المستقبل حدث أمس
تمتلك رواية لطفية الدليمي “خسوف برهان الكتبي” من المقوِّمات البنائية ما يسمح بوصفها بأنها تقوم على “التجريب اللاشكلي”، المتواشج مع طبيعة السرد من حيث الأحداث والشخصيات والسياقات التي تتقصاها الدلالة، وليس بتعمد المغامرات الأسلوبية والتداعيات الشكلية المفرغة من الهدف، أو غير المنسجمة مع استراتيجية السرد ومبتغاه ودلالاته.
ربما بدا ذلك الوصف استباقياً يتصدر التحليل، ويثير التساؤلات عن ماهية تلك العناصر التي أتاحت ذلك الوصف. لكن الرواية القصيرة، التي تبدو كأنها قصة طويلة لمحدودية شخصياتها وأحداثها وأمكنتها، تحفّز القراءة على تتبع إجراءات التجريب الأسلوبي والرؤيوي في هذا العمل الذي ينص على التجريب حين تصفه الكاتبة داخل الرواية بما أنها إحدى الشخصيات بالقول في رسالة موجهة للقاص الستيني المعروف أحمد خلف المحرر في مجلة “الأقلام” إن “القصة” التي قدمتها للنشر في المجلة – ولم تُنشر لأسباب مجهولة – هي أنموذج تطبيقي من عملها الجديد في القصة خلال عقد التسعينات باعتبارها “شهادة عملية عن التجريب بديلَ قولٍ نظريٍ يظل قاصراً عن أداء ما يبثه النص ذاته إلى القارئين” (ص57).
ولعل أبرز تلك العناصر التجريبية، التي كانت عمود الرواية الفقري، وبؤرة انتشارها المركزية وخليّتها المعنوية التي أنتجت دلالات العمل، هو التوثيق السياقي الذي سنذكّر به؛ لأن الأحداث تباعدت عن ذاكرة القراء، أو أنها أصلاً بعيدة عنهم كونها تجري على حدود قرنٍ يلفظ أيامه الأخيرة.
فالرواية مؤرخة في أكتوبر1999 في بغداد، التي كانت على وشك أن تختتم عقداً من العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة بعد حرب الخليج الثانية، التي قامت بسبب غزو صدام حسين للكويت، وما جرَّه على الشعب العراقي من عزلة وحصار اقتصادي دبّرته أميركا وحلفاؤها استهدف الشعب ذاته، لا صانع المغامرة.
لقد عزّ الدواء والغذاء، وحُرم العراقيون والعراقيات من التواصل مع العالم، وتصدير نفطهم، واستيراد ما يحتاجونه لحياتهم اليومية، وسادت حالات إنسانية بالغة المأساوية تمس حياة الناس ومصائرهم، وهاجر الآلاف من الأفراد والأسر بحثاً عن العيش الآمن بعد أن استنفدوا سبل مقاومة العوَز وباعوا ما يمكن بيعه. برهان الكتبي نفسه – شخصية العمل الرئيسة – سيبيع كتب مكتبته التي ورثها أبوه عن جده بينما تتصاعد نداءات المؤلفين عبر الأزمنة متوسلة بالبقاء، ويبيع تمثال الملك السومري شولكي الذي يمثل حضارة وطنه وماضيها مضطراً، لأنه لم يعد قادراً على العيش بما تمنحه “البطاقة التموينية” الشهرية المقننة في موادها وكمياتها التي تبيعها الدولة بأسعار رمزية، والتي ألصقت الكاتبة نماذج منها على غلاف الرواية كنايةً عن المعاناة التي ستودي بذاكرة برهان الكتبي ووجوده.
2
للعتبات النصيّة دور مهم في القراءة لتوضيح نزعتها التجريبية، إذ يتحقق بالعنوان اختزال فذ لمصير برهان الذي ستكسف الشمس بأيامه فينخسف به القدر، ويغيب كقمر حزين. إنني أكتب الآن بعدوى لغة الرواية الشعرية، لغة تسبح في تهويمات صورية وتشبيهات أخّاذة سنعود لها. لكن العنوان يجسّم الفاجعة: تخسف الوقائع المؤسية ببرهان الذي يحمل اسمه ما يوافق عقلانيته وثقافته. تقول الساردة بهذا الصدد وعن أهمية التسميات “الأسماء في الحياة وفي النص لها سرِّية الرمز المحجوب وعلانية المثال المجهور به” (ص59).
