المراهق وصورته
“إنك تحلم بحياة لها دويّ، تحلم أن تحرق لا أدري ماذا، وأن تمزّق لا أدري ماذا، أن تسمو فوق روسيا كلها، أن تمرّ مرور سحابة ساطعة، أن تغرق العالم كله في الخوف والإعجاب، لذلك أرى من المفيد أن أحذّرك لأني أحمل لك عاطفة صادقة» من رواية «المراهق» لدوستويفسكي.
من خلال تجربتي الشخصية في عالم القراءة لم أجد في أرفف الكتب العربية ما يحمل تصنيف «شباب صغار»، أو مثلاً «بالغون صغار»، وهو التصنيف المتعارف عليه في الأدب والفنون الغربية بمسمى «Young Adult» وأدب الشباب الصغار، أو أدب المراهقين، رغمَ أنه تصنيف معترف به في الغرب منذ عام 1802، ويضم أعمالاً روائية لها ذات العناصر الأساسية من شخصيات وأحداث وحبكة. كما نجد هذا التصنيف في أسطوانات الموسيقى والأفلام، وحتى القنوات الفضائية، وتعنى إصداراته بكل من كانوا بين 14 إلى 21 عاماً مما يعزز أهمية التخصص في الإنتاج الأدبي والثقافي عموماً لهذه الفئة العمرية الناشئة، مستجيباً لميولها وأفكارها وتساؤلاتها.
وفي الأدب الغربي أيضاً لم يوجد أدب مخصص للمراهقين، فأنواع الأدب التي أتحدث عنها الآن في هذا المقام لم تكن نتاجا لمبدعين مراهقين، بل أبدعها أدباء كبار رأوا في هذه المرحلة العمرية ما يستحق أن تخلده أعمال روائية كبرى، وأبرز مثال على ذلك رواية «المراهق» للأديب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي، وهي الرواية التي حررها في أكثر من ألف صفحة موزعة على جزأين. وهي أشهر عمل أدبي تناول مرحلة المراهقة.
والرواية تشكل واحدا من أبرز الأعمال الأدبية التي أفرزها القرن التاسع عشر وصور فيها دوستويفسكي بدقة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لروسيا خلال هذه المرحلة، التي لم يتردد في نعتها بـ»المظلمة» ناقلا عبر فصولها الواقع المأساوي الذي عاشته روسيا حينها.
حين أنظر لتجربتي في القراءة أثناء المراهقة أجد كتباً للكبار، كتبا عميقة وجميلة طبعت أفكاري وروحي في مجال الشعر والرواية والمسرح، ولم يمنعني صغر سني في ذلك الوقت من تلمّس الجماليات
واختار دوستويفسكي شخصية «مراهق» ليقدم من خلاله رؤيته الخاصة لروسيا التي كان يعيش فيها متأثرا بما كان يعتريها من مشاكل، فقد عرض من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية نموذجا لشاب امتلك الشجاعة والعناد والمثابرة والتحدي، بما في ذلك التمرد على العلاقات الاجتماعية السائدة التي كان يحتقرها ويفضل بدلا عنها العزلة، فيقول على لسان الشخصية الرئيسية في الرواية «إن الفائدة التي جنيتها من قطعي للعلاقات الإنسانية هي الاستقلال وهدوء البال ووضوح الهدف».
فـ»المراهق» في رواية الأديب الروسي كان مثالا لفتى مثقل بآماله وطموحاته في أن ينجح في حياته، وتختلط فيه مشاعر متناقضة تتراوح بين الاعتراف والإنكار تجاه الوالدين والعائلة والمحيط القريب.
لكن هل هي رواية للمراهقين؟ وهل تحمل في ثناياها ما يثير مخيلة المراهق ويجذبه لتتبّع أحداث الرواية وتسلسل أفكار الكاتب؟ وهل تشبع رغبته في رؤية البطل -الإنسان العادي- الذي تتجاذبه نزعات الخير والشر؟ وهل هذا البطل لأبناء المرحلة المتأخرة من المراهقة؛ لأن النضج العقلي يكون قريبا من الكمال بحيث يفهم أن كل إنسان من الممكن أن يكون بطلاً بقدراته الخاصة، بعيدا عن الشخصية الأسطورية: عضلات كبيرة، قوة خارقة، ذكاء شديد… والتي تكون في مرحلة سابقة لنضجه الفكري؟
كثيرا ما استخدمت عبارة «مراهقة» على سبيل القدح، من طرف أشخاص لا شك أنهم مروا بها، حتى كدنا ننسى أن العبارة تدل على مرحلة عمرية تشكل لحظة انتقالية بين سن الطفولة والرشد، حتى أن المراهق -أو المراهقة- يبدو مثل كائن هجين لا هو بالطفل ولا هو بالبالغ، ما يثير لديه، ولدى المحيط القريب منه، إحساسا بأن هناك تغيرات مفاجئة تطرأ عليه وعلى نحو متسارع بشكل يخلق نوعا من مشاعر الخوف والفرحة في الآن نفسه.
