المخلوق الهلامي الخارق
يزخر التراث اليهودي بحكايات خرافية عديدة عن كائنات خارقة يصنعها الإنسان بنفسه، وينوّع في شكلها وصفاتها ويحاول تزويدها أيضا بسمات بشرية، أبرز هذه الكائنات المُخلّقة هي: “الجولم”. وكلمة “جولم” تعني بالعبرية “جسد غير محدد الملامح، أو غير مكتمل الهيئة”، وقد ظهرت في العهد القديم مرة واحدة فقط لتشير إلى المادة الجنينية التي لم تُشكل بعد (المزامير 139: 16)، كما وردت مرات عديدة في التلمود الذي يصنّف المراحل المختلفة لخلق “آدم” ويدعوه بالاسم “جولم” في ساعاته الأولى قبل أن تُنفخ فيه الروح (مسيخيت سنهدرين 38، ب).
”الجولم” في التراث الشعبي اليهودي – كما يعرفه جرشوم شالوم – هو جسد هلامي غير محدد الملامح انتشرت أسطورته، بصيغها المختلفة، بين يهود شرق أوروبا ووسطها. وقد تعددت الحكايات عن تخليقه باستخدام الحروف والكلمات وبمساعدة كتاب الخلق، مع ازدياد الإيمان بالقبالا العملية والانشغال بالسحر وسط يهود أوروبا في العصور الوسطى والتي وصلت إلى ذروتها مع انتشار الحركة الحسيدية في القرن الثامن عشر.
ثم انتشرت مرويات الجولم وطرق تخليقه – كما يقر موشيه إيدل – مع زيوع الاتجاه العلماني وسيطرة قيم العلم خلال عصر التنوير الأوروبي؛ حيث بدأ يسود الاعتقاد بأن الفرد، بقدراته العقلية الهائلة، هو منقذ ذاته ومخلصها، فعبّرت الأسطورة عن قلق الفرد العلماني من القدرات الخارقة التي قد ينسبها لنفسه ثم انقلابها عليه من خلال تجسيد شخصية “الجولم” لثنائية الكائن المنقذ/المدمر الذي يساعد خالقه في البداية ثم يثور عليه في النهاية.
وقد ترددت حكايات خلق الجولم بدءا من القرن الثاني عشر تقريبا، عندما نُسب إلى الربّي صموئيل هاحسيد إنشاء كائن طيني يصاحبه في ارتحالاته بين إيطاليا وألمانيا ويكون خادما مطيعا له وقد كان أصمّ لا يتحدث. كما شاعت أسطورة أخرى تحكي عن أن الفيلسوف شلومو بن جبيرول قد خلق لنفسه جاريةً (جولم في شكل امرأة) بمساعدة كتاب الخلق، وهو ما نُسب أيضا إلى الفيلسوف أفراهام بن عزرا الذي خلق جولما بقوة الحروف المقدسة وأعاده ترابا بالطريقة ذاتها.
وقد نسبت نسخ عديدة من الأسطورة للربّي إلياهو بعل شيم التشليمي – نسبة إلى مدينة تشليم في بولندا – قصة خلق الجولم بمساعدة كتاب الخلق، ثم إماتته له بإزالة اسم “الله” من فوق جبينه قسرا حتى يعطل قوته ويعيده ترابا بعد أن نما جسده وتعاظمت قوته بشكل أخاف اليهود وغيرهم. وكان جولم تشليم بمثابة “إنسان أدنى” – وفق وصف جرشوم شالوم – عملاقا وأخرس ومأفونا، ينفذ أوامر سيده فقط، ويُقال إنه بعد أن أصبح طينا مرة أخرى، عقب نزع الحروف المقدسة المنحوتة على جبهته، سقط على الربي إلياهو وقتله في الحال.
والنسخة الأشهر من الأسطورة تربط ظهور الجولم بالمرويات الخاصة بالربّي يهودا ليف بن بتسلئيل المعروف بـ “مهرال براغ”، الذي نُسب إليه إنشائه لكائن طيني “على هيئة إنسان قبيح الشكل” وبث الروح فيه عن طريق السحر والتعويذات، من أجل تسخيره لخدمة سيده/خالقه وحماية يهود براغ من هجمات الاضطهاد أو التنكيل التي تحدث لهم بسبب تهمة الدم التي ألصقت بهم آنذاك.