من هنا اكتسبت الأهمية في القراءة وقمنا بتقبلها، فتسمية برهان تشي برغبة في التأمل لديه، ويعززها تصفح كتبه التي يقتلعها من قلب مكتبته وقلبه ليبيعها في سوق الكتب بشارع المتنبي ببغداد فأغلبها عرفاني وتقشفي يتجه إلى الروح. أما زوجته التي تواصل البحث عن برهان بعد ضياعه في شوارع بغداد، فتحمل اسماً ذا دلالة هو “دليلة العرفاني”.هي دليلة برهان في عمى ذاكرته ولقبها – العرفاني – يحمل إيحاءً تصوفياً ويشتمل على لغز المعرفة التي يسعى إليها المتصوفة. والخسوف القمري مستعار لوصف غيبوبة برهان عن ذاكرته ونسيانه المتصاعد. هذا المحفل المسمياتي يضفي على العمل وغرائبيته ظلالاً تقشفية تعصف لا بأجساد الضحايا فحسب بل بأرواحهم العارفة.
ويطالعنا استهلال الرواية كأحد العتبات النصية بالواو السردية التي تنبئ عن أحداث سبقت القص، وقد سكت عنها. تبدأ جملة الاستهلال هكذا “ولا عهد لبرهان بالنسيان والسهو، والذاكرة لعبةُ بقاءٍ تضلل الموت عن اللاعبين” (ص3)، فكأنها بذلك تستأنف ولا تفتتح كلاماً جديداً. إنها تشجع على تبيُّن ما لم يقله العمل، وهذه صدمة لغوية تنقل القارئ وقراءته إلى حقل التجريب الذي سيقع في كمائنه. كما تهيئ القارئ أو تُوجّه قراءته إلى هذا التصادم بين الذاكرة والموت، في لعبة تحاول فيها الذاكرة أن تحيى لتُضلَّ الموت عن طريقه.
3
تعمل اللغة شعرياً في الرواية لتزيد قوة التجريب وغرائبية الوقائع واختلاط ذاكرة برهان الكتبي. وتؤدي تلك الوظيفة بمهارة، فيبدو سقف الوصف مرتفعاً على مستويات السرد الأخرى.. فتحتشد الرواية منذ البدء ببلاغات وصفية لا تثبت إلا بعد تحليلها في عملية التقبّل. عبارات مثل “ومن روحه تسيل أشذاء الغسق الذي تطفو في أزقة بغداد وتختمها بالآس وورق النارنج والتراب الساخن المرشوش بالماء” (ص ص 3 – 4) مثلاً، وثمة شمس ضاحكة، وخرير ماء نحيل، وستائر لها زرقة النبع، وأزاهير الأسئلة تتفتح على فراغات غامضة، و”صيف يتجول نحيلاً يابساً.. يرش النهارات بوهج برتقالي يغبش المرئيات في رهج حرارته الراعشة، ويعشي في الظهيرة أبصارنا وهو يستدرج رياح الصحارى وسراباتها إلى وقت الزوال” (ص 25).
لقد تماهت لغة السرد الواصفة مع ضياع ذاكرة برهان وسط ندمه ولوعته وعوَزه، وأخذت هذا السمت الشعري من طوافه الغريب في الشوارع وفي الذاكرة التي تقطعت أوصالها، فاكتفت بومضات تمنحه رؤية قصيرة ثم تنقطع.
4
لقد استوعبت الدلالةُ المعاناةَ بشفافية ودون مبالغات أو شعاراتِ صمود وتحدٍّ مما كان سائداً في الخطاب الحكومي والحزبي حينها، مكابرةً على ما أصاب البلد من دمار، وما تعرضت له النفوس من (خراب كبير) كما تصفه الرواية بجرأة لا بد أن ننوه بها. ففي أجواء القمع وتكميم الأفواه تقص لطفية الدليمي عن قصة محجوبة عن النشر، وعن بطل قصة يشهد على لحظة جنون مجانية خسر فيها الشعب ماضيه وحاضره.. إنها تكشف عمّا أصاب الروح من خسائر.. “الحصار يجفّف أيامنا على منطق الصبر الأليم، بينما تختم الشمس بكسوفها الكلي قرن الدم والحروب بنجوم ظهيرة مستحيلة” (ص 26).
