المدينة التي قتلها بحبهم العشّاق

الثلاثاء 2020/09/01

“تفاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام،

فراشة حجرية بيروت. شكل الروح في المرآة،

وصف المرأة الأولى، ورائحة الغمام

بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام

فضة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام

وفاة سنبلة. تشرد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت

لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي .. وتنام…

مِن مطر على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأننا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت…”.

محمود درويش

حين دلفنا إلى بيروت أول مرة نهاية سبعينات القرن الماضي مع الكتائب الطلابية كان المساء يلفها بستار من الصمت الثقيل، ولم نكن نعرف جهتنا، وفي الصباح رأينا من مكان إقامتنا بالجبل، وتحديدًا سوق الغرب، بيروت التي شلحت عباءتها لتبدو مفاتنها الموشحة بالأزرق البحري.

كانت فكرة الفتى القروي الذي عاش في بيئة محافظة عن المدينة سماعيًا، تناهى إليه من فتية زاروا لبنان قبله وكانوا يستعرضون بطولاتهم ومغامراتهم التي كانت في غالبيتها محض أوهام يزينون بها سرودهم التي كانوا فيها أبطال الحكاية.

تبدت صورة المدينة للفتى وهو ينظر إليها من علي بأنها لا تبتعد عما رسم في مخياله من صور حينما رأى المدينة وهي تستلقي على حافة البحر بمجون، ربما أغواه البحر الذي يراه للمرة الأولى، فتخيل المكان بملابس البحر.

كانت المرة الأولى التي يرى فيها الفتى المدينة الباذخة أمام ناظريه، تحته مباشرة، ويود لو يعانقها كأنثى، أو يفاجئها بسرقة قبلة قبل أن يعرف اسمها أو يفهم لغتها السرية التي كان يظنها ممزوجة بالشهد.

لم يطل الوقت حتى اقترب من شرايينها، يقصد شرايين المدينة نازلًا من مرتقى الناهد منها إلى تفاصيل المكان وشوارعه التي تضج بالأصوات والصور التي تملأ الجدران الشاحبة اليابسة.

لم يكن الجسد كما ظن فاتنًا وطريًا، كان هشًا وغامضًا، فيه رعب يخترق المسام إلى الروح دون أن يتسنى للفتى معرفته، وتحديدًا كلما اقترب من القلب، يقصد قلب المكان، شارع الفكهاني الذي كان يصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تضاداته وصراعاته وحالة الاجتماع القصري لأطرافه في مئات الأمتار بـ”ديمقراطية البنادق” بينما يسميها آخرون “جمهوية الفكهاني”.

في الفكهاني تختلط الثقافة والسمسرة ورأس المال والمبادئ وشهوة الحرية وشبق التمرد والخوف والكبرياء وبساتين الأحلام ورمال الوهم، وتترامى على جانبيه أمنيات الهاربين من الظلم والاستبداد، والكل يمتلك ما يمكن أن يحصن حلمه بالحوار النزق أو بالرصاص.

ولم يكن الفكهاني أغنية لـ”الطريق” تنشدها الفرقة بشجن ما أوتي للعراقي من حزن معتق، بل كان شارع العشاق والطلقات الطائشة التي تبحث عن ضحية ساقها القدر للزمان والمكان الخطأ، السيارات الملغّمة التي لا يعرف المارة الوقت الذي يمكن أن تقع فيه الكارثة، فالكل يوقّت حياته وفق الاحتمالات.

وقتها، أدرك الفتى أن المدينة لها طبع الأنثى الأسطورية التي تأكل أبناءها حينما تجوع، وتشرب دمهم حينما يصيبها العطش، وتترنح بخدر ما يفعل لون الهمجلوبين الأحمر الذي يستعير صفة النار بأطرافها، فترتعش بجنون.

هو لم يدرك تمامًا وهو يجوب بيروت التي انقسمت في السبعينات من القرن الماضي بين خندقين متقابلين أن للأنثى المكان أكثر من أب يدّعي أنها من صلبه، وظلت الأنثى/المدينة رهينة الادعاء المحروس بالرصاص.