وقد دعاه الربّي ليف باسم “يوسيف”، واشتهر بين الناس باسم “يوسيل الجولم” أو “يوسيل الأخرس”؛ حيث خُلق محروما من النطق في الصيغ المختلفة للأسطورة. ولم يخلقه الربّي ليكون “إنسانا أدنى” بل جعله “شبه إنسان” ومنحه سمات خارقة تُمكّنه من إحياء الموتى وإنقاذ اليهود مما يتعرضون له من مشاكل كبري.
وتحكي أسطورة مهرال براغ قصة خلق الجولم من طين نهر “فلتافا” ببراغ وبث الحياة في الكائن الطيني عن طريق صياغة الأحروف العبرية (א. מ. ת) التي تشكل كلمة (אמת/ حقيقة) على جبينه، على أن يشطب منها الحرف (א)- فتصبح (מת/ مات) – عشية الجمعة – لتعطيل قوة الجولم كي لا يدنس يوم السبت المقدس.
وهناك روايتان مختلفتان حول نهايته، الأولى – وهي الأشهر- تروي إشاعة الجولم للفساد بين الناس وتهديده لخالقه الذي يتمكن في النهاية من إماتته بعد أن ينتزع من فمه الورقة المكتوب بها اسم (الله) المسؤولة عن إحيائه، ليسقط الجولم على الأرض ويعود إلى هيئته الأولى، كتلة طينية جامدة، ويقال إن جثمانه ما زال مدفونا حتى اليوم في عليّة أحد المعابد القديمة في الحي اليهودي ببراغ.
بينما تحكي الثانية عن اضطرار الربّي يهودا ليف إلى الرحيل إلى إحدى مدن بولندا للاستشفاء بعد أن خارت قواه؛ حيث تستنفد طقوس خلق الجولم قوة خالقه كما يشيع في القبالا العملية، وهنا يحتار في أمر مخلوقه/الجولم فيتضرع إلى الله طالبا العون، ويطيع أمره بألا يميت الجولم بل يصلح من خلقه ويضيف المعرفة والفهم إلى قوته الجسدية ويمنحه القدرة على الكلام، ليؤدي دوره في إنقاذ اليهود من أيّ كوارث محتملة قد تقع لهم في المستقبل.
ويرجع الفضل في انتشار أسطورة الجولم بين يهود أوروبا في الأساس إلى الربّي يهودا يودل روزنبرج الذي وثّق في كتابه “معجزات المهرال” (1909) مراحل حياة الجولم والغموض الذي يكتنف نهايته، ووصف تفصيلا قصة خلق الجولم وأعماله البطولية التي قام بها لإنقاذ يهود براغ من جرائم الدم، وغيرها من مهام أسندها إليه خالقه مهرال براغ لحماية اليهود.
وقد انشغل المخيال الشعبي اليهودي بالأسطورة أكثر وأكثر بعد العثور على رسالة لمهرال براغ بعنوان “رسالة المهرال المقدسة عن خلق الجولم” – يعود تاريخها إلى عام 1583 – يصف فيها كيفية خلقه للجولم، ويجيب على أسئلة الحاخامات حول حقيقة استخدام القوى السحرية للحروف وللكلمات في تسخير هذا الكائن المخلوق لخدمة يهود براغ وحمايتهم، ويدلي فيها بأسباب إقدامه على هذا الفعل والظروف السياسية التي عاصرها اليهود في براغ آنذاك، وهي الرسالة التي ألحقت عام 1931 بأحد أجزاء كتاب “أقوال يوسف” للربّي يوسف مائير ڤاييس.
وقد تعددت مرويات الأسطورة في التراث الشعبي اليهودي بين ثلاثة مستويات :الأول، يُظهر الجولم في شكل الخادم المطيع لسيده والمنفذ لأوامره، والذي لا يمكنه الكلام أو التعبير عن نفسه، فهو يعمل ويكدّ فقط ليحمي يهود الجيتو تلبية لرغبة خالقه. والثاني، يجسد الجولم في شكل كائن ينمو ويتطور- جسديا وعقليا – فيثير الرعب في نفوس من كان يحميهم، ويحاول خالقه تجميد قوته وإيقاف حركته. أما الثالث، فيصبح فيه الجولم غير متعاون مع البشر ويتمرد على خالقه/سيده تماما، رغبة منه في أن يمتلك حياته الخاصة كسائر المخلوقات، فيفقد سيده السيطرة عليه وتقع بينهما العديد من المواجهات.
