المعارك الأدبية في عصر الفضاء الإلكتروني
اتخذت المعارك الأدبية نسقًا أدبيًا، إذ أن الكلمة مجازية، حيث أن المعركة هي ميدان القتال. وكانت تلك السجالات موضع اهتمام الأدباء، ومتابعة المثقفين، وفضول القراء، وتصفيق المشجعين، لمّا تولّد من فكر، وتستنهض العقل، وتبعث قوى الإبداع والتحدي. وارتبطت حركة الأدب في القرن العشرين بالمعارك الأدبية على صفحات الجرائد والمجلات، حيث كانت تحمل أهدافًا عُليا تصب في مصلحة إنعاش الواقع الثقافي والأدبي، ولفت انتباه المتلقي إلى حقائق عديدة تصحب التطوير، وقامت تلك المعارك على أسس نقدية؛ فأسهمت في إشاعة الوعي النقدي القائم على التعليل والتحليل، المبنيّ على المعرفة، وتمتلئ بالثقة وتقدير ذات الكاتب للثقافة، وحرصه على دفع الأجيال الشابة إلى التفاعل مع ما يحدث، وهو ما يجعل لهذه المعارك حضورًا كبيرًا في الساحة الثقافية العربية، إذ أن وجود معارك وسجالات أدبية وثقافية يدل على حيوية البيئة الثقافية، التي يتحرك فيها المبدعون والمفكرون. ويؤكّد على انفتاح هذه البيئة على رؤى ومشارب وأفكار وثقافات أخرى متنوعة، تتصارع وتتبادل وتؤثر في بعضها البعض، وتؤدي إلى تغييرات عميقة في البنية النقدية والثقافية والإبداعية، نتيجة لجدل المذاهب والمدارس الفكرية والثقافية، إذ تزدهر السجالات الثقافية في اللحظات التاريخية الحاسمة في تطور المجتمع وثقافته.
تؤدي المعارك والسجالات الأدبية إلى ظهور مصطلحي “المحافظين والمجددين”، وتنطلق من أفكار متنافرة ومتصارعة، فتوجد أسلوب الرافعي في مقابل أسلوب طه حسين والعقاد، والذي يُمكن أن يكون سجالًا بين مدرستين فكريتين: المدرسة الكلاسيكية التقليدية، والمدرسة المنفتحة على الثقافات الأخرى والداعية إلى الاستفادة منها، أو بين التقليد والحداثة، أو التجديد والتقليد، أو الأصالة والمعاصرة، وتُفرز كتابات لا يزال لها وزنها في الحياة الأدبية والثقافية العربية. ويولد الشعر الإحيائي في مقابل المدرسة الرومانسية، ويظهر التيار الروائي المحافظ عند محمد هيكل وعبدالحليم عبدالله وغيرهما، مقابل التيار الروائي المتمرد عند إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، وسواهما. وتبرز الحوارات الحادة بين العقاد وصلاح عبد الصبور، وبينه وبين حجازي، كما يظهر الصدام الحاد بين محمد مندور والدكتور رشاد رشدي. لكن طبيعة هذه المعارك كانت تُعبّر عن النقد الذاتي والبنّاء، فكل شاعر يطلب من الآخر زيادة التضحية ضد المستعمر، وإفساح المجال للشعر الحماسي؛ كي يُحقق أهدافه القومية في الوطن العربي بحرية وممارسة وجدانية. ومن الأمثلة الأخرى ما حدث بين أحمد أمين وزكي مبارك، إذ يكتب الأول كتابًا وسلسلة مقالات “جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي”، فيرد عليه الأخير بعنوان “جناية أحمد أمين على الأدب العربي”.