يسمح التجريب للكاتبة بأن تأتي بشخصيات حقيقية.. كوجود الكاتبة ذاتها، التي تكون الساردة داخل الرواية في فصلها الثاني، حين تصلها رسالة من دليلة العرفاني زوجة برهان الكتبي، تعنونها لها باسمها الصريح “لطفية الدليمي” لتؤكد ميزة تجريب قوية هذه المرة، وتقتحم السرد راويةً على سرد الرواة وساردة عليمة فوق سردهم. يظهر برهان متشرداً وزوجته تتحدث عن فقدانه وبحثها عنه.. ولطفية تحدث قراء الرواية عن برهان بكونه (بطل قصتها الأخيرة خسوف برهان الكتبي) المحجوبة عن النشر في عدد المجلة الخاص بالقصة.. لطفية تخبر قراءها بما لا تعلمه دليلة: برهان يقطع الشوارع متشرداً بعد أن قاوم الجوع ببيع ماضيه ومعرفته.. لكن ذاكرته لم تصمد فخرج ليتلقى قسوة الخارج: تُسلب نقوده ويؤذيه الصبيان ويطرده المشردون عن مناطق تشردهم. ويضيع مع ضياع ذاكرته وينتهي بأضواء سيارة مسرعة.
“برهان” يقابل كسوف الشمس بخسوفه. إنه الآن بسنيّه الثلاث والأربعين محطَّم الذاكرة. تأتيه صور القذيفة التي دمَّرت موضع الجنود في حرب الخليج الأولى فنجا منها بينما مات رفاقه الثلاثة.. وتظل له بسببها استيهامات وتهيؤات. يبحث مثلاً عن أخيه غسان الميت قبل تسع سنين في الحرب أيضاً متفحماً داخل دبابته، ويستذكر ملمس الكتب المخبَّأة في زاوية الموضع بعد الانفجار.. ذاكرته المدمرة تُعد تمثيلاً لحياة تختطفها الميتات المجانية. يتألم لأنه باع تمثال الملك السومري شولكي “بعته وكأنني فقدت ابناً” (ص11)، ويعاتبه التمثال مطالباً إياه بأبديّته التي أضاعها برهان في إحدى نوبات غيبوبته، وتظل عبارته تؤرق برهان وتلازم كوابيسه “لا تفرِّط بك” أي بهويتك وتاريخك ببيعي.. لا سيما أنه باعه لشخص باعه بدوره لدبلوماسي أجنبي طار به إلى بلاده! تلتقط هنا لطفية الدليمي مأساة تهريب كنوز العراق الأثرية، وما جرى لها بتدبير منظم لمحو هوية العراق الحضاري، وسلبِ شعبها روحَه التي تمثله شواخص حضاراته.
ثم يفرّط بالمعرفة كي يشتري ما يقتات به: يبيع كتب مكتبة جدِّه التي تركها أبوه له. ومنها تتصاعد بكاءات ونشيج كتَاب تعلَّم منهم: ثم ساقهم للبيع في سوق الكتب الأسبوعي في شارع المتنبي ببغداد.
5
ثمّة جرأة كبيرة في تذكّر الحرمان والشظف وفي ضياع الماضي ودمار الحاضر وفقدان المستقبل.. جرأة مع الذات أولاً حين تفضح الكاتبة ما أصاب المثقفين كشريحة نخبوية متقدمة اجتماعياً من ضعف تحت طائلة ظرف لا إنساني أرغمهم على التخلي عن كثير من عناصر وجودهم، وفي مواجهة الرقيب في زمن العسف والدكتاتورية وتكميم الأفواه حيث يُمنع نشر القصة دون بيان الأسباب التي تقول الرواية إنها ليست بحاجة للبيان، فلقد كان مطلوباً أن تتحوّل الهزائم انتصاراتٍ كاذبةً، وأن يصوَّر فقر الإنسان وضعفه قوةً وإصراراً، وحبّه للسلام اندفاعاً في حروب لا إنسانية.
