المرأة في الفلسفة الرشدية
لم يعد ابن رشد شخصية عربية إسلامية اشتغلت بالتأليف والنقد والترجمة والشرح، في مجالات معرفية عديدة كالطب والفلسفة والكلام والفقه والأدب والفلك، بل صار مشروعا فكريا أو مدرسة علمية فرضت نفسها بقوة في عالم المعرفة والاجتماع، حيث تجاوز مداها حدود المغرب والأندلس في اتجاه المشرق وأوروبا وأميركا، فشقت طريقها إلى العالمية من بابها الواسع، كيف لا وابن رشد هو السباق إلى وصل الصلة بين الشرق والغرب، عبر رفع “قلق عبارة أرسطو” في الفلسفة، فنقل بسلاسة التراث اليوناني العقلاني إلى عمق أوروبا مرورا بالمغرب والأندلس، ثم عكف على تجسير الهوة بين الحكمة والشريعة، من خلال دفع التعارض بين الدين والفلسفة وبيان تهافت خصوم مقاصد الفلاسفة.
جمع ابن رشد علوم الأوائل وصنف فيها ونقحها، ثم أتقن علوم الشريعة في الفقه والأصول والكلام واللغة، فمزج بين ما نسميه اليوم بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والتجريبية وبين العلوم الشرعية، فأضفى ذلك ميزة على شخصيته الفكرية، امتاز بها عن الكثير من مثقفي عصره، وحاز بها صفات علمية اشتهر بها بين أقرانه، فلقب بالفقيه والقاضي عند مفكري الإسلام، كما لقب بالحكيم والشارح الأول عند مفكري الغرب.
وقد عرف بالبراعة في معارفه ووظائفه المتعددة في الفقه والقضاء والفتوى والطب والفلسفة والتدريس، وكما يحكي عنه ابن الأبار فقد كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه، لما ظهر عنده من اهتمام بالغ بالدراية أكثر من الرواية، وانقطاعه الكلي للقراءة والكتابة طول حياته، اللهم إلا في ليلتين إحداهما لما مات أبوه، والثانية لما بنى على أهله.
كل هذا يعطينا صورة عن مثقفنا الألمعي، الذي أفصح عن فكر ثاقب وعقل متوقد، جلّت ذلك كتبه التي وصلتنا، إذ أن بعضها تعرض للإتلاف والحرق، بسبب مواقفه الجريئة في السياسة والفلسفة، حيث أن كتبه -كما ينقل عنه المتصوف الكبير ابن عربي يوم نقل جثمانه من مراكش إلى مثواه- تعادل وزنه حين نقل على التابوت.
وهذه الجرأة هي التي جلبت عليه محنته المشهورة مع أمير مراكش، بحيث أقنع فقهاؤها المنصورَ على اعتقاله ونفيه بسبب أفكاره، ويرجح محمد عابد الجابري أن تأليفه لكتاب “الضروري في السياسة” دفع الأمير إلى التشكيك في نواياه السياسية، التي يحملها الكتاب المذكور، والتي يلخص فيها جمهورية أفلاطون، وربما ينتقد من خلالها سياسة الأمير في الحكم، ويشك أنه ألفه بطلب من الأخ المنافس للأمير.
وللتدليل على خطورة هذا الكتاب، نتوقف عند مسألة أثارها ابن رشد وناقش فيها أفلاطون، وهي من متعلقات صفات الحكيم الذي يُنظّر له أفلاطون، والذي يرأس مدينته المثالية، من خلال استيفاء القول في ذكر فضائل “الحَفظة”.
الأمر يتعلق بمدى أهلية النساء لخوض تجربة الحكم والمشاركة السياسية في المجتمع واكتساب الحكمة والإبداع في الفنون، أخذا بمدى قدرتهن على إظهار صفة الحكمة والرشد السياسي، وفي هذه المسألة يورد ابن رشد موقفين متباينين: أحدهما لسلفه أفلاطون، والآخر مرتبط ببعض الشرائع أو الفقه الإسلامي.