تركت المعارك والسجالات أثرًا عظيمًا في إثراء الحياة الثقافية بحوارات فاعلة ومنتجة تطرح الجديد وتتلقى ردود الفعل والصدى الذي يُميّز بين كاتب وآخر، أو يُعلي من شأن طرح على آخر، أو يُغلب قضية على أخرى، بما يُحقق شكلًا من التبادل المعرفي الخلاّق، ولا نزال نحتفي بأثر الجدل الذي كان يحتدم بين كثير من أعلام الأدب والنقد العربي، حول قضايا أدبية نجمت عن اختلاف المذاهب الأدبية، وصراع القديم الكلاسيكي والمحدث، والصراع بين التراث والوافد، وصراع الفصحى والعامية. وقد شهد الأدب العربي هذا النوع من المعارك مجاراة لاحتدام الصراع بين الأدباء والمثقفين في الساحة الثقافية حول الحداثة والمحافظة، القديم والجديد، الثقافة العربية والغربية، فينشأ الخلاف والاختلاف بين كبار الكتاب والأدباء، ويُصاحب ذلك المدارس الأدبية الحديثة، وسيطرة الصحف والمجلات على قيادة الصراع بين المثقفين، وزيادة وتيرة الاسترسال في تعقيد مسائل الخلاف سواء أكان لغويًا أو في قضايا الأدب والنقد الأدبي، وتتسع القاعدة الجماهيرية للصحف بفعل حدة الصراع بين الأطراف، إذ يُصبح لكلّ كاتب أنصاره يدافعون عنه، ويتحيزون معه، وله مخالفون يصبون عليه جام غضبهم. ومثل هذه المناقشات تتمّ في غاية من الروعة، وتهدف إلى إثارة اهتمام الناس بهذه الموضوعات، وقد نجح الأدباء والمثقفون في ذلك، إذ رفدت هذه المعارك وحرَّكت الجدل الثقافي في مصر والوطن العربي، وأفرزت جيلًا من المثقفين الذين تربَّت ثقافتهم على قبول الآخر ومجادلة رأيه بعيدًا عن الانغلاق والتعصب الأعمى والقاتل.
خبا نجم هذه المعارك والسجالات الأدبية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يعد لها دور في الحياة الثقافية، إلا أن سنوات الستينات تشهد معركة أدبية دارت رحاها بين الشيخ محمود شاكر في مجلة الرسالة في ثوبها الجديد، ولويس عوض الذي كان ينشر مقالاته على صفحات الأهرام بوصفه مستشارًا ثقافيًا فيها، وشكلّت هذه المقالات الأسبوعية مصدرًا ثريًا للثقافة، وكان لها صدى كبير بين المتابعين، وتوجهات الشباب الأدبية والفنية، وقد جمع محمود شاكر لاحقًا مقالاته في سفر ضخم بعنوان “أباطيل وأسمار”.
تبدأ هذه الظاهرة في الانحسار شيئًا فشيئًا، بل وتنحو منحًى مغايرًا لا يُحرك سكونًا في الحركة الثقافية، بقدر ما يترك أثرًا سلبيًا، ولعل ذلك يعود، إلى غلبة الشخصي على العام في موضوع السجال، فقد كانت سجالات القرن العشرين تدور حول قضايا عامة، فكرية أو نقدية، فيما أصبحت اليوم تتناول قضايا جانبية وجزئية، ترتكز في ظاهرها على قضية نقدية؛ لكن معالجتها لا تجاوز شخصية أديب ما، ولا تترك أثرًا في نظرية الأدب ولا في تطوره. كما يرجع إلى اختفاء القمم الثقافية، وظهور صراع بين تيارين: تيار الحداثة الوافد، وتيار التراث الراكد، بالرغم من أن النهضة الثقافية تحتاج إلى النظر في الجديد الوافد وأخذ ما هو مفقود في التراث منه، بعد تطويعه، والأخذ من التراث بما فيه صلاحية للوقت الحاضر.
وتركد المعارك الأدبية اليوم بسبب انخفاض المستوى التعليمي انخفاضًا كبيرًا نتيجة السياسة التعليمية، والتي تعتمد على التلقين. كما أن أجهزة الإعلام قامت بتسطيح عقول الشباب بوساطة برامج غير هادفة. وبات مفهوم المناظرة يعني الهجوم على الآخر. حيث أن الأدباء حاليًا انكفؤوا على ذواتهم، وأصبحوا يكتبون بين جدران المنزل في عزلة تامة عن بعضهم البعض. بالإضافة إلى وجود فقر ثقافي شديد عند المبدعين فكثير منهم يحمل موهبة عالية لم تُصقل بثقافة معاصرة عميقة ترفد هذه الموهبة وتُجادلها مع الآخر. فضلًا عن أن الواقع الثقافي لا يسمح بمثل هذه المعارك؛ لأن الناس يلهثون وراء لقمة العيش بعد أن أصبحت الحياة صعبة، لذلك تقلّصت المساحات المخصصة للفكر والثقافة في بعض المنابر التي تخاطب الرأي العام. بالإضافة إلى أن بعض المعارك الأدبية القديمة أتت بعد فترة من الركود الفكري، وكانت تدور حول قضايا فاصلة ونقاط فارقة وأفكار ربما يستمعون إليها لأول مرة، ومن شأنها أن تُحدث ضجيجًا وحماسة وعصبية. إلا أن مثل هذه الأفكار أصبحت معهودة ومتداولة وليست بالجديدة، مما يجعل الخلافات حولها أهدأ صوتًا وأقل حدة. ويُمكن القول إن الاختلافات في الرأي سمة من سمات المجتمعات الحية. ولهذا ستظل المعارك الأدبية قائمة بين الشعراء العرب.
