المثقف وأسئلة العصر
في فترة الدراسة الجامعية كنا نميز بين نوعين من المثقفين، مثقف عضوي راديكالي بسبب انتمائه إلى النشاط النضالي الحزبي وتمسكه بأبجديات الممارسة السياسية المنصوص عليها في المنشورات الثورية -وفق تصنيف غرامشي- وبين مثقف السلطة الذي اختار أن ينتسب إلى مشروع المؤسسة الحاكمة ليكون صوتها لدى الجماهير في مجال الكتابة وإنتاج المعنى وفق أجندة مناسباتية. لم يكن حينها التميز بين المثقف السلطوي والمثقف الأصولي قائما بشكل واضح بل هما -في الغالب- يحملان نفس الرؤية وينتجان نفس الخطاب بأسلوبين مختلفين.
غالبا ما كان مثقف السلطة هو من يحتكر، إلى جانب الفضاءات العمومية، قيم المواطنة والوفاء وشرعية الخطاب، في مقابل المثقف العضوي الذي لم يلق إلا التخوين والإقصاء بسبب عدائه لأيديولوجية الدولة الوطنية وأساليبها في معالجة الانشغالات الاجتماعية، بعد أن كان في الخمسينات والستينات من القرن الماضي هو من يمثل الخطاب الشرعي. نعم تغيرت الأحكام والمراتب بتغير موازين القوى.
سؤالنا اليوم هو هل تغير الوضع كثيرا؟ وهل التصنيف السابق يصدق على واقعنا المعاصر بعد انتهاء عصر الأيديولوجيات وتراجع الأصوليات المختلفة، وبعد أن ساهمت الانتفاضات الشعبية بدءا من 2010 في زعزعة مصداقية الدولة الوطنية وما تركته من منظومة معرفية كبيرة لا تزال تتحكم في كتابة برامج التعليم والإعلام؟
نحن نظن أن تلك الثنائية لم تعد تملك حظوظا كبيرة في تفسير الواقع في هذا الظرف التاريخي، وأن ذلك التصنيف لن يكون صادقا بما فيه الكفاية لو اخترنا الاعتماد عليه.
ربما نفضل -اليوم- تصنيفا آخر نظنه أقرب إلى الواقع يتمثل في الفصل بين مثقف في التاريخ ومثقف خارج التاريخ، بين مثقف نقدي يعيش مشكلات زمانه المعرفية أو الاجتماعية بوعي ومشاركة يسعى إلى الكشف عن الآليات الخفية التي تتحكم في إنتاج المعنى في واقعنا، وبين مثقف أصولي يرى في أسئلة الواقع المتغير اختبارا لوجوده الراكد والحالم، ولا يرى في حركية التاريخ إلا ذبابة تريد أن توقظه من نعاسه الجميل.
صار عندنا اليوم مثقف نقدي يعمل على تفكيك مجموعة كبيرة من المعطيات الفكرية والاجتماعية في سبيل تقديم قراءة أكثر وضوحا، ومثقف يتقمص دور الداعية ليعتقد في نفسه المسؤول الأول عن الغنم الضالة، ولا يرى في الوجود الاجتماعي إلا أخطاء تنتظر منه الوصاية.
إن الاختلاف هو بين من يبحث عن الحقيقة ولا يدّعي أبدا بأنه قد أدركها وبين من يرى الشيطان في كل شيء وهو وحده من يمتلك خاتم سليمان لتطويع ذلك الجن المارد، ثم يقر -ضمنيا- بعجزه عن المواجهة في غياب القاموس الجاهز الذي ورثه عن القرون الماضية.
ليس بالضرورة أن يمثل دور الداعية ذلك المتدين الكلاسيكي -دائما- بل قد يكون من بين المثقفين المحسوبين على التيار التقدمي أو ضمن الذين لم يفهموا الديمقراطية إلا بعد تجويفها من معانيها التاريخية. المشكلة هي في أسلوب الرؤية وفي مسافة التموقع من الحقيقة. فالدوغمائية والتعصب إلى الرأي وتعظيم الخطأ كلها معايير تتنافى والموقف النقدي.
