المراقبة كوسيلة للتآخي الكوني
إن ما يشهده العالم اليوم، في ظل الثورة الرقمية المذهلة، يفوق ما تخيّله جورج أورويل عام 1948، حين صوّر في روايته الاستباقية الديستوبية “1984” مجتمعا خاضعا للمراقبة والمعاقبة في الآن نفسه، أي أنه جمع بين عهدين، عهد الإقطاع والحكم المطلق، وعهد الأنظمة الحديثة. ومنذ صفحات الكتاب الأولى نقف على سلطة قاهرة متمثلة في حزب (هكذا يُطلَق عليه مجرّدًا من أيّ نعت أو إضافة) ينفّذ سياسة الأخ الأكبر، حاكم أوسيانيا الذي لا نعرف عنه إلا صوره المنتشرة في كل مكان، وأخبارا عمّا يتميز به من ثقة وقوة ورصانة، حتى أن البطل ونستون سميث يشك في وجوده.
هذه الرواية، التي كتبت عقب الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من دمار، تصوّر عالما شموليا يُحظَر فيه الكلام والتفكير، وتُفرَض فيه لغة موحّدة “نيوسبيك” تتقلص مفرداتها إلى حدود دنيا يستحيل معها فرز الصواب من الخطأ، خصوصا أن الفرد مدعوّ إلى الإيمان بالشيء ونقضيه وتصديقهما معا في الوقت نفسه؛ كما تنعدم الحريات الفردية، حتى الحميم منها، ويُسحَق كل خارج عن الحزب سحقَ الحشرات، فلا حق للفرد في شيء عدا محبّة الحزب. وبطلها “الأخ الأكبر” هو استعارة للشمولية المطلقة، ورمز للرقابة الدائمة، حيث أقام في أوسيانيا – وهي كتلة من عالم مقسّم إلى ثلاث كتل تقف في مواجهة أوراسيا وإستاسيا – نظاما يقسّم الشعب إلى ثلاث طبقات اجتماعية: الحزب الداخلي، ويمثل النخبة الحاكمة التي لا تتعدى نسبتها 2 في المئة، والحزب الخارجي، ويشمل عمَلة الطبقة الوسطى ونسبتها 13 في المئة، والبروليتاريا أو الطبقة الشغّيلة، وهي السواد الأعظم وتعُدّ في المئة. هو نظام يُخضع الناس أجمعين للمراقبة في كل آن عبر كاميرات لا يخلو منها مكان، وبوليس تفكير يتعقب المنفلتين من العقال لإدخالهم عنوة إلى حظيرة الحزب بالتعذيب وغسل الأدمغة، فلا حياة في أوسِيانيا إلا لمن وعى خطاب الحزب وعمل به، ولا بقاء إلا للأخ الأكبر، ولا مجال في أوسِيانيا إلا لمحبة الحزب وقائده الأعلى. فالحزب، كما قال أورويل نفسه، يريد السلطة لذاتها، ولا يهمه إسعاد الآخرين. “هو لا يريد ثراء ولا ترفا ولا طول عمر ولا سعادة. لا يريد إلا السلطة. السلطة الخالصة.”
وخلاصة ما توقعه أورويل منذ سنين: انتشار وسائل المراقبة الظاهر منها (كاميرات المراقبة التي لا تخلو منها مدينة من المدن في الدول المصنعة) والمقنّع (الإنترنت والفيسبوك)، التحكم في الجماهير من خلال الميديا، تزوير التاريخ، طغيان لغة عالمية وحيدة (الأنكلو أميركية والرسائل القصيرة عبر الهواتف الجوالة)، انحسار الحريات الفردية، فضلا عن ظهور أنظمة استبدادية مطلقة كما هي الحال اليوم في بلدان العالم الثالث، حيث القائد حاكم بأمره في المصائر والبصائر، وحيث يد السلطة تتوسّل بنشر الفقر وتعميم الجهل للمسك بخناق الشعوب.
ولكن أورويل لم يتوقّع أن تتقبل المجتمعات طوعا وسائل المراقبة “المقنّعة”، وتحرص عليها حرصها على المواد الضرورية التي تؤمّن البقاء، فقد استطاعت العولمة ابتكار مستحدثات تكنولوجية، يعتقد الفرد أنها جُعلت لخدمته، وتيسير حياته، وهو لا يعلم أنها أدوات للسيطرة على إرادته وتوجيه رغباته، لغايات ربحية بالأساس، إذ نجح رأس المال مرة أخرى في خلق نوع من الإحساس بالنقص لدى كل من لم يحز جهازا من الأجهزة المعروضة للاستهلاك. مثلما استطاعت الشركات العالمية العملاقة “غافا” (غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون) أن تسيطر على الرقاب دون عنف أو إرغام، عن طريق المواقع الاجتماعية وشبكات التواصل عبر العالم، وأوجدت بذلك ما أسميناه في مقالة سابقة “الرق الإرادي الجديد” أو “العبودية الطوعية” بعبارة إتيان دو لا بويسي.
