المرأة ناقدة للسرد
المرأة الناقدة واحدة من أهم إشكاليات النموذج الإبداعي الأنثوي في العصر الراهن وأبرزها، عربياً على الأغلب، فما زالت المرأة الشاعرة والمرأة القاصة والمرأة الروائية تبحث لها عن موطئ قدم تحت شمس الإبداع التي تسيّرها الذكورية وتهيمن على مقدّراتها وتفرض نموذجها بقوّة واستبداد، فكيف الحال بالمرأة الناقدة بوصفها مرتبة أعلى في سلّم الأهمية التراتبية ذات الطبيعة الفكرية والمعرفية التي تفرزها إشكالية الذكورة والأنوثة في مجتمعنا العربيّ على نحو خاص، وهو ما يجعلنا نقرّ بانحسار هذا الدور كثيراً في المشهد النقديّ العربيّ إذ أنّ عدد الناقدات العربيات قياساً بعدد النقاد العرب الذكور قليل جداً، ومنذ أن بدأت الناقدة والشاعرة الرائدة نازك الملائكة بافتتاح فجر جديد للنقدية النسوية العربية في مجال نقد الشعر أواسط خمسينات القرن الماضي، لم نشهد ظهور ناقدات عربيات كبيرات إلا في حدود ضيّقة جداً فكان النص النسوي الأدبي يخضع دائماً لنقد ذكوري، بكل ما ينطوي عليه هذا النقد الذكوري من عُقَد وتحفّظات واتهامات تسيء للإبداع النسوي أكثر مما تحتفي به وتعاضده وتشجّعه.
الناقدة والروائية والقاصة والناشطة السياسية الراحلة رفقة دودين من الأسماء النقدية العربية النسائية المهمة في حاضر النقدية العربية المعاصرة، وهي تجمع بين الإبداع القصصي والروائيّ والكتابة النقدية في نقد السرد على نحو مخصوص، أصدرت في حقل الإبداع القصصي مجموعة “قلق مشروع” في عمّان (1990)، في حين صدر لها أربع روايات هي “مجدور العربان” الكرك (1994)، و”أعواد ثقاب” عمّان (2000)، و”سيرة الفتى العربي في أمريكا” بيروت (2002)، و”أهل الخطوة” منشورات مكتبة الأسرة في الأردن عمان (2013). وربما لا يمكن فهم منجزها النقدي على النحو المطلوب من دون ملاحظة منجزها الإبداعي السردي لوجود أكثر من رابط فني وموضوعي بين كتابة القصة والرواية والكتابة النقدية في حقل نقد السرد لدى مبدعة تجمع بين الإبداع السردي ونقده.
حفلت تجربتها النقدية المميزة بإنتاج ثلاثة كتب في النقد الأدبي السردي يتقدمها النقد الروائيّ بوصفه الجانب الأهم والأبرز من هذه التجربة النقدية، وربما يعود السبب في ذلك إلى أنها قاصة وروائية قبل ولوجها عالم النقد فكان أن عُنيَت بالجنس الأدبي الذي تمارسه إبداعياً لأنها تفهم خفاياه وتعرف مضايقه وأسراره، وهو ما يوفّر لها قدرة أكبر على معالجة النصوص والظواهر المنقودة بما لا يُتاح لنقاد آخرين لا يعرفون هذه الخصوصيات ويتعاملون مع النصوص تعاملاً منهجياً صرفاً.
وربما لو قاربنا هذه الكتب الثلاثة في سياق نقديّ واحد لوجدنا أنّ هذه الناقدة يمكن أن توضع في طليعة النقاد العرب المشتغلين في حقل السرد على الرغم من قلّة إنتاجها النقدي نسبياً لما تنطوي عليه طروحاتها واجتهاداتها وكشوفاتها النقدية من جرأة ووعي ودراية ومعرفة بنظريات السرد من جهة، وبحضور شخصيتها النقدية الخاصة في روحها ولغتها وأسلوبها وحساسيتها الأنثوية الطاغية، ورصدها ومعالجتها للنصوص والظواهر قراءةً وتحليلاً وتأويلاً، وقد يثير عدم العناية بمنجزها النقديّ في ظلّ انحسار النقد النسوي على هذا النحو كثيراً من التساؤلات، فهي بحقّ ناقدة تمتلك الشخصية النقدية والأدوات الكفؤة باقتدار وشمول وثبات، وتعرف ماذا تقول وماذا تفعل وماذا تتناول وكيف تتناول في مراحل الممارسة النقدية كلّها.
