب أركون “العودة إلى دراسة تطور مجريات تراث فكري ما وطريقة عمله ضمن سياقات تاريخية واجتماعية محددة تماما وخاصة به دون غيره”، وبالتالي ما حدث من تشكّل لما يسمّيه السياج الدوغمائي المغلق وهو ما جعل مهمة المثقف المسلم تختزل كما يذكر “إلى مجرد التعرف على الشيء، لا المعرفة الحقيقية به”.
وصلنا مرحلة هز بها الشارع الساكن وخلخل الجاهز واستدعى تبلور العقل الذي يمد الفعل بما يثمنّه ويحوله تغييرا حقيقيا مؤسّسا للتحوّل الذي يتضمن جدل القطيعة والاستمرارية، قطيعة مع الذي ساد حتى أباد، واستمرارية رأسملة ما تراكم.
المثقف الذي نعنيه، هو الذي حدده بيار بورديو بدور منتج الرأسمال الرمزي للمجتمع، الذي يجسد دورا في المجتمع، دورا من موقعه كمثقف ينتج وعيا والوعي هو محصلة تفاعلية ديالكتيكية، جدل بين المجرد والمجسد، تفعيل المجرد بتجسيده والعروج بالواقعي إلى مستوى المثل.
الوعي هو اختراق العابر وإبداع إمكانات التخلص من هيمنة العابر ومن التفاف السطحي.. هو بعبارة عمار مرياش “اكتشاف العادي”، هو كما يقول أركون “يتمايز عن الفاعلين الاجتماعيين الآخرين لأنه الوحيد الذي يهتم بمسألة المعنى”.
لاستيعاب موقع المثقف ودوره في الراهن الجزائري بكل تشعّباته والتباساته لا بد أن نضع في الاعتبار معطيات مرتبطة بما تراكم تاريخيا وما التبس بالمرحلة التي تلت حرب التحرير، مرحلة ما يسمّى ببناء الدولة الوطنية، وهي مرحلة انطلقت بنزعة شعبوية لها حساسية من المثقف النقدي، ولها نظرة محدّدة للدور المطلوب من المثقف، وهو دور لا يختلف عن دور المحافظ السياسي المكلف بالدعاية.
دون الاستغراق في تفاصيل لا يتسع لها حيز المقال، تمكن الإشارة إلى كتيّب للكاتب المرحوم عمار بلحسن، صدر بعنوان “مثقفون أم أنتلجنسيا؟”، وهو كتاب ضم مجموعة إسهامات لمثقفين في نقاشات عرفتها الجزائر في مطلع ثمانينات القرن الماضي.. والعنوان يختزل بتكثيف الإشكالية التي استمرت وباستمرارها كان الارتباك والانسداد.
رغم ما ذكر، سعى مثقفون في مراحل مختلفة إلى بلورة مبادرات ومحاولة الإسهام في صياغة وعي، ولكنهم واجهوا الحصار الناجم عن استمرارية المنطق الذي هيمن منذ استرجاع الاستقلال، منطق الشعبوية التي هي كما كتب الباحث التونسي محمد بن محمد الخراط “ظاهرة سوسيولوجيَّة وسياسيَّة تنتصر للأيديولوجي على حساب المعرفي، وللكمّي على حساب النّوعي والكيفي. هي نزعة التعصّب لفكرة لمجرَّد أنَّها تجد هوى في الأنفس ورضا في وعي البعض.. والمهمّ في تقديرنا أنَّه ليس للشعبويَّة أساس علمي، وإنَّما هي من قبيل الأفكار العامَّة التي تنتشر لتوافقها مع ميولات اعتقاديَّة لها رواج سوسيولوجي واسع″.
واجه المثقف احتكار الفضاء العمومي واحتواء شبكات المنظومتين الثقافية والإعلامية وغياب منابر ثقافية، وتبدد فضاءات التواصل والنقاش.
هناك أيضا معطى مرتبط بما تراكم تاريخيا وما نجم عن الإرث الكولونيالي الاستيطاني ثم تعزز بتكتيكات سلطة تعتمد تسيير التناقضات بما يخدمها، وهذا المعطى هو الانقسامية بين المثقفين باللغة العربية والمثقفين باللغة الفرنسية، وهي انقسامية ارتبطت بتموقعات سوسيو-سياسية وتشكلات مقاولاتية بالمعنى الذي لم يرتقي نتيجة الطابع الريعي إلى مستوى رأسمالية وطنية منتجة.
الانقسامية المذكورة تكثفت في تسعينات القرن الماضي وترجمتها مواقف المثقفين في مواجهة المحنة، وهي انقسامية مستغرقة في التسييج الأيديولوجي الدوغمائي بالتعبير الأركوني ومنفصلة عن الفتوحات الفكرية والإبداعية المهندسة للأفق.
كما اخترقت السلطة الوسط الثقافي وأججت الصراعات بين محاور مختلفة هي في الحقيقة امتداد للعُصب التي تشكل النظام.