وكان فوكو قد لاحظ منذ أواسط السبعينات في كتاب “المراقبة والمعاقبة” أن النظام التأديبي لم يعد يكتفي بالمنظومة السجنية، بل تعدّاه إلى مجمل المجتمع ذي الاقتصاد الرأسمالي، الذي استجدت في أعطافه إدارة مخصوصة لتعدّد مظاهر الحيف وتشابكها، وأن التحول من المَلكية الاستبدادية إلى الأنظمة الحديثة لم يغيّر سوى آليات الهيمنة، فبعد أن كانت تقوم على القوة المباشرة، أصبحت قائمة على تنظيم العلاقات، كما أنها لم تعد تقنع بكونها القيّمة على القانون، المدافعة عن مجال ترابيّ محدد بوصفها دولة ذات سيادة، بل تعدّته إلى تنظيم حياة السكان وإدارة شؤونهم في شتى مجالات النشاط البشري، كراعٍ يحرس قطيعه في الليل والنهار. ولكن العمر لم يطل بفوكو كي يكتشف هو أيضا أن المراقبة لم تعد محصورة في قطر واحد، بل أضحت كونية، وأن العلاقات بين البشر باتت تمرّ عبر الوسائل الرقمية التي تديرها شركات بعينها، أكثر مما تمرّ على أرض الواقع، وأن شركات “غافا” تغذي نرجسية الأفراد وحبّ الظهور لديهم عبر مواقع وتطبيقات وبرامج مغرية بشكل صاروا معه يجودون لها طوعا بخصوصياتهم، حتى الحميمة منها، عبر فيسبوك وإنستغرام وواتساب ويوتيوب، وهم لا يدركون أنها مادة تستعملها تلك الشركات لتوجيه رغباتهم، وبيعها لمن يهمه الأمر. وإذا كانت غاية “الأخ الأكبر” إخضاع الأوسيانيين بالحديد والنار وإلغاء التفكير حتى يضمن بقاءه في السلطة، فإن غاية القائمين على وادي السيليكون إخضاع الكون بأسره بوسائل سلمية حتى يوجّهوا سكانه الوجهة التي يريدون.
أمام وضع تلك سماته، يقف إنسان هذا العصر حائرا أيّا من الاستراتيجيات يتّبع. هل يقاطع هذه المستحدثات فيأمن شرورها، أم يغنم منها ما يلبّي حاجته غير عابئ بالجرائر؟
يجد مستخدم هذه الوسائل نفسه أمام أربع حالات:
أولا، أن يكون عارفا بأنه تحت أنظار غوغل وفيسبوك وأمازون، مقتنعا مثل مقاولي الويب بأن عالَمًا يتواصل فيه الناس فيما بينهم أفضلُ من عالم يجهلون فيه بعضهم بعضا، ولا يهمه أن يعرف أنّ ثمة من يتلصص عليه أو يوجّهه نحو منتوجات تناسب ذوقه، بل يكتفي بالتعبير عن افتتانه بتلك الهندسات الرقمية الضخمة التي تصل ملايين البشر بعضهم ببعض، دون أن يعتريها عطب أو خطأ، وتلك اللوغاريتمات السرية بالغة القوة التي تدار من أميركا. وبذلك يكون متأثرا بوعي أو غير وعي بالفيلسوف الألماني غوتفريد ليبنتز (1646 – 1716) الذي سبق أن نظّر لما يشبه إنترنت اليوم، فقد تخيّل هو أيضا شبكة يتكوّن الواقع فيها من أفراد، أو ذرّات أصلية أسماها مونادة (أي جوهر فردي) مستقلة عن بعضها بعضا، وتشكّل كل واحدة منها عالما بذاته، ولكنها تظل في علاقة دائمة بعضها ببعض. وهو ما يحصل اليوم مع مستخدمي السوشيال ميديا. ما يعني أنّ كل واحد منا يعكس طريقة لرؤية العالم، وتلك الرؤى الفردية مجتمعة تلتقي لتخلق شبكة مشحونة بالمعلومات، يختزنها منظمو المجموعة. والهدف من هذا التواصل بين كائنات مغلقة، كما يؤكد مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، هو إرساء تفاهم أفضل.