يردد الكثير من الباحثين في -أيامنا- عبارة عودة الديني إلى الفضاء العام بعد غياب طويل، والمقصود هو عودة الخطاب الديني وانتشاره بين الفئات الاجتماعية. نحن لا نوافق على هذا التصور، ربما لقصوره الواضح في مقاربة الواقع، بل نقول بوجود مراحل عرفها الخطاب الديني وصور متعددة تميز بها خلال التاريخ فليس هناك غياب أو حضور، بل كل ما في الأمر هو انتقال من حالة إلى أخرى ومن وضع إلى آخر.
هي نفسها الحالة التي تميز بها الخطاب النقدي، فهو يتغير بتغير موازين القوي. قد يكون هو الخطاب السائد في مرحلة من التاريخ، أو عكس ذلك هو الخطاب المضطهد. لقد عرفت بغداد وقرطبة لحظات تاريخية عظيمة تعالت فيها أصوات العقل والإبداع لتشكل نموذجا لا يزال يلقى الإعجاب إلى يومنا هذا، ونقلت إلينا المدونات أخبار ما كان يحدث من لقاء ونقاش بين الطوائف والملل في بيئة اتسمت بتغليب لغة المنطق والعقل، لتأتي بعدها مراحل الردة وانتشار كبير لمجالس التفتيش وحلقات التكفير.
المثقف النقدي هو صاحب رسالة من نوع خاص، ليس من الضروري أن يستمر التعامل معها بمعايير المنفعة التي نستعملها مع السياسي أو كل نشاط ذو طبيعة إجرائية… للمثقف أسئلته وهواجسه فليس من المعقول أن نرى فيه بائعا للحلول أو ننتظر منه الحضور في كل مناسبة… يجب أن يعاد ترتيب المقاييس. رسالة المثقف لم تعد النهي عن المنكر والأمر بالمعروف… إذ قد يسهم بقلمه في تقديم تصورات حول مشكل اجتماعي أو سياسي ولكنها ليست رسالته الوحيدة.
قبل أن يحدثك عن فوضى المجتمع وتناقضات النشاط السياسي فإن المثقف النقدي يبدأ -اليوم- بالحديث عن فوضى التفكير والحدود المنهجية لبعض الأنساق المعرفية والتصورات. هو لن يحدّثك عن الواجبات والأحكام بقدر ما يشد بيدك للتفكير سويا في سياق عقلي أنجع يتجاوز الاختزالية المتوارثة عن المعطيات الأيديولوجية. هو لا يرى في السلوكيات الممنوع والمحرم بل التعدد والاختلاف، ولا يفكر ضمن الجاهز كما يريد له الأصولي، بل هو من يعلن الثورة على الجاهز ويسعى إلى تفكيك أصوله وكشف المسكوت عنه. ليس في نية المثقف النقدي تأسيس خطاب منته أو التشريع لبرنامج حياة، بقدر ما يهدف إلى تقديم صورة أوضح عن المجال المعرفي والسوسيولوجي بعدما يقوم بتنقيتها.
إن صورة الأب والنموذج الناجح الجاثمة في ذواتنا هي نقطة انطلاق المثقف النقدي الذي سيجد نفسه بسببها أمام تحد كبير. القبول بها يعني السقوط في التفاصيل، ورفضها يعني الدخول في صراع مع المحيط، وهنا يكمن سرّ معاناته.
أن نكون مثقفين اليوم يعني أن تكون لنا مواقف وليس مهنا نتعلمها لنسترزق منها. من المؤسف أن الكثير من المثقفين الأكاديميين اختاروا الابتعاد عن الكتابة النقدية لأجل الاهتمام بمقتضيات الدرس والمحاضرة أي الانغماس في التفاصيل، وهو ما يميز الكثير من الأقسام الجامعية في المنطقة العربية، ويؤهّل نسبة معتبرة من المتخرجين إلى تبنّي الخطاب الدوغمائي…إننا في أمسّ الحاجة إلى فئة طلائعية تؤسس لفكر نقدي جديد وتؤمن بضرورة إحداث القطيعة الفكرية مع المنهجية التقليدية. لا نعتقد أن المؤسسة الجامعية في منطقتنا العربية تتوفر على الإمكانات الكافية لصنع هذا النوع من النخبة في الظرف الحالي.