يشهد القرن الحادي والعشرون، قرن العولمة والكوننة، اندماج المثقف مع تيارات ما بعد الحداثة والعدمية وما بعد العدمية التي أجمعت أغلب أطروحاتها على “هامشية الإنسان” وعجزه عن التغيير بعد المفكرين الكبار، وما دام الإنسان غير قادر على التغيير، فعليه أن ينشغل بهمومه الخاصة وحياته اليومية، ومن هنا تسربت النزعة الفردية والذاتية للأدب. وعاد للحركة الثقافية في العالم العربي بعض من حراكها، إذ يشهد الفضاء الإلكتروني المفتوح، المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك وتويتر والمنتديات الإلكترونية، الكثير من المعارك الأدبية. وفي ظل سهولة النشر الإلكتروني، ومع انتشار وسائل التواصل، تحولت المعارك الأدبية إلى صراعات بين المتخاصمين، فلكل فريق مؤيديه، وهو ما تعكسه التعليقات والهوامش المصاحبة لكل طرح، سواء على مستوى المقالات الصحفية والهوامش المصاحبة لها، أو هي في النهاية لا تخرج عن مواقف صارمة “مع أو ضد”، أو على مستوى النصرة لفريق على حساب آخر من المؤيدين لهذا أو ذاك. وفي الحالتين زادت من تأجيج الاختلاف، والوصول به أحيانًا إلى درجة الخلاف. هذا على مستوى النديّة في الصراعات والطرح المتبادل، على أن عملية التواصل الإلكتروني أضافت بُعدًا آخر للصراعات الأدبية من خلال تناقل الأطروحات، وتعميم الفهم الخاص لها، والتنديد به من ناحية، أو الإشادة به من ناحية أخرى، وكلا الموقفين ينطويان على التطرّف في أغلب الأحيان، وينتج عنه تطرف مضاد، وهذا يعني أن عملية التواصل الإلكتروني خلقت حضورًا مؤثرًا وفاعلًا في الصراعات الفكرية والثقافية. ومعظم ذلك يتمّ بأسماء مستعارة لإخفاء عيوب الأطروحات، والتي من أهمها الأخطاء اللغوية والأسلوبية، وكذلك سقم الأفكار محل الخلاف، والتي معظمها يدور حول المرأة والحرية الفكرية، والسعي من ورائها إلى تحقيق الإثارة الفجة، وإشغال المتلقي عن الثقافة الجادة، التي تسعى إلى شحذ الطاقات الفكرية لدى الجمهور، ودفعهم إلى طرحها. وقد شاعت المعارك الالكترونية وازداد عبثها فأصبحت وبالًا على المعرفة وليس دعمًا لها.
تعتبر المعارك الأدبية الإلكترونية امتدادًا طبيعيًا للمعارك الأدبية الشفهية والمكتوبة، لكنها تختلف عنها في إمكانية إخفاء شخصية المهاجم، والاختباء خلف مسميات وهمية متعددة، وتؤدي غرضها في إزعاج الخصم دون الكشف عن هوية المهاجم، وهو ما يعتبر مشكلة؛ كون المستهدف سيبقى عاجزًا عن الرد على المهاجم الحقيقي. كما أنه قد لا يعكس الحجم الحقيقي للمشكلة، أو لردة الفعل تجاهها، حيث يُمكن للخصم وبسهولة الحصول على حشد كبير مساند له في أيّ معركة أدبية ممن قد لا يكون لهم ناقة فيها ولا جمل، إلا تعاطفًا مع صديق افتراضي طلب منهم المساعدة، فلو كان لدى أحدهم 5000 صديق افتراضي في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وطلب منهم مساعدته في معركة أدبية، فإن تجاوب ولو قسم منهم معه سوف يُظهر الموضوع وكأنه رأي عام أدبي محتشد خلف طرف ضد آخر. كما أن إيقاف مثل هذه السجالات الأدبية والثقافية أو التحكم فيها غير ممكن، كما لو كانت على صفحات الجرائد، إلا بقناعة مختلف الأطراف. وعادة ما تتسبب في إشغال الأدباء والمثقفين بشكل كبير عن همومهم الحقيقية في ساحات الأدب والثقافة، خاصة مع سهولة إشعال فتيل معركة أدبية في عصر الاتصالات والفضاء الإلكتروني.