بيد أن عملية التآخي الكوني تلك ثمنُها المراقبة، والاستحواذ على معطياتنا الشخصية، وتهيئتها كما تُهيَّأ الأقراص المضغوطة، ولا بدّ لهذه الهندسة المعقدة من منسّق كبير، هو الله في تصور ليبنتز، الله الذي يتخير أفضل التركيبات بين مختلف المونادة ليخلق أفضل العوالم الممكنة. وهو هنا صاحب فيسبوك الذي يحاول قدر جهده ترتيب هذا الكون الافتراضي وحمايته من الإرهابيين ومروّجي خطب الحقد والعنصرية ومعاداة الآخر. والمشكل هو: أيّ حرية تتبقى للفرد حين يتحول إلى جزء من هذه الكونية الافتراضية؟ واهم من يظن أنه حرّ في اختياره، لأن الشبكة، التي تعرف أذواقنا وقناعاتنا، تعرض علينا إمكانات تناسبنا، تماما كما يفعل الربّ حسب ليبنتز، حين يهدينا إلى ما نختار، لأنه عالم بنا وبجوارحنا.
ثانيا، أن يكون الفرد عارفا أنه تحت المراقبة، وأن الإعلانات الإشهارية التي يتلقّاها على مقاسه، وأن الأخبار التي تصله منتخبةٌ وفق إبحاره في الشبكة، وأنه لا يرى إلا ما يريده الإنترنت أن يرى. في هذه الحالة، يكون شديد الحذر، فيقرأ شروط الاستعمال، ويتخلّص بانتظام من ملفات تعريف الارتباط “cookies”. ويجد في ذلك وضعًا يرضيه شرط أن يناسب اهتمامه ويتيح له هو أيضا إمكانية المساهمة في هذه المراقبة العامة. ما يحيل على موقف الفيلسوف الليبرالي البريطاني جيريمي بنثام (1748 – 1832) الذي أدرك في نهاية عصر الأنوار أنه لم يعد في الإمكان حكم الناس من طرف ملك مطلق، وقانون إلهي، وتراتبية صلبة، فدعا إلى ضرورة وضع تشريع غير مباشر، وسلطة تمارس نفوذها على من يرغبون إذا كان ذلك في صالحهم. فلا خوف عليهم منها إذا علموا أن كاميرات المراقبة والشرائح التي تقتفي التنقلات والتقاط المعطيات الرقمية تخص المنحرفين والمجرمين والإرهابيين وحدهم، فبذلك يجد الفرد في المراقبة حماية، وهي الحجة التي يقدمها أنصار “المدينة الذكية”، المراقَبة بالفيديو، والمرتبطة بالشبكة. والمعلوم أن بنثام كان اقترح على الفرنسيين وشم البشر جميعا لتسهيل إيقاف المنحرفين والوقاية من الجرائم، ووصف ذلك بثقافةِ رعايةٍ يجد فيها كلُّ مسالم راحته. وتقوم على قاعدة مفادها “إن قبلتَ أن توضع موضع مراقبة، فعليك أيضا بمراقبة الآخرين”. وهذا يعرف في اللغة الرقمية بالمطارِد “stalker”، أي أن المرء يقبل أن يعرف غيرُه المكان الذي سيقضي فيه إجازته، ويقبل بما يُنصَح به لقضاء إجازته القادمة، شرط أن يعرف هو أيضًا أين يقضي الآخرون عطلهم.
ثالثا، أن يكون المرء رافضا أن تتجسّس على حركاته وسكناته شركاتٌ تعمد على بيعها لمن يدفع، وهو يعلم أنه سوف ينغلق في بالونة إعلامية ويجازف بألا يعثر بعدها على الجديد، ما يدفعه إلى الأخذ بأسباب التشفير، فيصنع بنفسه حاسوبَه أو يتقاسم برامجه بشكل تعاوني، ويحذو حذو القرصان “hacker” الذي يفهم ما يستعمِل من آلات إلكترونية، فيقرّر العمل بحرية دون أن يسمح للمؤسسات الخاصة وحتى للدول بالمتاجرة بعمل مشترك. وفي هذا يكون قد سار على نهج المفكر دوني ديدرو (1713 – 1784)، الذي اعتمد المنطق نفسه رفقة دالمبير وجمْعٍ من المثقفين لوضع موسوعة ضخمة في أواسط القرن الثامن عشر، بعد أن أدرك أن المعرفة ووسائل ذلك العصر كانت بأيدي السلطة، التي تشكّل كِتابا للدولة لا للشعب، إذ كانت تستأثر بالعلم والمعرفة والآداب والمبتكرات والثروات والفنون وتحرم منها عامة الشعب كي يبقى في ظلمات الجهل. ومن ثَمّ حرص على أن يعيد للعلوم والفنون حريتها، وألا يقصر جهده على المواد الأدبية والفكرية بل يتعداها إلى تفسير طرق اشتغال الآلات، بواسطة الصور التوضيحية المرافقة، حتى يمكّن كافة فئات الشعب من الوصول إلى المعارف واستعمال المبتكرات. أي أن المرء يتحرر من الاحتكار ومن المراقبة حين يمارس سياسة الشفرة المفتوحة المصدر Open” Source Code”، التي تسمح لكل واحد باستغلال برمجية وتطويرها، “حتى لا ينفرد طرف واحد بمعرفة كلّ ما يمكن معرفته، ورؤية كل ما يمكن رؤيته، وفهم كلّ ما يمكن فهمه.”