لم تكن تنتمي لأحد، ولكنها كانت تخضع للجميع، وتقترب وتبتعد بمقدار ما تقيم من علاقات مع الذي يملك السطوة، أيّا مّا كانت السطوة، فيقرأ الفتى بعد عقود عن محاضرة للشاعر أدونيس الذي يصف المدينة بالمشهد “فسيفساء طوائف وبعيدة عن القضايا الكبرى”، محصلتها “حروب خفية أو معلنة”، وثقافة بيروت كما قال “مثل هندستها، تنابذها أكثر من تآلفها ..مجرد ترقب وسعي إلى جعل المستقبل شكلًا للماضي.. ويبدو الماضي كانه هو المستقبل”.

وبعد نصف قرن لم تتغير بيروت، لم تكن بيروت صامتة، كانت ملجومة بالخوف أن تصرخ، كان الرعب غطاء وهميًا يحول دون أن تستسلم لمستبد بالمال أو السلاح أو الاحتيال، ولم يكن يتاح لبيروت المكان أن تحمل صفاتها واسمها، كانت فضاء مستباحًا للعدو والصديق، لم تكن أنثى كما ظن الفتى، كانت بين كل الصفات التي تنطبق على الماء حينما يأخذ شكل الإناء ولونه، تستجيب دونما إحساس لشهوة القوة باللذة المفتعلة.

وظلت صفة المحطة، والبرزخ أو المرفأ منذ ذلك الوقت تتجاذب المكان الذي ولد في رحم القلق الذي تناهشته مخالب الخارج وانفجارات الداخل، كانت بيروت قنبلة موقوته، وخندقًا معرضًا للقصف والتفجير والقتل والخصف، ليس إلا لأنها أغوت بجمالها شبق ذكورة الحرب. وظلت الجدار الرخو والضعيف لانفجار مؤجل في ساحة غدت غابة، ومختبرًا لصناعة المتخيل السردي للإمبريالية المتوحشة وتوالداتها في المنطقة.

بيروت الغيمة التي هبطت من الجبل لتغتسل بالبحر لم يكن لأحد أن يراها دون أن يخفق قلبه لها، ولكنها لم تكن لتمنح عاشقًا وحده امتياز حبها منذ أن كانت طفلة في أسطورة الفينيق، بقيت عذراء بتول، فقتلها العشاق بحبهم.

حينما هبط الطفل من الجبل إلى تفاصيل المدينة تاهت خطاه بين بين جناحي المدينة التي تمزقت بين الحب والحرب، وكان الفتى الذي هو أنا ما يزال قلبه كوردة جورية تفتحت للتو يبحث عن فراشة الشهوة فتاهت خطاه في المكان والزمان

تتداعى الذاكرة وتستدعى الثمانينات لراهن غامض  لبيروت فيروز وفيلمون وهبة والرحبانية وطلال حيدر وسعيد عقل وأنسي الحاج وجوزيف حرب.

“لبيروت من قلبي سلام لبيروت، وقبل للبحر والبيوت،

 لصخرة كأنها وجه بحار قديم

هي من روحِ الشعب خمر، هي من عرقه خبز وياسمين،

 فكيف صار طعمها طعم نارٍ و دخان”.

تتداعى الذاكرة على صورة البحر ودور النشر، المقاهي، شارع الحمرا، الروشة، الشياح والأشرفية، جسر الكولا، جامعة بيروت العربية، ورجال جبال: مهدي عامل، معروف سعد، كمال جنبلاط، كمال شاتيلا، أنطون سعادة، حسين مروة، كيف لبيروت أن تتداعى ذاكرة الطفل وهو يستعيد مطلع الثمانينات من القرن الماضي بين مشهد النار التي صبته الطائرات الإسرائيلية من حمم على جسد بيروت الندي، الذي لم يستطع البحر الذي قالت عنه فيروز “شو كبير” أن يطفئ ألسنة النار التي تمتد للسماء “البعيدة”، ومشهد انفجار المرفأ الذي أحرق البحر ومزق المكان كجذاذات كتاب قديم طارت في الهواء..

لكنه الفتى الذي ظلت بيروت معشوقته الأبدية، لم تغادر قلبه ، حكاية تجتمع فيها الحياة والموت كما التأمت في أسطورة أدونيس الفينيقي، مرددًا صدى ما قال درويش:

“بيروت شاهدة على قلبي

وأرحل عن شوارعها وعنّي

عالقاً بقصيدة لا تنتهي

وأقول: ناري لا تموتُ…

على البنايات الحمام

على بقاياها السلام…

أطوى المدينة مثلما أطوي الكتاب

وأحمل الأرض الصغيرة مثل كيس من سحاب

أصحو وأبحث في ملابس جثتي عني

فنضحك: نحن ما زلنا على قيد الحياة”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.