المثقف اليساري..طقوس وعقد وعجز فكري

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: حسين جمعان

هذه المتغيرات رافقها نشوء حالة ثقافية عربية فتيّة تطمح إلى التغيير، لكنها لم تضع مشروعها الثقافي النهضوي المكتمل المستقل، والذي يقطع مع الوعي الديني الذي ساد سابقاً، وينتقد التراث بوصفه تاريخاً يخص المنطقة العربية. وتوجه معظم مثقفي ذلك الوقت باتجاه التيارات السياسية السائدة، التي سمح الواقع المستجد بوجودها، حيث حظيت بشعبية كونها حملت شعارات وأحلام المرحلة في التقدم والتحرر. أي كانت التوجهات اليسارية، القومية أو الشيوعية، هي الطاغية على الوسط الثقافي العام؛ وبالتالي تأثر المنتوج الثقافي بالمد القومي والشيوعي أو بكليهما، وكان طَموحاً إلى التغيير، كما الأحزاب التي تشكلت آنذاك.

ومع صعود الأحزاب القومية إلى حكم البلدان ذات الأنظمة الجمهورية، مدعومة من البرجوازيات العربية، توقف التغيير وبدأت مرحلة الاستقرار؛ والتي، لأسباب محلية تتعلق بسيطرة أبناء الريف على مفاصل الحكم، أنتجت أنظمة ديكتاتورية وشمولية، قمعت كل المجتمع طيلة عقود، حتى أولئك الذين ينتسبون إلى أحزاب السلطة. ترافق ذلك مع انهيار التجربة الاشتراكية السوفييتية مطلع التسعينات، وتحول العالم إلى قطب رأسمالي وحيد، ينهب العالم، ويسيطر عليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً. وبذلك بدأت مرحلة الركود الثقافي العربي، وربما في العالم، حيث توقف زمن التغيير. هنا تحولت الأوساط الثقافية والسياسية العربية إلى أوساط منغلقة، ومنعزلة عن المجتمع والواقع، وتحول منتوجها الثقافي إلى نقدٍ سطحي للسلطة والمجتمع، عبر الكتابة الصحفية والأدبية، والفنون التشكيلية، والأعمال الدرامية..، ولكن ذلك النقد لم يلامس الأسباب العميقة لكلّ الظواهر والأحداث، خاصة مع وجود الرقابة الأمنية، ومع اكتظاظ السجون بمن يطالب بالتغيير، حتى لو كان تغييراً شكلياً يتعلق بديمقراطية ضعيفة تخص النخب السياسية، دون الشعب.

هذا الواقع أنتج وسطاً ثقافياً، يضم مثقفين حملوا الكثير من صفات السلطة الحاكمة، موالين أو معارضين لها، حمَلوا ديكتاتوريّتها وسلطويتها، وتعاليها على الشعب، وأنانية وفردانية ووصولية أفرادها. فكان الوسط الثقافي شديد الانغلاق على ذاته، وقد سماهم الشهيد مهدي عامل “بالكهنة”. عالم كهنة الثقافة هذا له طقوسٌ شكليّة تخصّه وحده، تتعلق بالهندام وأسلوب الحياة العامة والخاصة، والتعامل بسطحية مع المنتوج الثقافي.

الثورات العربية، والثورة السورية خصوصاً، أظهرت عيوب مثقفينا هذه، وعجزَهم الفكري، بل وعقدهم النفسية المتعلقة بالأنانية المفرطة والوصول إلى النجومية عبر ركوب الثورة، وكثيراً عبر الدخول في الهيئات المعارضة المرافقة لها أيّا كانت برامجها؛ ولن نتحدث هنا عن مثقفي السلطة، الذين كانت الثورة فرصة لهم لم يكونوا ليحلموا بها، للوصول إلى المكاسب والنجومية، عبر تمجيد النظام، وتحقير الشعب وثورته.

هؤلاء المثقفون لم يملكوا المنهج الجدلي في التفكير، حين كانوا يساريين، ولم يتعبوا أنفسهم في الخروج من ضيق وسطحية المنطق الصوري، ومنطق الثنائيات، ولم تكن مواقفهم وآراؤهم سوى ردود أفعال؛ فانتهاء التجربة الاشتراكية لم يعن لهم سوى فشل الماركسية، وبالتالي رفضها كلّياً، وحيث العجز الفكري بلغ مبلغه منهم، لم يتمكنوا من اختراع البديل، سوى بديل وهمي عن ليبرالية غير ممكنة في دول العالم المتخلّف في ظل الهيمنة الإمبريالية العالمية. الواقع أن هذا البديل ليس سوى اتّباع الهوى السائد، الذي تفرضه العولمة، والتأثر بما يُنشر عبر الإعلام، حيث أغلب المؤسسات الإعلامية المرئية أو المقروءة هي تابعة للشركات الإمبريالية، أو لمالكين على علاقة عضوية بأنظمة الحكم الملحقة بالدول الرأسمالية. لذلك يرى كثير من هؤلاء المثقّفين أن الحداثة هي للغرب الرأسمالي، وللوصول إليها علينا محاكاتها في كل المجالات.