أمّا الحالة الرابعة، فعندما ينفر المرء من كل هذه المستحدثات التي تدجّنه وتخنق حريته وتضعه تحت مراقبة دائمة، فيغلق حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي، ويقطع صلته بالإنترنت، ويتخلى عن جواله، وبطاقته البنكية، وكل ما يربطه بعالم التكنولوجيا، ويهجر الحضارة ويختار العزلة في مكان ناء. ولكنه سيواجه صعوبات ليس أقلها إعادة التدرب على قراءة خارطة جغرافية توجّه مساره، وتهديه إلى الأماكن التي يريد أن يتزوّد منها بما يحتاج إليه من غذاء مادي وروحي، فضلا عن الحالات الطارئة التي لم يحسب لها حسابا، كالمرض مثلا. كل ذلك ممكن، إذا لم تكن له واجبات عائلية، وروابط صداقة، والتزامات مهنية. وسوف يكون مثل الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817 – 1862) الذي اعتزل العالم، وبنى كوخا عاش فيه وحيدا، وحقق اكتفاء ذاتيا، لأنه كان يرفض الخضوع لشروط المدنية وقيودها. على ضفاف بحيرة والدن بولاية ماساشوست، التحم بالطبيعة واستعاد حريته وبراءته، ولكن بقاءه فيها لم يدم أكثر من سنتين، عاد إثرهما إلى المدينة، ليؤلف كتاب “والدن أو الحياة في الغابة” يروي فيه تجربته، ويدعو إلى ثورة راديكالية ضدّ النظام القائم.
نستخلص من كل ذلك أن الأفراد مختلفون في التعاطي مع السوشيال ميديا، منهم من لا يرى إلا ما طفا من جبل الجليد، غايته أن يغنم من الوسائل المتاحة ما يشبع نرجسيته وييسّر تواصله مع أصدقائه وأقربائه، ويتيح له اكتشاف ما يجهل من أخبار ومواقع وأشرطة وأغانٍ وبضائع… ولا يرى حرجا في نشر خصوصياته، بل قد لا يعلم أصلا أنها منذورة للبيع. ومنهم من يعرف ما وراء تلك الوسائل، ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنها، لأن في ذلك انقطاعا عن المحيط والعمل والعالم، وقصارى ما يمكن أن يفعله هو الامتناع عن نشر صوره الشخصية والعائلية وأخباره الخاصة والعامة، والاكتفاء بالجوال للمكالمة، وياهو لإرسال الوثائق أو تلقيها، ويوتيوب لسماع الأغاني ومشاهدة المسرحيات والأفلام، وغوغل الذي ناب عن كل القواميس والموسوعات في توفير المعلومات، أي أنه يظل مرتبطا رغما عنه بالشبكة. ومنهم من يرفض الوسائل الحديثة جملة وتفصيلا، ويفضّل العيش في عصر ما قبل الإنترنت، متمثلا قول إحدى شخصيات “كتاب المساكين” لمصطفى صادق الرافعي “إن أيَّ نعمة لم تَنلْها هي نقمةٌ لم تَنلْك”. ولكنه سوف يكون عندئذ خارج التاريخ والجغرافيا معا، لا يستفيد بأيّ حال من الأحوال مما أنتجه العقل البشري، فضلا عن العزلة التي يمكن أن يتردى إليها.