تتحدث لطفية الدليمي عن ذلك وسواه بمباشرة لا تقبل التأويل والتخفي عن قراء منحازين ضد نشر القصة، فقد جرى حجبها “تفادياً لقراءات المتربصين بإبداع هذا الزمان” (ص 49)، وتتهم بترميز لا يُخفى مدلوله “الوحش المنفلت في المدينة لا ذاكرة له إلا ذاكرة اللحم والفرائس، ولا غد يرتجيه، فهو يغتال حاضر الوقت ويلتهمه بين أبخرة القمامة وعفن البقايا والعظام” (ص 41). ولا تخطئ القراءةُ تأويل ذلك الترميز الموحي إلا بصورة دكتاتور لا يكفيه ما يسفك من دم، ولأولئك المعتدين الذين جلبوا أسلحتهم الفائقة ليهدّوا كل شيء بلا رحمة. وفي بيان الخسائر التي تعدت الأجساد إلى خراب الأرواح، فلا مستقبل “المستقبل كان قد حدث منذ سنين وانتهى” (ص 10)، وكان الماضي والحاضر قد تم تدميرهما أيضاً. وبهذا تستبق الكاتبة ما سيحصل للبلد من انحدار يلغي مستقبله حتى الساعة، فقد حُكم عليه أمس حين جرى ما جرى. إنه كبرهان ذاته “يقف الآن بين ظلمتين: ظلمة الماضي المنسيّ والآتي المجهول، وأما حاضره فإنه بدد بين كائنات الحضيض وأقفاص الظلمة” (ص 74). وليس ضعف برهان وضياعه أمراً شخصياً .لقد أرادت الكاتبة عبره أن ترسم صورة لنهاية ماضي البلد كله وضياع مستقبله وخواء حاضره، وعلامة ذلك بيع برهان لتراثه وشتات ذاكرته وجهله لمفتاح باب بيته.. ترميز يتوقّى محاذير الرقابة ولا يفصح، لكن الدلالة تشفّ عبر الكلمات والصور وتصل إلى الأفهام والعقول.. ولنلاحظ أن الرواية نشرت في مدريد بعيداً عن أوكار الرقباء والقراء المتحيزين.
6
قصة فوق قصة، تكتب لطفية الدليمي باسمها رسائل لبطل قصتها بعد ضياعه وتسلمها لزوجته، وهي بدورها تكتب للطفية الدليمي رسائل بالاسم. وتحدثها عن قصة برهان التي دونتها وحجبتها مجلة “الأقلام” حينها عن النشر. فتكون ضرباً من قصة محورية تتشظى في الرواية وتنمو معها، فتكون الرواية في طرف منها عن القصة المحجوبة كما هي عن أحداثها. وهذا العمل نوع من التجريب الوظيفي الذي يوسّع ويوضّح في الآن نفسه إشكالية برهان الكتبي بعد أن ندم على بيع تراثه ومعرفته، وصار هائماً بلا ذاكرة في شوارع بغداد قبل أن يصحو صحوة الموت، فيتسلل إلى مطبعة الجريدة، وينشر القصة المحجوبة بعد أن يأخذها عنوة من أدراج مصححي المجلة ومحرّريها. يدخل بهيئة غريبة أقرب إلى الهيئة الشبحية، ويطلب بإلحاح يقرب من التهديد أن يسلّموه مسودّة قصة لطفية الدليمي القصيرة التي لم تُنشر، وحين يرفضون يمضي إلى الأدراج وسط دهشتهم لينتزعها ويخرج من البناية المرآتية التي تقع بها غرفة محرري المجلة، وهي كِسرة شديدة الواقعية في الرواية، لأن المبنى هو ذاته الذي تقع فيه المجلة حتى اليوم. وهكذا نرى نمطاً من التغريب يعيش على معلومات واقعية ويربطها بمخيال مزدوج هو مخيال الكاتبة وهلوسات واستيهامات بطلها، بل عدواها الممتدة إلى من شاهدَه، كالمحرر الذي ظل يتصور ما رآه حلماً لا واقعاً.