وقد تحولت أسطورة الجولم إلى حكاية شعبية متداولة في الفلكلور اليهودي، ومن ثم فقد شكلت مصدرا ملهما للأدباء – اليهود وغير اليهود – مع بدايات القرن العشرين؛ فتجسدت شخصية “الجولم” في العديد من الفنون الأدبية والبصرية والتشكيلية.
وينسب باحث الميثولوجيا اليهودية جرشوم شالوم الاستثمار الأدبي الأول للأسطورة إلى رواية “سبينوزا” (1837) للأديب الألماني اليهودي برتولد أويرباخ، وهو الأمر الذي يرفضه الكثيرون، ومنهم الناقد إيلي أشيد، مشيرا أنه لا وجود لأيّ حقائق داخل ذلك النص أو خارجه تدعم هذا الطرح، ومؤكدا أن الأسطورة ذاتها لم يذع صيتها في المخيال الشعبي لدى اليهود من ساكني ألمانيا.
أما أول أديب غير يهودي يستلهم تلك الأسطورة في عمل إبداعي – وفق موشيه إيدل – فهو التشيكي فرانس كلوتشاك الذي تأثر – بطبيعة الحال – بما يدور في الحي اليهودي ببراغ عن الجولم وخالقه المهرال، فسرد حكايتهما في قصته القصيرة التي نشرها في إحدى صحف التشيك عام 1841، مما يؤكد أن السياق الثقافي الأوروبي حينها – بمناخه العلماني القلق – كان مؤهلا لاستقبال فكرة المخلوق المنقذ/المدمر لخالقه وإعادة صياغتها وتفسيرها إبداعيا. ويدعم هذا الطرح توليد أساطير أدبية تتصل بالأسطورة اليهودية كما نجد مثلا في رواية “فرانكشتاين” (1818) للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي التي تدور حول شخصية مُخلقة من أشلاء بشرية متفرقة تتمرد على صانعها وتتسبب في دمارهما معا.
ومن أهم الإبداعات السردية العالمية التي احتفت بفلكلور الجولم رواية اليهودي النمساوي جوستاف مايرينك “الجولم” (1915) التي كتبها أثناء فترة عمله ومكوثه ببراغ، كما تعد قصيدة “الجولم” (1957) للكاتب الأرجنتيني لويس بورخيس – المولع بالميثولوجيا اليهودية – من أشهر الإبداعات التي تناولت حكاية الشخصية الأسطورية وصانعها.
أما في الأدب العبري فقد استلهم العديد من الأدباء أسطورة الجولم وقاموا بتوظيفها كل وفق تفسيره لدلالاتها وتطويعه لمضامينها، ومنهم اليهودي البولندي دافيد فريشمان الذي جسد الجانب الإنساني بالشخصية الأسطورية في قصته “الجولم” (1909) من خلال وقوع المخلوق الطيني في حب ابنة المهرال خالقه، الأمر الذي شكل خطرا على الأخير فقام بإماتته. واليهودي الروسي ليفك هالبيرن الذي استمد الأسطورة وأسقطها على حاضره الذي شهد أحداث الثورة البلشيفية وما صاحبها من أهوال، فظهر الجولم بوصفه مخلصا للعالم ومنقذا للبشر في الجزء الأول من ثلاثيته المسرحية الشهيرة “نبوءات الخلاص”.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أن تمثال المهرال – خالق الجولم – لا زال يحتل إلى الآن جزءا من قاعة المدينة الجديدة ببراغ، والتمثال يُنسب إلى النحات التشيكي لاديسلاف سالون في عام 1917، ويجسد المهرال بعباءته الفضفاضة ولحيته الطويلة لحظة وفاته؛ حيث ينتظره ملاك الموت (في شكل حيوان على يساره) حتى يكف عن دراسة التوراة ليقبض روحه، فيرفع المهرال رأسه عاليا ويتوقف عن القراءة، فتُسلب روحه بينما تقدم له حفيدته (المصورة في شكل فتاة عارية تتعلق بيمينه) باقة من الورود.