أي أن إنسان هذا العصر ليس أمامه إلا أن يكون خاضعا للإنترنت بأي شكل من الأشكال، ويخطئ من يتصور أن الاكتفاء بالجوّال وحده سينجيه من التلصص، لأن المكالمات نفسها تحوّل مباشرة إلى وكالة الأمن القومي “NSA” التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، حيث يقوم عدد من الخبراء والتقنيين بفك شفرتها، وتخزينها لاستعمالها عند الحاجة، ولا تستثني الوكالة أحدا، حتى حلفاء الولايات المتحدة من كبار العالم. وسيتواصل استغلال معطيات البشر حيثما كانوا، سواء تبرّعوا أو امتنعوا، في غياب تشريعات تحميهم. والخطر أن تستعمل المعطيات المخزنة في توجيه ميول الناخبين عند الاقتراع، كما حصل في سباق الدورة الأولى لانتخاب مرشح الحزب الجمهوري في الرئاسية الأميركية الأخيرة، حيث استغل فيسبوك معطيات الملايين من الأشخاص كانت بحوزة كمبريدج أناليتكيا للتأثير على الناخبين.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي صادق مؤخرا على قانون لحماية المعطيات يحدّ من اقتفاء مستعملي الشبكة والاستيلاء على معطياتهم دون علمهم، ولكن براديغم تبادل المعلومات الشخصية مقابل خدمات مجانية لم يُلْغَ، بل إن بعض المواقع الإلكترونية مثل وي وارد (WeWard) الفرنسية يقترح علنًا على مستخدمي الشبكة مقابلا ماليا عن تنازلهم طوعا عن معطياتهم، باعتبار أن الخدمة المجانية تجعل المستخدم هو المنتوج المروَّج. يقول إيف بنشيمول مؤسس الشركة “حاولنا الاحتذاء بالنماذج الاقتصادية العملاقة كغوغل وفيسبوك اللذين يتأتى دخلهما في معظمه من الإشهار الموجّه، فهما يبيعان أصحابَ الإعلانات ملفات شخصية مأخوذة من المعطيات التي يعرضها المستخدمون للمشاركة، عن وعي أو غير وعي. والاختلاف بيننا وبين تلك الشركات أن المستخدم منتوج لا محالة ولكننا نقدم له وعدا باقتسام المداخيل”. هذه الفكرة أغرت الفرنسيين حتى أن 40 في المئة منهم عبّر عن استعداده لبيع معلومات معيّنة للمؤسسات، كموقعه الجغرافي أو سجلّ تصفّحه المواقع على الإنترنت. وقد قوبلت هذه المبادرات بانتقادات شديدة، رأت أن المعطيات الشخصية لا يمكن أن تتحول إلى سلعة، تماما كجسد الإنسان والحريات الأساسية وحق التصويت. ورغم ذلك تنامت عدة مؤسسات أخرى مثل “أوغوري” الفرنسية التي تعرض خدماتها على مستخدمي موقعها إما بمقابل مادي، أو بالتنازل عن المعطيات، و”باتوم” السويسرية التي تقترح بناء هوية رقمية لكل مستخدم، وفتح حساب خاص يستعمله حيثما كان، دون المرور عبر سلطة مركزية، ما يمكّنه من مراقبة معطياته مراقبة تامة.
ولكن ذلك كله لم يمنع فيسبوك وياهو وأمازون مثلا من مواصلة التجسّس على حسابات الأفراد، يكفي أن ينقر المستخدم صورة غلاف كتاب أو اسم تعاونية تأمين أو وكالة أسفار حتى تنهال عليه الإعلانات في المجالات المعنية، من شركات متنوّعة تعرض عليه بضاعتها. ومن يرفض مشاركة معطياته الخاصة يمتنع نظام الإدارة الثرموستاتي عن تحديث برمجياته، فينقطع الربط. ما يعني أن الخدمة لا تتوافر إلا إذا قبلنا الخضوع لمراقبة أحادية، خفية، ليس لها حدود.
لقد كان “الأخ الأكبر” يستعمل الأساليب القمعية في مراقبة شعبه للتمسك بالسلطة، ولا يهمه أن يسعد الشعب أو يشقى، أما شركات “غافا” فهي تراقب العالم كله بأساليب ناعمة كشدو عرائس البحر في الأوديسة، لها من السحر والجاذبية ما يفقد المرء وعيه بالواقع، وبالمخاطر التي قد تنجرّ عن الارتماء في برمجياتها وتطبيقاتها، وتزعم إسعاد الناس أجمعين. وإذا علمنا أن “الأخ الأكبر” شخصية متخيّلة، تمارس هيمنتها في بلاد متخيلة نقف من معاناة أهلها موقفنا من أبطال مسرحية تراجيدية، فإن “غافا” حقيقة، ولوغاريتماتها أداة لفرض الليبرالية الجديدة على سكان المعمورة، وخطرها ليس في استفرادها بتوجيه العالم والتحكم في خياراته فحسب، وإنما أيضا في جعل الاحتساب المعلوماتي بديلا عن المداولة الديمقراطية.