ومادام بصدد تلخيص مبادئ السياسة لأفلاطون ونظريته في الجمهورية، فهو ينطلق من قيم هذه الجمهورية للتأسيس لهذا الموضوع، بوصفها أخلاقا من صميم تركيبتها الاجتماعية فضلا عن الفلسفية، وهنا يبرز التوجه العقلاني لابن رشد في أطروحته.
فمن يسميهم أفلاطون “بالحفظة” الذين يحرسون الفضيلة في مدينته المثالية هم قوم يجب أن ترعاهم السياسة الفاضلة، لضمان استمرار نوعهم، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الولادة الطبيعية من أرحام النساء، من طريق التزاوج والإنجاب، فهنا يلح على اختيار نساء من طينة هؤلاء الحفظة، بأن يشتركوا معهم في الطباع الحسنة، لكن السؤال عن إمكانية إيجاد هذا النوع الفريد تبعا لوجود الطباع المماثلة لطباع الحفظة، فإن وجدت تلك الطباع صحّ أن يكون من ضمن النساء فيلسوفات ومحاربات وحاكمات مثل الرجال، وإلا اقتصر دورهن على أعمال خارجة عن تخصص الرجال، كحضانة الأطفال ورعاية شؤون البيت.
وهنا يتدخل ابن رشد ليردّ على أفلاطون منطلقا من مبدأ “الغاية الإنسانية”، ليؤكد على المساواة بين الجنسين، وعلى وحدة “الأفعال الإنسانية”، مع اختلاف طفيف في أداء بعضها، بحيث يتفوق الرجال في أعمال تفترض قوةَ البدن، فيما يكون النساء أكثر حذقا في بعضها، لكن على الجملة فوحدة الطبع توجب وحدة العمل، وذلك ما تثبته براعة النساء في فنون الصنائع وفي فنون الحرب، بما يؤكد رجحان عقلهن ومدى استعدادهم وذكائهن، ومثل هذا يدفع إلى القول بأهليتهن للرئاسة والحكم.
يبدو هذا بمثابة موقف شخصي لابن رشد تبعا لميولاته الفلسفية، لكنه يشير إشارة خاطفة إلى إشكالية تتعلق بموقف ما يسميه “ببعض الشرائع” من مدى صلاحية المرأة لتولي مناصب عامة، أو ما يعبر عنه بالإمامة العظمى، وهنا يقصد موقف الفقه الإسلامي من إمامة المرأة، حيث يلمّح إلى الموقف التقليدي الذي يمنع من ولاية المرأة ولاية عامة، بدعوى قصور فهمها وعدم كفاءتها لمثل هذه الوظائف، وإن وجد فيهن من يستطيع ذلك فذلك نادر، والنادر لا حكم له.
والعجيب بعد هذا، أن ابن رشد يلجأ إلى لغة “كليلة ودمنة” للاعتراض على التمييز بين النساء والرجال في الحقوق السياسية، بتوظيف الرموز والحيوانات في الحجاج الفكري والمدافعة الفلسفية من خلال إيراد تساوي الذكور والإناث من الحيوانات في فضيلة الحفظ، فما تحميه الذكور تقوى الإناث عليه سواء بسواء، وما تدافع وتصارع من أجله الذكور بمستطاع الإناث القيام به أيضا، رغم أن الطبيعة تحرم النساء من بعض الوظائف تبعا للطبيعة الفيزيولوجية التكوينية لهن، بأن جعلت للذكور آلة خاصة زائدة على النساء (الأنياب والمخالب مثلا)، مما يفضي إلى اختلاف طفيف في الوظائف.
وإيراد نوع الحيوان في هذا الموضع إنما للاستدلال على أهلية النساء كما الرجال في تقلّد المناصب على أحسن وجه، ولا يعكر هذا الأمر تخلفُ نساء حواضر الأندلس عن هذا الدور، أخذا بالصورة التقليدية التي ارتبطت بالمرأة في المجتمع العربي، والتي عادة ترتبط بالبيت والأطفال، مما يجعلها متخلفة عن شؤون الخارج.
وهذه نكبة المجتمع الأندلسي ورزيته، بسبب حجب النساء عن المشاركة العامة، فأفضى ذلك إلى فقر في هذا المجتمع، وإلى تعطيل الغالبية العظمى من طاقاته وأفراده والذي يتشكل جله من النساء اللواتي يشتغلن بأعمال يدوية دُنيا، يُرجى منها التوسعة في الإنفاق ودفع الحاجة، وأما أمور العامة فلا ينتدب إليها سوى الرجال.
