المعضلة التي تواجه الأدب

الجمعة 2016/04/01
لوحة: حمد الهيناوي

أقف متحيرًا أمام كل التعريفات والتنظيرات عن فن الرّواية، وأجدها قاصرة عن التعبير بدقة عمّا يدفع الرّوائيّ إلى القص والروي، هل يكتب كشاهد على الأحداث أو يكتب عن ذاته ونفسه وكل ما يعتقد أنه مستتر عن الناس أو لظنّه بأنه الأقدر على تفسير وتحليل كل ما يشغل الإنسان من سياسة وفلسفة واجتماع وسرائر باطنية؟

أنا ببساطة أكتب عمّا يشغلني، وعن أماكن أحببتها وأريد أن يحبها القراء، وعن أحداث رأيتها بأمّ عيني وعن حيوات آخرين تقاطعت معهم بصورة أو بأخرى، وعن أحداث تاريخية حدثت قبل مولدي بمئات الأعوام؛ قرأت عنها وشغلتني فوضعت نفسي بالقصد في المدى الزمني لها معبرًا عن رؤيتي وتصوري وحدسي على سبيل الاجتهاد. وهناك بالطبع أحداث مهمة جدًا في حياتي الشخصية تمنيت الكتابة عنها إبداعيًا لكنّي عجزت وأحبطت، وذلك لأن هذا الحدث الشخصي والعام كان أكبر من قدراتي العملية لا الأدبية، فأنا لم أنخرط في سلك الجندية وأعفيت من الخدمة، خاصة أن تخرّجي كان بعد مقولة السادات بأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب! ولذا لا أفرّق بين الأسلحة المختلفة ولا المواقع الحربية وخلافه، وهي من الأشياء الضرورية للكتابة عن الحرب مثلًا، رغم أني ولدت في عام 1955 وبعد ولادتي بأقل من عام استشهد “صالح” ابن عمي ونوارة عائلتنا – أثناء الاعتداء الثلاثي على مصر في عام 1956- على متن الفرقاطة المصرية “إبراهيم الأول” التي كان يعمل عليها كجندي بحري، وظل هذا الحدث يكبر معي وأنا طفل يوما بيوم، فقد كان والدي هو المكلف بإجراءات السعي خلف معاشه وامتيازات وضعه كشهيد كالاستثناءات التي حصل عليها أولاده في الالتحاق بالمدارس والإعفاء من المصروفات والتجاوز عن شرط المجموع وغيرها، وكان أولاد الشهيد منهم من في مثل سني أو يكبرني قليلًا، وكانوا يقيمون في الإسكندرية ويسافر لهم والدي كثيرًا، وعندما يأتون إلينا في القاهرة كان أهلي يحتفون بهم بشكل مبالغ وكذلك الجيران وكان ذلك يدهشني جدًا، حتى أنني تمنيت كثيرًا في طفولتي أن أصبح شهيدًا، وعندما كبرت بحثت في وقائع استشهاد “صالح” ابن عمي، وأذهلني ما وجدته؛ وهو أن إسرائيل في أكتوبر 1956 شنت عملية “قادش” وهي الاسم الكودي لعملية الهجوم على مصر بالتعاون مع إنكلترا وفرنسا، وفى ساعة مبكرة من اليوم الثالث (10 أكتوبر 1956) لعملية “قادش”، أبحرت الفرقاطة المصرية “إبراهيم الأول” من بورسعيد إلى خليج “حيفا” وأمطرت الميناء ومصفاة النفط القريبة من الميناء بـ220 طلقة وردّت سفينة فرنسية كانت تحمي الميناء النار على الفرقاطة المصرية التي نجحت في الابتعاد نحو بيروت، لكن تدخّلت قوات الجو الإسرائيلية وتم قصف المدمرة وضرب نظامها الكهربائي مما عطل سيرها وحيّد أدواتها القتالية، وغرقت الفرقاطة بطاقمها ومن بينهم ابن عمي عليه رحمة الله، واستطاعت سفينة إنكليزية تعويم الفرقاطة لأنها كانت إنكليزية الصنع، وتم تسليمها إلى إسرائيل التي أسمتها “حيفا” وكانت تربطها على أحد أرصفة الميناء، وترفع عليها العلم الإسرائيلي فوق العلم المصري للفرقاطة للدلالة على أنها أسرت في معركة.

حاولت كثيرًا أن أحول هذه الحادثة الواقعية التي تمس دم عائلتي إلى سرد روائي وفشلت، واعترف بأن تخيلاتي عن الواقعة وعما واجهه ابن عمي ورفاقه أكبر كثيرًا من حروف اللغة، وقد أنجح مستقبلًا وأتجاوز رهبتي وخوفي وأستطيع أن أنقل أحاسيس “صالح” ابن عمي وهو يخوض معركته الأخيرة وفي الوقت ذاته يفكر في وعده لأبي بأن يزورنا عند إجازته لكي يراني للمرة الأولى بعد مولدي؛ أنت يا صالح لم تخلف وعدك فأنا رأيتك كثيرًا في كافة المواجهات التي تحدث بيننا وبينهم.

صور أخرى تشغلني في زمننا هذا، فمازلت أذكر اليوم الأول من حرب أكتوبر، والناس مجتمعون حول أجهزة الراديو في الشوارع والمقاهي يهتفون ويهللون عقب كل بيان عسكري تصدره القيادة المصرية، كما يهلل الشباب الآن على المقاهي والمقاعد ذاتها عقب كل هدف لميسي، وأذكر اليوم الثاني للحرب عندما وجدت مجموعة كبيرة من الناس تتجه إلى جندي مصري مدجج بالسلاح والعتاد ويوبّخونه بشدة إلى درجة قريبة من الاعتداء البدني، وهو منزعج جدًا، ودسست نفسي بينهم ورجل عاقل يستفسر من الجندي ثم التفت ووقف يخاطبهم بعقل شديد، وأخبرهم بأن الجندي كان في اجازة ثم قامت الحرب، وأنه قطع إجازته ليسلم نفسه إلى قسم الشرطة حتى يحضر أحد من وحدته العسكرية وينقله إلى ساحة المعركة، وتبدّلت حالة الناس بسرعة واحتضنوه وقبّلوه وصحبه بعضهم إلى القسم. كذلك صور للاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وثورات الحجارة وكيف كانت تدفع بالناس إلى الشوارع تضامنًا وغضبًا على المحتل، ثم حرب الخليج الثانية التي نجحت أميركا في جعلها حربا تلفزيونية؛ يتابعها الناس كأنها نوع من المسلسلات ويتفاعل لحظيًا مع أبطالها ثم ينساها في اليوم التالي، وهذا ما يحدث في أيامنا هذه.. بعد انتشار “الميديا” وتقنياتها المرعبة التي تنقل لنا في التو واللحظة بشاعة المجازر بتفاصيلها شديدة الإيلام، ينساها الناس بعد مدة وجيزة كأنها حدث متخيل! أو معارك مصنوعة كالتلفزيون الواقعي! وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه الأدب حاليًا، فالواقع تجاوز الخيال بمئات المرات ورصده كتابيًا ما عاد كافيًا. وهذا ما أسأله لنفسي كثيرًا وعندما أجد له إجابة أعدكم بمقال جديد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.