بدأت تجربتها النقدية بكتابها الموسوم “توظيف الموروث في الرواية الأردنية” الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية في عمّان سنة 1997، على نحو يتناسب عميقاً من اهتمامها الرئيس في فحص ثيمة الموروث التي تحفل بها الرواية الأردنية بصورة واضحة، حيث جاءت روايات رفقة فيما بعد غارقة في هذا الموروث-ولا سيما الشعبي منه- إذ توليه كثيراً من العناية على صعيد الفكر والبناء والتوظيف، وكان هذا الكتاب بحقّ فاتحة مهمة لناقدة واعدة قاربت الرواية الأردنية بنماذجها الذكورية والأنثوية، لكنها منحت الرواية النسوية مساحة جيدة تعبّر عن حقيقة وجودها وحضورها في المشهد الروائي الأردني والعربي أيضاً، وهو من الكتب التي تؤكّد حضور “رواية أردنية” متميزة في مشهد الرواية العربية المعاصر أيضاً، فضلاً عن نجاحها في استكشاف قيمة الموروث وكيفية تمثّله وتوظيفه والتناص معه في نماذج هذه الرواية، وهي قراءة مبكّرة في هذا المجال تمكّنت من توظيف أدواتها النقدية ذات الطبيعة الأكاديمية توظيفاً مناسباً وجيداً، من غير أن تذعن لها إذعاناً كاملاً حيث ظلّت شخصيتها النقدية المقترنة بالمبادرة النقدية والشجاعة في طرح الرأي الخاص حاضرة في مفاصل مهمة منها.
لعل كتابها النقديّ الأهمّ والأخطر في هذا السياق هو الكتاب النقدي الموسوم بـ”خطاب الرواية النسوية العربية المعاصرة: ثيمات وتقنيات” الصادر عن أمانة عمّان الكبرى في عمّان عام 2008، هو النموذج النقدي الأنثوي المميز الذي يتناول قضية أدبية تتمثل في خطاب الرواية النسوية، وهو الأكثر انتماءً واستجابة للمفهوم والرؤية والمنهج الذي تتبنّاه الناقدة وتعمل على إشاعته وتداول مقولاته وتركيز ثقافته وتوسيع إشراقاته الفكرية.
إنه الكتاب النقدي المخصوص بتجربة الرواية النسائية العربية المعاصرة الذي تفحص فيه الناقدة طرفي العملية الإبداعية الروائية المشتبكين، الطرف الأول هو “الثيمات” بوصفها الموضوعاتي الكاشف عن طبيعة القضايا النسوية الأساسية التي تُعنى بها المرأة الروائية، وقد ركّزت في هذه القضية على علامات الاستلاب النسوي في مجتمع ذكوري مهيمن وطاغٍ كما تجلّت في كثير من الروايات النسوية العربية، وركزت على هذه الثيمة من خلال ما يجاورها وما يتصل بها من حيثيات وتجليات وامتدادات وعالجتها بروح الناقدة التي لا تكتفي بما تنتجه الأدوات النقدية، بل تذهب أبعد من ذلك في تمرير حزمة من الأفكار والقيم والحالات التي تنتهي في خاتمة المعالجة إلى الانتصار للأنثى.
والطرف الثاني هو “التقنيات” المتمثلة بالصنعة الروائية التي لا بدّ من حضورها في أعلى تجلياتها الأدواتية من أجل صوغٍ روائيّ نموذجيّ، فقد عالجت فيه الناقدة قضية اللغة الروائية وعلاقتها بالصنعة وكشفت عن وعي طيب لدى روائيات عربيات عديدات في قضية الصنعة الروائية، بما يتلاءم مع فضاء الثيمة أو الثيمات التي اضطلعن بالتوغل في تفاصيلها وحواشيها وزواياها وجزئياتها ومناخاتها، بما يجعل من موضوع الكتاب النقدي موضوعاً بالغ الحساسية والخطورة إذ أثبتت الناقدة ابتداءً وجود “رواية نسوية عربية معاصرة” لها شخصيتها الأنثوية المميّزة والمختلفة عن الرواية الذكورية العربية.