بسبب هيمنة النمط الريعي تشكلت شبكة علاقات زبائنية فرضت هيمنة نماذج معينة ثقافيا، وهي النماذج التي تشوش على مساعي الفهم وجهد التأسيس للوعي.. فمؤخرا رغم كل ما تشهده البلاد واصل أحد مثقفي السلطة المستشار والسفير والوزير الأسبق محيي الدين عميمور الكتابة في مواضيع أخرى ولما سئل رد قائلا “أعرف أن كثيرين ينتظرون مني أن أتحدث عن التطورات الأخيرة في الجزائر، لكنني أقول دون أيّ تواضع كاذب أن المفكر السياسي (وتعبير المفكر هو مجرد اسم فاعل) لا يستطيع القيام بدور الكاتب الصحفي الذي يحلل الأخبار على الساخن أو المراسل الذي يشبع رغبة القراء في متابعة الأحداث، ومن هنا قررت أن أواصل الحديث بالمنظور الذي أردته، تاركا للرفقاء القيام بما عجزت عنه”.
هناك مثقفون بعضهم أصبح نجما في الميديا الغربية، ينتجون سرديات مستنسخة للسرديات الكولونيالية بإعادة إنتاج استعارات وتمثيلات وتمثلات نمطية ومنمطة، والتركيز على المثير والمستفز، وعلى التمادي في الغربة بالتعالي عن المجتمع وقولبته في قوالب محدّدة.
لكن تعرف الجزائر حراكا في الهامش وإرهاصات تشكلات وتمثلات منزاحة عن التنميطات المتوارثة.. تشكّل وعي متحرر من الأدلجة الدوغمائية ومنفتح على المتعدد، ومستوعب لرهانات الراهن وتحديات الآتي.. وهناك أيضا حضور بدأ يسجل لمثقفين من أجل تأكيد دورهم، وتأكيد انتصارهم لمعنى أن تكون مثقفا.
أعتقد أن ذلك مرتبط بهتك تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية للحجب وبتراكمات ما عشناه في تسعينات القرن الماضي، وما أفرزته التحولات العنيفة في المنطقة منذ بداية ما سميّ بالربيع العربي.
في فترات سابقة كانت تحركات فردية لبعض المثقفين الذين صاغوا بيانات ورسائل مفتوحة أو كتبوا كتبا أو مقالات.. وتحريا للموضوعية فإن البعض منهم كانت مواقفهم مرتبطة بارتباطات سياسية وأيديولوجية وبالأحرى بحسابات تكتيكية أي بحسابات السياسي وليس المثقف، ولهذا لم تحدث التأثير المنتظر.
الآن تتواصل بيانات المثقفين والجامعيين، والكثير منهم حاضر في المسيرات.. وهناك مع النشاط المذكور يسعى إلى تقديم قراءات استقراء واستشراف، وهي قراءات تتفاوت وتتعدد، لكنها تمثل زادا لبنينة الوعي.
هناك حساسية من كل ما له صلة بعشرية الدم، وإدراكا منها لذلك توظف السلطة ورقة الخوف من عودتها في مساعي فرض منطقها، لكن حذر المجتمع وانتباهه بلغ درجة أطاحت برهان السلطة، وهو ما أكدته مسيرات أذهلت من رصدها بحكمتها وانضباطها.. ودور المثقف هو أن يبقى جرسا ينبّه ويبدع ما يتشكل آليات تأمين اجتماعي.. وفي الحراك جاءت فرصة استثمار رائعة، استثمار لعودة وحدة وطنية تجاوزت ما كان يقلق في شهور سابقة من تنامي نزعات جهوية وعرقية غذتها ممارسات السلطة أساسا.. فرصة استدراك ما انفلت وإعادة تقييم وتقويم المسار بنقد ذاتي متبصّر ومؤسس على مواجهة ومكاشفة، فالمثقف أيضا مطالب قبل غيره بعلاج ذات أدركها العطب، والاعتراف بقصور وتقصير، قصور في قراءة واستقراء منحنيات التحولات، والعجز عن فك شيفرة مجتمع يتحول بسرعة وبكيفيات تجاوزت الرصد الممارس بآليات أدركها القصور، وتجاوز الشارع من يفترض أنهم من النخب تجاوزا مثّل بعبارة إطاحة الأندغرواند بالابستشلمنت.
دون ذلك النقد ودون استيعاب المجتمع والتمكن من فك شيفرات تواصله لا يمكن تحقق الدور المنتظر، بل حتى معنى المثقف يتبدد، مادام دوره مرتبطا بالمعنى أساسا .المعنى تحقيق مستمر ومفتوح، تحقيق مرتبط بالمراجعة لأن الحقيقة تكمن كما قال غاستون باشلار في حركة التصحيح.
دور المثقف وكما سبق التنويه، التبس بما تراكم، ولا زال دون المأمول في ظل هشاشة المجتمع المدني وضمور النخبة .