وبالمثل الحديث عن تقبل إسرائيل، بحجة أن النظام فاقها وحشية؛ وغضُّ النظر عن احتلال تركيا لأراضٍ سورية، فقط لأنها تحتضن المعارضة، وتدّعي دعم الثورة، ولأن النظام انقلب عليها بعد سنوات العسل، وبات يسميها محتلة. وكذلك تحليل الصراع في سوريا بالأخذ بالبعد الطائفي لوحده كأولوية منفصلة عن الأبعاد الأخرى، الطبقية خصوصاً، وتبرير ذلك بوجود طوائف، في المجتمع وحساسيات بينها.

وبالمثل الموقف غير الواعي المهلل للانفتاح الاقتصادي، وحرية رأس المال الخاص، وضد القطاع العام باعتباره مسبب الفساد، فقط لأنه كان وسيلة نهب مسؤولي الدولة في مرحلة سابقة، متناسين أن مشكلة الفساد هي في انعدام الرقابة الشعبية على المسؤولين، وأن اقتصاد السوق الحر لن يقود إلا إلى رأسمال خاص احتكاري يستثمر في المجالات التجارية، ولا يبني صناعة وزراعة وطنية، بسبب تبعيته بالضرورة للرأس مال العالمي، وميله للربح السريع دون أن يكون معنياً بتحقيق التنمية وتأمين فرص عمل للجميع.

وكذلك التهليل للديمقراطية وحدها، والتي تعني بالنسبة إليهم مجرد صندوق اقتراع، بحجة أن الديمقراطية قادرة على تطوير نفسها وتحقيق الاستقرار، دون أن يلتفت هؤلاء إلى أن صندوق الاقتراع لا يعني أكثر من تبديل أشخاص الحكم وترسيخ النظام، وما يحدث في مصر وتونس والعراق وكذلك لبنان يدل على ذلك؛ الواقع أن المطالبة بالديمقراطية وحدها لم تكن سوى ردة فعل على شمولية الأنظمة، وتوريثها الحكم.

وكذلك فشل التنظيمات اليسارية السابقة في تحقيق شيء، بل وتحالفها مع السلطة طيلة عقود، وموقفها المخزي من الثورة، كل ذلك قاد مثقفينا السطحيين إلى معاداة فكرة التنظيم، واعتبارها سبب الفشل، ورفض مناقشة البرامج والرؤى المستقبلية بعمق وجدية، وبالتالي الغرق في فردانية وأنانية وتفلّت من كل الضوابط، لا تفيد ولا تحقق أي تقدم، بل كثيراً ما تقود أصحابها إلى اليأس.

وحتى نكون منصفين علينا القول بوجود مثقفين وباحثين وكتاب كثر، خرقوا حالة الاستكانة الثقافية هذه، ولديهم أعمال ودراسات منجزة هامة، ولها أهميتها كمراجع. رغم أن الكثير منها لا يخلُو من تعامل كتابِها بعقلية انتقائية للموضوع المدروس، حيث ينتقون ما يدعم أفكارهم المسبقة عنه، بدلاً من العكس، أي التحليل العميق لكل تفاصيل الواقع والخروج باستنتاجات جديدة؛ وبذلك يصبغون أبحاثهم ببعض الأمراض الثقافية المعاصرة.

وفي ظل هذا الوضع المزري للحالة الثقافية، وسيطرة المد الإسلاموي السياسي الذي يتميز بتنظيمه العالي وعقائده الصارمة، ويحظى بدعم من دول إقليمية، ينشأ جيل جديد من النشطاء اليساريين المنخرطين بالثورة وبالشأن العام، السياسي والاجتماعي والفني والثقافي… يحملون الكثير من عُقد أسلافهم الثقافية، وطقوسهم.. جيل يائس من كل عمل منظم، ويائس من العلم ومن الثقافة نفسها، ومتفلت من كل الضوابط رغبة في الثورة على الواقع البائس المزري.. جيل لا يقرأ ولا يستمع سوى إلى ما يداعب طموحه في الحرية، وفي التخلص من الاستبداد.

لا يمكن النهوض بالواقع الثقافي والمجتمعي نحو الارتقاء والتطور دون العمل المنظم والبرامج السياسية والاقتصادية الواقعية التي تعيد المثقف الجديد إلى جمهوره؛ هذه مهمة التنظيمات اليسارية، فأين هذا اليسار منها؟.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.