إلى هنا تنجلي الصورة المتقدمة التي يحتفظ بها ابن رشد تجاه المرأة، عكس بعض المرجعيات الفلسفية التي تدخلها في خانة الشر، وتهيل عليها أوصافا قدحية، ويبدو فيلسوف قرطبة بموقفه هذا سابقا زمانه بل ومتنورا أكثر من زملائه الفلاسفة والفقهاء، إيمانا منه بأهمية دور المرأة في الحياة العامة، وفي المشاركة المجتمعية المختلفة، بناء على أحقيتها في ذلك ثم في أهليتها، مما يفرض إيلاءها أهمية قصوى في التعليم وفي الصنائع ومختلف الوظائف، بدل الحجر عليها وقصر دورها في أمور تقليدية، تتعلق بالإنجاب والحضانة وبعض الأعمال البسيطة.
فالحكيم ابن رشد جعل تعطيل دور المرأة في الحياة العامة سببا في تخلف مجتمع بكامله، من مثل المجتمع الأندلسي الذي يشكل بيئته الخاصة، فمدنه شهدت ما سماه بالفقر جرّاء حرمان المرأة من تقلد وظائف عمومية، والزج بها في كل ما يتعلق بالبيت حصرا.
وكأن ابن رشد يرمي بقوله هذا إلى أن المدينة الفاضلة لا يمكن أن تقوم على قدم وساق دون النساء، وتغييب نصف المجتمع وأكثر عن الحياة العامة مفض إلى تعطيل نصف طاقاته وأكثر، بل إن مبادئ الجمهورية تمنع من تكريس اللامساواة في المجتمع ومن إسقاط شرط العدل فيه، لأن مبدأ الحفظ ينبغي أن يكون خُلقا وقيمة تسري على جميع أبناء هذا المجتمع الفاضل لتحقيق التضامن والعيش المشترك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقف ابن رشد من الولايات العامة للمرأة كموقف فلسفي، يخالف موقفه كفقيه ومُفت ومنظر للخلاف العالي ومشارك في الفقه المالكي، وهذا ما نلحَظُه ويقرره في كتابه المعروف “بداية المجتهد وكفاية المقتصد”، فحين يتعرض لشروط القضاء يورد جملة من الشروط: كالحرية والإسلام والبلوغ والعقل والعدالة، ويذكر معها شرط الذكورة، وينسب ذلك إلى رأي الجمهور، بما يؤكد خروجه عن مذهبه الفلسفي سالف الذكر، وإذا تقرر عنده هذا في باب القضاء ففي باب الإمامة العظمى أولى.
وربما أن إحراجات المذهب الفقهي وإكراهات الانتماء المجتمعي –لا سيما إذا عرفنا أن ابن رشد تقلد منصب القضاء إلى جانب الإفتاء- فرضا عليه مواءمة السياق العام وملاءمته، ومن ثم الخروج عن السيرة الفلسفية، ومسايرة ما جرى به العمل في مدن الأندلس ومراكش، مادامت المذهبية الفقهية في ارتباطها بالواقع العملي لا تسمح بالتجريد الواسع والتنظير الذهني المتحرر في عرف العقلانية الفلسفية.
وعلى العموم إن ما سطره ابن رشد في السياسة، والذي سماه بالضروري، فهو من باب الضروري كذلك في باب الاجتماع، فابن رشد لم يكن ينظر للمجتمع الأفلاطوني فحسب، فهو على دراية بواقعه السياسي الأندلسي، فما يقوم على شرحه وتفصيله من تراث أفلاطون يرمي إلى تثبيته على أرض الواقع، فهو من قبيل الضرورات الحياتية التي لا يخلو منها مجتمع، فتكريس حقوق المرأة من هذا النوع من الضرورة، لا سيما الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية التي تطالها ذهنية التمييز والإقصاء بدعاوى تحَكُّمية ليست عملية، ومن هنا كانت أطروحة ابن رشد في العودة إلى المساواة في الأعمال الإنسانية بناء على وحدة الغايات الإنسانية.