إذا كان خطاب المثقف التقليدي يتميز بالثبات معتمدا على منهجية السلف دون أيّ تحيين منهجي لمعطياتها بما يتطلبه الراهن أو لأن معطياتها تحكمها الضرورة التاريخية ولذا يصعب كثيرا الاحتفاظ بها كاملة فإن المثقف النقدي لن يكون إلا بإحداث القطيعة مع أجيال من التصورات، من خلال إنتاج خطاب يكشف المسكوت عنه ولا يتوقف عند الأسس والأصول بسبب قداستها بل يسعى إلى إعادة قراءتها وتبيان الخلل الذي أراد المؤرخ أن يخفيه عنا. وفي هذه الحالة لا بأس أن نشيد بجهود الدكتور محمد المسيح في كتابه الصادر سنة 2018 ”مخطوطات القرآن.. مدخل لدراسة المخطوطات القديمة” وجهود الباحث المغربي رشيد أيلال ”صحيح البخاري نهاية أسطورة ” لما لهذه البحوث من قيمة في كونها كانت السباقة إلى إعادة قراءة ما اصطلح على تسميته بالأصول والثوابت.
ونحن نتعمّد اختيار النموذج من بيئتنا حتى لا يقال إننا ننسخ أفكار الغرب لندمر بها دار الإسلام ونزيل بها مجد المسلمين وعزهم. الأسئلة التي ورثناها كثيرة ويصعب تعدادها، ولكن المشكلة التي نواجهها هي في قلة الجرأة وضعف الأدوات.
كثيرا ما يرتدي المثقف التقليدي ثوب المثقف الحداثي والنقدي ليخفي أهدافه الأيديولوجية أو أحيانا العنصرية والإقصائية، وهي ليست ميزة التقليدي -عندنا- فحسب بل موجودة وبكثرة في بلدان أوروبا. و لا بأس أن نشير إلى كتابات أودون لافونتان حول الرسول العربي، أو حتى سامي الذيب. فبالرغم من أن هؤلاء الباحثين يّدعون الانتساب إلى الرؤية العلمية والنقدية فهم لم يعيدوا سوى إنتاج خطاب القرون الوسطى الذي تميّز بتفضيل ثقافة المنتصر وإعلاء شأنها.
آن الوقت لفتح قارات جديدة من الأسئلة يساهم المثقف العربي فيها لأجل إعادة الاعتبار لوجوده المهدد بالزوال على حد تعبير أدونيس، مهدد بالانقراض لأنه عجز عن المشاركة في صنع تاريخه الراهن والمساهمة في إنتاج المعنى الذي غالبا ما يلجأ إلى استيراده جاهزا من مجتمعات أخرى.
مشكلة المثقف في المنطقة العربية واحدة، الانتظار المستمر أن توفّر له السلطة كل ما يحتاجه وتهيئ له المناخ والإمكانات وكأنه لا يعلم لأيّ سلطة ينتمي؟ لا نريد السقوط في أبجديات خطاب الإسلام السياسي بتعداد مواصفات إلزامية يتحلى بها المثقف النقدي، كأن نبدأ بجرد الخصال اللائقة والمباحة وتجنب المشبوهة أو المكروهة. ولكننا نسعى -بكل بساطة- إلى تقريب صورة النموذج الحي بوضعه بين هلالين.
فشلت الكثير من موجات الانتفاضة الشعبية في المنطقة العربية بسبب غياب المثقف النقدي الذي يعطيها معنى ويخرجها من سياج العاطفة والحاجة لتصبح مشروع مجتمع جديد. ربما لأن الظرف التاريخي وتسلسل الأحداث لم يوفر الوقت أو الفرص التي قد يحتاجها المثقف لإبداء رأيه بكل حرية، ورغم ذلك نعتقد أنه لا يزال في وسعه أن يقدّم الكثير.هذا هو عصرنا ولا خيار أمامنا إن أردنا أن نعيشه برؤوس عالية وبحضور حقيقي، علينا أن نمارس وجودنا ثقافيا هو أهم ما نحتاج إليه.
هل يمتلك المثقف العربي مشروعا معرفيا بمعزل عن الخطاب الأيديولوجي المتداول منذ خمسينات القرن الماضي أو قبلها بقليل؟ لا أعتقد ذلك ولا نتفق مع الأستاذ على حرب عندما ذهب إلى القول بأننا نساهم في صنع الحداثة من خلال مناقشة قضاياها عربيا. أظن أنّه فرق كبير بين أن تترجم مفاهيم كبيرة َأنتجها عقل غريب وبين أن نكون السباقين إلى توليدها من رحم بيئتنا.
ذلك هو ما يجعل من المثقف نقديا، أن يمتلك مشروعا لمجتمع ومشروعا للعقل.