المحاحون أو الكذابون
في عصر السوشيال ميديا تزداد الحروب المجتمعية، والاقتتال السياسي والحزبي والديني والطائفي وهلم جرًا، في خضم ذلك يميل الناس لأن يتعالوا أخلاقيًا على الآخرين، وخصوصًا أولئك الذين ارتكبوا نفس أفعالهم “المشينة”، ولكن بشكل أكثر فداحة، لماذا؟ لأن هذا التعالي قد يمنحهم تعزية زائفة بأنهم ليسوا بهذا السوء بل هناك من هو أسوأ منهم، أو قد يكون التعالي فرصة لجلد الذات ولو في صورة الآخرين.
ينسحب هذا التفسير تحت مصطلح قد يبدو غير مألوف لمعظم الناس، لكنهم قد مرّوا بتجربة أخلاقية معه، وهو مصطلح المحّاحّ، يعرف المحّاحّ في لسان العرب: بالكذّاب الذي يرضي الناس بالقول دون الفعل؛ وفي التهذيب: يرضي الناس بكلامه ولا فعل له، كما عرّفه الفيلسوفان جستن توسي وبراندون وارمك في كتابهما: المحّاحّ.. استخدام واستغلال الخطاب الأخلاقي، على أنه استخدام الخطاب الأخلاقي لحمل الآخرين على الاعتقاد بمكانة المرء وإقناعهم بأن لديه “جودة أخلاقية” واستحقاقا غير مشروط للاحترام والإعجاب من قِبل الآخرين، وذلك من خلال تحويل مساهمته في الخطاب العام إلى مشروع للتبجيل الذاتى والغرور والتعالي الأخلاقي [1].
على مدى السنوات الماضية يتفق علماء النفس أن الخطاب العام بدءًا من المحادثات العامة العادية إلى النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي، قد ازداد سوءًا وعدائية واستقطابا، حيث يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد ساهمت في خلق بيئات “غرفة الصدى”، يتم فيها تعزيز المواقف الأيديولوجية بشكل مستمر، مع القليل من التعرض لأفكار أخرى، علاوة على ذلك، يبدو أنه عندما يتعرض الناس فعليًا لوجهة نظر معارضة، فإن هذا التعرض غالبًا ما يزيد من الاستقطاب، وعلى الرغم من أن الاستقطاب قد يعزى إلى عوامل متعددة، وليس فقط إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو البيئات الرقمية عبر الإنترنت، ومع ذلك، هناك القليل من الخلاف مع فكرة أن الخطاب العام على منصات وسائل التواصل الاجتماعي عرضة بشكل خاص للصراع والغضب، حيث أن هناك عاملا محتملا تم فهمه حتى الآن كآلية دافعة محتملة في الاستقطاب والغضب في الخطاب الاجتماعي، ألا وهو الدافع البشري المتأصل في البحث عن الوضع أو الرتبة، أي ما يفسره الباحثون من منظور التعالي الأخلاقي (Moral Grandstanding) [2].
في الآونة الأخيرة، وصفت الفلسفة الأخلاقية ظاهرة البحث عن الوضع عبر الخطاب الأخلاقي بأنها تعال أخلاقي، وبالعودة إلى الأدب النفسي، من حيث المفهوم ، يشبه التعالي الأخلاقي إلى حد ما البنى الموثّقة سابقًا مثل اليقظة الاجتماعية، والتي تهتم بالرغبة في تصحيح وجهات النظر الاجتماعية غير الصحيحة للآخرين [3]، لكن المحّاحّ يرغب فوق كل هذا بالهيمنة والقوة من خلال المصطلحات المهمة والمثيرة للجدل للترويج الشخصي على فيسبوك وغيره من المنصات الرقمية، على سبيل المثال استخدام المصطلحات الرنانة، كالعدالة، الأخلاق، أو حقوق الإنسان أو الوطنية، لإقناع الآخرين بصفاته الأخلاقية، على سبيل المثال قد ينحاز المرء لاتجاه تغذية معين فيقول “أنا نباتي لأسباب بيئية وصحية”، بينما يصوغ المحّاحّون هذا الاتجاه في “أنا نباتي لأنه القرار الوحيد الصائب، إذا كنت تهتم بحقوق الحيوان فيجب أن تكون نباتيًا، عدا ذلك فأنت شخص لا تأبه إلاّ بنفسك”.
بشكل عام البشر في احتياج للحب والاحترام والتقدير والامتنان والاطمئنان، وهي احتياجات طبيعية مشروعة، لكن صعود التعالي الأخلاقي بهذا الشكل يستحق اعتبارًا خاصًا، نظرًا لأن اليقظة الاجتماعية تركز بشكل خاص على الخطاب العام، ويبدو أنها مرتبطة بالرغبة في مشاركة أو تعزيز وجهات النظر الأخلاقية، إلاّ أن التعالى الأخلاقي وفقًا لتفسير(توسي وارمك الأولي للموضوع، فمن المرجح أن يستغل المحّاحّ المناقشة العامة للأخلاق والسياسة، ويبحث عن المكانة الاجتماعية بطريقة غير شرعية، ليثبت أنه متفوق أخلاقيًا.