تنتشر القصة أيضاً بعد نشرها بطريقة سحرية حيث توزَّع بطريقة غامضة وتراها زوجة برهان عند باب بيتها. لقد عاش برهان الكتبي إذن عبر نشر قصته، وتحققت نبوءة الكاتبة حين أعلنت بعد حجب قصتها أنها ستُنشر بطريقة أو أخرى، كنايةً عن استحالة كتم الكلمة وحجْب الإبداع. وفي إمكان قراءة أخرى أن تجد في نشر القصة بهذه الطريقة انعكاساً للرغبة في التغلب على الحصار سواء جاء من الخارج كالعقوبات الاقتصادية المؤلمة، أو من الداخل حيث القمع والخوف المفرط من السلطة وجلاوزتها ورقبائها.
لقد أفلحت لطفية الدليمي في توظيف العناصر السياقية لخدمة الدلالات الآنف ذكرها، وقدمت تثبيتات مكانية متصلة بسياق الحصار، ومعاناة برهان كمثقف تتعرض حياته لمسلسل أخطار تبدأ بحرب الخليج الأولى، ثم تتعمق بالحرمان واستلاب هويته التاريخية والمعرفية ممثلة باضطراره بيع كتبه وتمثال الملك السومري في الحرب الخليجية الثانية، وتصاب ذاكرته بعطب ونسيان كاسح يسلّمه للشارع وجهل الأمكنة والأسماء والأحداث. لكن لطفية الدليمي لا تريد لوعيِه أن يزول كذاكرته؛ فيظل شاهداً عل ما أصاب البلد وأهله من ويلات وخسائر وتكون جولاته التشردية صوراً أخرى للخراب، ولبغداد وقد سلبتها الحرب روحها وزينتها.
لا يموت برهان الكتبي يقيناً في النهاية، يظل كقمر في الخسوف متهيئاً لإشراقة أخرى وطلوع جديد. وإذا كانت الأمثولة الشعبية وطقسها البدئي يربطان الخسوف بحوت يبتلع القمر، فيذهب ضياؤه لبرهة، فإن لطفية الدليمي تكافئ صبر برهان وعناءه وصبرنا كلنا على ما نشهد من محن وعناء بأن تجعله عصياً على الغياب. فتقول لنا سطرا الخاتمة بعد أن يفتح برهان عينيه مبتسماً، ما نصّه “كان القمر المخسوف قد عاود الإفلات من جوف الحوت، وبدأ قوسه اللامع بالسطوع في عتمة المساء” (ص79).
حتى لو كانت تلك انبعاثة رمزية كما في الميثولوجيات الرافدينية الشائعة، فإن ذلك تمجيد للقيامة والوقوف بعد العثرات الماحقة. شيء من روح عنقائية عرفها تاريخ هذا الشعب المجالد للألم والهزائم.
7
يستوقفنا المصير الأخير المتعين نهائياً لخسوف برهان الكتبي في الخاتمة، ومصير قصة لطفية المحجوبة التي امتلكت قوة حضورها و”قدرتها على الظهور في أيّة لحظة قادمة، واحتفظت بقوة أثرها ما إن مورس الحجْب عليها” (ص57).
كان مشهد ارتطام جسد برهان بالسيارة العابرة معبّراً.. وجدوا الصحيفة – وثيقة حياته – في جيبه وفيها قصة “خسوف برهان الكتبي”. لقد وصلت رسالته إذن رغم الضياع الذي عاناه وعانته القصة أيضاً.
لقد حاولتُ عبر الفقرات السبع الماضية أن أثبت ما افترضته حول التجريب اللاشكلي والمرتبط عضوياً بالدلالة في رواية لطفية الدليمي “خسوف برهان الكتبي” المحتشدة رغم قصرها، وبعد زمن كتابتها (1999) بما يمكن عدّه شهادًة، كما وصفتها الكاتبة، لما دلَّت عليه الأحداث والوقائع اللاعقلانية التي مرت بالعراق، ترقى إلى المدوَّنة التاريخية التي نعود إليها تحصناً من فقْد الذاكرة التي أصابت بطل الرواية، ورجا في لواعجه ألا تصيب أحداً.. فقد حدث كل شيء وانقضى، تماماً كما أن المستقبل قد حدث واكتمل ألماً وخساراتٍ وهزائم.