لعلّ الموضوعات التي اقترحت الناقدة معالجتها في المهاد النظري للكتاب مفاهيمياً واصطلاحياً ونظرياً مثّلت جوهر المقولة النقدية التي اعتمدتها منهجياً وفكرياً وثقافياً مثل القضية النسائية والأنثوية والنسوية، والفرق بين الكتابة النسائية والكتابة النسوية وغيرها، على ما فيها من إشكالات مفاهيمية لم يبتّ فيها حتى الآن في مدوّنة واسعة للنقدية العربية الحداثية، وأسهمت في نطاق إعادة كتابة تاريخ الرواية العربية المعاصرة في إثبات ريادة المرأة روائياً خلافاً لما أشيع من أنّ رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل هي الرواية العربية الرائدة الأولى، إذ أثبتت الناقدة وجود عشر روايات كتبتها روائيات سبقت رواية “زينب”، وتعدّ رواية “حسن العواقب” أو “غادة الزهراء” للكاتبة اللبنانية زينب فواز التي نشرت عام 1899هي الرواية العربية الأولى في مجال الريادة الروائية العربية.
لا تتوقف جرأة الناقدة عند هذا الحدّ في محاولة إعادة بناء العقل النقدي العربي في مجال السرد الروائي، بل تتناول بشجاعة أكبر في مباحث الكتاب الأساسية المثيرة ثنائية المقدّس والمدنّس، والجسد ووعي الجسد سردياً، والمنظومة المفهومية المتعلقة بموضوع “الجنس” وهي تتوزّع على مفردات العلاقات الجنسية وما يتصل بها من مفاهيم مسكوت عنها مثل العذرية والاغتصاب والتجاسد، وصولاً إلى معاينة الجسد الأنثوي بوصفه هويّة إشكالية متعددة الأبعاد ضمن تفاصيل متجددة شديدة الكثرة والتعقيد والالتباس، وفحص عناصر التشكيل الروائي المتعلق بتكوين الفضاء السردي من خيال أنثوي وعاطفة أنثوية وشواغل أنثوية ومفردات أنثوية أخرى بالغة الدقة والخصوصية.
يجري كلّ ذلك في الكتاب بنوع من تبنّي قضية المرأة وحقوقها والدفاع عن نموذجها داخل خصوصية تعبيرية روائية لروايات كتبتها روائيات إناث، وهذه وظيفة نقدية أصيلة تتجلّى واضحة في خطاب رفقة دودين النقدي بوصفها الهدف الأسمى والمقصد الأساس، وهذه قضية ثقافية بالغة الغنى أتمنى أن تعايَن مستقبلاً بما تنطوي عليه من مضمون نقدي حقيقي يحسب لها، وقد انتخبت الرواية النسوية العربية كي تكون مجالاً لتفكيك الرؤية الاجتماعية السائدة حول المرأة، وجدل الذات والآخر في موضوعة التحرر وحقوق المرأة المسلوبة، والإفادة من منجز الآخر الغربي في هذا السياق داخل تمثلات علاقة المثاقفة الحضارية في نموذجيها السلبي والإيجابي على المستويات كافة.
تناولت الناقدة في كتابها النوعي هذا أيضاً قضية “البناء السردي في الرواية النسوية” لكنها لم تتمكن من إثبات خصوصية أنثوية في هذا المجال، ونحسب أنّ إثبات بناء سردي روائي بخصوصية أنثوية يحتاج إلى جهد نقدي كثيف وتراكمي ومتعدد، ويحتاج في الوقت نفسه إلى تراكم روائي هائل حتى يتبيّن صوت الخطاب الأنثوي على نحو واضح وأصيل ومتفرّد، وهذا سياق نقدي ثقافي ينبغي أن يتم في ظل مفاهيم الشعرية التي أتت عليها الناقدة دودين في كتابها بحدود معيّنة، وسعت في الممارسة التطبيقية على النصوص الروائية النسوية إلى الكشف عن الجهد الخلاق للروائيات العربيات ودورهن في إشاعة ثقافة روائية سردية جديدة لها ملامح خاصة ورؤية خاصة، أملاً في بناء خطاب نوعيّ خاصّ على مستوى الثيمة واللغة والصنعة.
أما كتابها النقدي الثالث المعنون بـ”دراسات في الأدب الأردني: الرؤية والتشكيل” الصادر عن وزارة الثقافة في عمّان عام 2009، فيضم مجموعة من الدراسات الطريفة القيّمة حول الأدب الأردني الحديث حيث تواصل الناقدة كشوفاتها في أكثر من مجال نقدي، ولا تغادر دفاعها الكبير عن النسوية والأنوثة والأنثوية وكأنها تمارس نشاطها المدني المميز في هذا المجال، لكنها هنا تتخّذ من النصوص الأدبية المجال الأرفع للمنافحة والمرافعة داخل وعي حاد وحيوي وجاد يجتهد في بلوغ مرحلة تحصل المرأة فيها على حقوقها كاملة في النصوص الأدبية وخارجها على الورق وعلى الأرض معاً.