المحّاحّ في ضوء الأخلاق النيتشوية
كرّس الفيلسوفان توسي ووارمك جهودًا لتحليل المحّاحّ في ضوء الأخلاق النيتشوية، ماذا قد يقول فيلسوف الأخلاق فريدريك نيتشه عن مفهوم المحّاح، حقيقة ليس من السهل الإبحار في فلسفة نيتشه ونقده الثقافي، لكن إذا افترضنا اهتمام نيتشه بالانحطاط ، لدرجة أنه يطرح الأخلاق كتعبير عن الانحطاط، يمكن تطويعها كإحدى الحجج في تفسير كيفية استخدام المحّاحّين لتحويل كل ظرف لمصلحتهم، حيث يجادل نيتشه “الأخلاق هي محاولة لبث الفخر في الإنسان، تعطيه الحق في أن يجعل من نفسه وأوضاعه وأفعاله الراقية شكل للشعور المتنامي بالفخر، وفي تطوير الإحساس بالقوة كأساس متين لبناء مجتمع عليه، يحدث التصنع والمزايدة كنتيجة لهوس الوصول للحالة الأخلاقية السامية” [4].
وفقًا لنيتشه، استخدام المعتقدات والقيم والرغبة في التميز تشعر المرء بسعادة غامرة، وفي سعيه للتمجيد الأخلاقي لذاته يظهر بشكل استباقي كرقيب أخلاقي على أعضاء الجمهور، قد يستخدم الكلام البغيض والسام لينال الإعجاب قد يدافع عن ضحية “متصورة” مقابل ردع معتد “مزعوم”، لإضفاء هالة من الضوء تضعه في منزلة الملائكة.
لكن في طريق الوصول لذلك تظهر العقبات والعوائق على سبيل المثال، رغبة المرء في القضاء على أعدائه هو أحد أعراض الانحطاط، يعطي نيتشه وصفًا لكيفية استخدام الانحطاطات الفردية ودمجها في الثقافة، وتشكيل قاعدة قد ينتج عنها التعالى الأخلاقي، وهو دور وظيفي يطلق عليه “العبودية”، يعتقد نيتشه أن كون المرء من هذا النوع هو أفضل حياه ممكنة له، بمعنى أن بعض الناس يصبحون محبطين من عدم قدرتهم على توظيف إرادة القوة لديهم، ومن هنا تنشأ المشكلة، فبدلاً من الاعتراف بالهزيمة ببساطة، ينزعون إلى تغيير “قواعد اللعبة”، ويحاولون إعادة التمييز من خلال الحطّ من نجاح الآخرين، ينتج عنه ما أسماه نيتشه بـ”ثورة العبيد” فيما يخص الأخلاق [5].
خلال الثورة يشرع الناس في استخدام المبادئ الأخلاقية بذاتها ليشبعوا إرادة القوة لديهم ليحصلوا بها على السيطرة والهيمنة والوجاهة الاجتماعية، وليرى الآخرون أنهم قد أنجزوا شيئًا جديرًا بالتقدير والاحترام حتى إن كانت إنجازاتهم فارغة، ونتيجة سباق التسلح الأخلاقي هذا، يصبح الناس أكثر ميلاً إلى تبني وجهات نظر متطرفة وغير معقولة، ورفض الاستماع للجانب الآخر، وهو ما ينسحب على المحّاحّ الذي يضفي على خطابه الكلام العدائي والبغيض، ولا يكلف نفسه حتى عناء إخفاء ازدرائه من المختلفين معه.
منطق “السمّية”
الكلام السّام أحد أشكال التعالى الأخلاقي، وصفة واضحة من صفات المحّاحّين، بجانب المزايدة في الخطاب العام والادّعاء بدونية الآخرين، وهو ما يعبّر عنه بالغضب والوصم الاجتماعي، بهدف اكتساب مكانة وإثارة إعجاب الجمهور، حينئذٍ يصبح منطق “السّمية” رادع قوي لإسكات المتحدث الآخر واستباحة الهجوم عليه، وموت معنوي للنقاش.
قديمًا صاغ الفلاسفة عبارة “الصراع الأخلاقي” لوصف إساءة استخدام الحديث وهو مصطلح يشمل جميع المحادثات التي يجريها البشر حول السياسة والمعتقدات والقيم والأخلاق، ومن هنا يتساءل كل من توسي ووارمك، كيف وصلنا في نقطة من التاريخ البشري يتصارع فيها الناس على الكلمات، وللإجابة على هذا السؤال نستدعي مفهوم المحّاحّ، على السوشيال ميديا التي غيرت معها ساحة الحرب، وتبدلت طبيعتها كذلك، وظهرت الحروب الكلامية والاقتتال الخطابي الحديث من خلال النبرة غير المباشرة، والثرثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث التواصل المباشر عينًا بعين، استبدل بالإيموجي والكلمات التي تقدح شررًا وبغضًا، وبحسب توسي ووارمك “فإن أسلافنا اكتسبوا الهيمنة بالقوة البدنية، أو بالتخلص من منافسيهم، أمّا اليوم بمقدورنا أن نحظى بالهيمنة عبر إحراج الآخر على وسائل التواصل الاجتماعي” [6].