«المراهقة» التي لا يتورع الكثيرون منا عن وصفها بأقدح النعوت -وبالتالي تنسحب هذه النعوت على الأشخاص الذين يعيشون مرحلة المراهقة- كانت (أي المراهقة) موضوعا للأدب والأعمال الإبداعية الكبرى، دون الحديث عن التصنيفات الأخرى المغرضة التي تصف أنواعا إبداعية بعينها بأنها «أدب مراهقين» أو «أغاني مراهقين» على اعتبار أن هذه الأعمال هي نتاج مراهقين أو موجهة إليهم فقط، رغم أنه ليس عيبا أن تفرز مرحلة عمرية للإنسان نسقها الإبداعي الخاص.
أما في مجال الشعر فقد أبدع رامبو أجمل قصائده بين سنّ السابعة عشرة والتاسعة عشرة خالقاً علامة فارقة في تاريخ الشعر المعاصر. فهل خرج بتفوقه ونبوغه الشعري من عالم المراهقة إلى عالم الكبار؟ هل نصنّفه شاعرا مراهقا، أم شاعرا كبيرا باعتبار أنّ ما قدّمه في سن المراهقة لا يستوعبه إلا الكبار؟
في مجال السينما والكتابة للمراهقين تتجلى صورة هاري بوتر التي اكتسحت مكتبات المراهقين وساهمت بشكل كبير في صنع ثقافة خاصة بهذه المرحلة العمرية، حيث مزجت الفنتازيا والسحر بالشخصيات مع وجود الكثير من الألغاز الشيّقة التي تشد القارئ والمتفرّج وتثير فضولهما. لكنّها تحمل من الهشاشة الفكرية ما يجعلها غير قادرة على صنع تطوّر حقيقي يدفع بنا إلى التساؤل هل نضعها في مصاف الأدب؟
في الأدب الغربي أيضاً لم يوجد أدب مخصص للمراهقين، فأنواع الأدب التي أتحدث عنها الآن في هذا المقام لم تكن نتاجا لمبدعين مراهقين، بل أبدعها أدباء كبار
في المقابل تصبح رواية «الحارس في حقل الشوفان» -للروائي الأميركي الشهير جي دي سالنجر- أشبه بكتاب مقدس لجيل المراهقين الغاضبين في أميركا، ومقررا رئيسيا في الكثير من مدارس وكليات تعليم اللغة الإنكليزية، رواية يمكنني القول إنها أنموذج للكتابات التي عرفت فيما بعد بكتابات الغاضبين. ولقد عبر جيل الرفض في أميركا عن تبنيه لهذه الرواية حين رفع شعار «كلنا هولدن كولفيلد» وهو اسم بطل هذه الرواية.
تعبر هذه الرواية عن الاشمئزاز والتقزز الأخلاقيين اللذين يعاني منهما صبي في السادسة عشرة من عمره تجاه المجتمع الأميركي. الجميع مثيرون للتقزز والسخط عدا الأطفال وخاصة الأطفال الذين ماتوا. إن مفتاح هذه الرواية هو كلمة «الزيف» التي تتردد خلال الرواية كلها. باستثناء الأطفال، الكل مزيفون.
لقد كان حلم البطل هولدن كولفيلد أن يعيش في كوخ على طرف غابة، حيث لا يلقى أحداً من البشر. والأمر المثير للتأمل أن المؤلف قد حقق هذا الحلم فيما بعد. لقد انتزع نفسه من المجتمع الأميركي ليعيش في كوخ على طرف غابة، لا يرى أحداً من البشر. وحتى زوجته لا تتصل به إلا من خلال الهاتف.
أما في العالم العربي فلا أجد سوى رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، والتي حصل من خلالها على جائزة نوبل للأدب وفيها عبر عن المرحلة المراهقة ونهايتها في الوطن العربي، فقد ذكر نجيب محفوظ نظرته في الحياة ومتى ستنتهي فترة المراهقة في الوطن العربي، وسجل فيها نهاية مرحلة مراهقة الرواية في مصر ودخول الرواية العربية مرحلة الرشد. لكنها لا توجّه خطابها إلى المراهقين.
يمكنني أن أضيف تجربة الكاتبة أحلام مستغانمي التي حصدت برواياتها المتأخرة إعجاب الكثير من القراء المراهقين بتلك اللغة السلسة والأفكار البسيطة التي تحرّك مشاعر قرائها وتتناغم بعفوية مع متغيرات المشاعر الإنسانية الأولى في مجال الحب واكتشاف الآخر. رغم التواضع القصصي وغياب المخيّلة. فهل يعني ذلك عدم جاهزية مجتمعاتنا لتبني التحوّل الذي يسيّر دفتها نحو مشروع أدبي عميق يحمل طروحات إنسانية أو حياتية أو اجتماعية وقادر على جذب المراهق في الوقت ذاته؟
حين أنظر لتجربتي في القراءة أثناء المراهقة أجد كتباً للكبار، كتبا عميقة وجميلة طبعت أفكاري وروحي في مجال الشعر والرواية والمسرح، ولم يمنعني صغر سني في ذلك الوقت من تلمّس الجماليات وتتبّع العمق الإنساني والفكري والأدبي الذي زخرت به تلك القراءات.