وجدت الدراسات بأن المحّاحين لهم تاريخ من تجارب قطع العلاقات مع أفراد العائلة والأصدقاء بسبب خلافات سياسية أو أخلاقية، بالإضافة إلى استخدام معتقداتهم لتعزيز وضعهم في الحياة الواقعية وتنازعهم من خلال سلوكيات اجتماعية سامة، كتوبيخ الغرباء، والدخول في جدال مع مخاليفهم في الرأي، كما تهدف المساهمات التي يقدمونها في الخطاب الأخلاقي العام إلى تلبية هذه الرغبة، حيث أن الشاغل الأساسي للمحّاحّ هو إظهار صورة لنفسه كشخص يقف إلى جانب الملائكة، وعلى الرغم من أن الصراع والديناميكيات الاجتماعية السامة غالبًا ما تكون بؤرة الاهتمام الشعبي، فمن المرجّح أن يستفيد المحّاحّ من خلال توفير بعض المكاسب اللحظية، بغض النظر عن تكاليفها الاجتماعية اللاحقة، ومع ذلك، فإن الآثار طويلة الأمد للتعالي الأخلاقي ليست معروفة بعد، على الرغم من أنه إذا ثبتت صحة التكهنات الفلسفية، فمن المحتمل أن ترتبط هذه الظاهرة بالاستقطاب والانهيارات في التواصل الفعّال، خاصةً مع أعضاء المجموعة الخارجية أو أعضاء المجموعة الذين يعتبرهم المرء منافسين له، تُظهر الدراسات كذلك، أن دوافع التعالي الأخلاقي قد تنبئ بحدوث صراع أكبر حول القضايا الأخلاقية أو السياسية بمرور الوقت، ولكن آثار هذه الصراعات ليست واضحة على الفور، فعلى الرغم من ارتباط المفهوم بوجود صراع مع الآخرين حول مواضيع أخلاقية وسياسية، سواء كانت هذه الصراعات مزعجة أو مدمرة أو غير صحية، يجب التركيز في أن يبحث الاهتمام المستقبلي على ما إذا كان التعالي الأخلاقي يرتبط ارتباطًا جوهريًا بانخفاض جودة الخطاب العام، والتقليل من قيمة العملة الاجتماعية للحديث الأخلاقي، أو زيادة الوحدة والانغلاق [7].
بوجود محّاحّ في محيطك الاجتماعي أو الإلكتروني، لا يستدعي إقامة خلاف معه أمر جلل، بل غالبًا سيحدث من العدم، فبمقدور المحّاحّ أن يندد بأي شخص بأيّ لحظة مهما كانت طبيعة العلاقة معه، فقبل أن تتعامل مع المحّاحّين عليك أن تفكر مرتين، فالتفكير في التعالي الأخلاقي بمثابة للتأمل الذاتي، وليس دعوة لحمل السلاح، وعندما تجد نفسك في منطقة خلافية مع شخص آخر أسأل عما إذا كنت مهتما حقًا بالتواصل معه أم أنك تريد أن تثبت أنك الأفضل وصاحب الرأي السديد، وهل مشاركتك بمواد مثيرة للجدل على وسائل التواصل الاجتماعي لمجرد إبداء الرأي أم للسخرية علنًا ممن يختلف معك في الرأي، إذا كان الأمر كذلك فأنت من المحّاحيّن، إذا لم يكن كذلك فلا يزال بإمكانك التصدي لهم من خلال التعرف على هذه السلوكيات وإثنائهم عن فعلها، وتقويض وتضييق الخناق عليهم، لجعل الخطاب العام مساحة آمنة للنقاش، إنه تشجيع على إعادة تقييم لماذا وكيف نتحدث مع بعضنا البعض حول القضايا الأخلاقية والسياسية، ونحو اتجاه أكثر إنتاجية وتوازنا، هل نحن بخير مع حديثنا الأخلاقي؟ أم أننا نحاول إقناع الآخرين بأننا جيدون؟
[1] Ralston, Shane J. “Metaphor Abuse in the Time of Coronavirus: A Longer Reply to Lynne Tirrell.”(2020):8.
[2] Grubbs, Joshua B., et al. “Moral grandstanding in public discourse: Status-seeking motives as a potential explanatory mechanism in predicting conflict.” PloS one 14.10 (2019).
[3] I bid, p: 14.
[4] فريدريك نيتشه، إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق للنشر،ط1، (2011):129.
[5] Antonia Gase ., “Grandstander in the family”, available at :https://www.newphilosopher.com/
[6] I bid,.
[7] Grubbs, Joshua B., et al., Op Cit.,p:25.