المعقولية العربية ومقومات اليسار العربي الجديد
لذلك أعتقد أنّ الحديث عن التقدم وعن يسار عربي تقدمي جديد في الثقافة العربية حاليا يستوجب إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات اللازمة لإعادة بناء نهضة عربية جديدة تقوم على مكتسبات فلسفة النهضة وتطور مرتكزات انتماءاتنا الحضارية وتجذّر ملتزمات تحديث أنماط حياتنا وتأقلمها مع مستجدات العولمة. فيبدو لي أن مبادئ تقدمنا الحضاري الآن لا تكمن أساسا في بعدها التكنولوجي ومن خلال تطور العلوم واكتساب التقنيات الضرورية لتكوين مجتمع المعرفة، بقدر ما تتموضع داخل تصورات متجددة يجب استئناف البحث فيها من خلال معطيات واقعنا المتأزم قبل الثورتين العربيتين التونسية والمصرية وبعدهما.
يمثل تفكيك المعقولية العربية الحالية ونقدها نقدا جذريا كما فعلنا في أعمالنا السابقة بالمعقولية الغربية الحالية في صبغتها الليبرالية الجديدة حيث قد بينا سابقا أنها إقصائية في نمط علاقاتها بالغير تعتمد العنصرية والكولونيالية بداية ضرورية لتأسيس ركائز نظرية ليسار عربي جديد. وكما بينّا في مقال سابق صدر في هذه المجلة يصطدم المتصفح في معطيات المعقولية العربية بالشرخ العميق الذي يهد كيان هذه المعقولية التي تستورد تقريبا كل التكنولوجيات المتطورة ولكنها وفي الآن نفسه ترفض الحداثة ومستتبعاتها.
فالمعقولية العربية ما تزال ترزح تحت وطأة الوجداني والانفعالي والغريزي. وقد شدد الفلاسفة منذ أفلاطون على حيوانية هذه المرحلة واعتبروا أن الإنسان يكتسب إنسانيته متى تخلى عن سيطرة الوجدانية واستنجد بالعقل والتعقل.
في هذا الإطار لا بد من التنبيه على المكانة المرموقة لبعض الفلاسفة العرب الذين حاولوا نقد هذه المعقولية العربية الرجعية مشددين على دور العقل في بناء الثقافة العربية الجديدة وأذكر من بينهم صادق جلال العظم الذي وافاه الأجل يوم 11 ديسمبر 2016 وحسين مروة والطيب تزيني وعبدالله العروي ومحجوب بن ميلاد ومحمد عزيز لحبابي وعبدالوهاب بوحديبة وغيرهم. كل منهم بطريقته الخاصة ناضل فكريا لتحريك السواكن في العالم العربي نهوضا بالعقل والعلم وأخص بالذكر هنا محمد عابد الجابري الذي حمل مشروعا متأصلا ومنفتحا يهم مكوّنات ما يسميه «بالعقل العربي» لأنه قد عالج أزمة الفكر العربي وحاول تقديم الحلول الفكرية الممكنة من وجهة نظره معتمدا على ما تركه لنا تراثنا الثري من إمكانات عديدة لقراءات متجددة وتأويلات دقيقة تسمح لنا بالسيطرة على أزمة حاضرنا بعقل تنويري يمكّـننا من الاستفادة بمستجدات العلوم وتطورات الفكر.
لقد شعر فقيد الفلسفة مثله مثل هشام شرابي أن مرحلة بناء الفكر العربي بعد استقلال البلاد العربية لا بد أن تمر بنقد ذاتي يعيد الأمل في بناء ثقافة تقدمية ويكون ذلك في فلسفة الجابري بمعالجة ثلاث قضايا مصيرية وهي باقتضاب: إعادة قراءة تاريخنا حسب قاعدة علمية تعتمد ما وصلت إليه فلسفة التاريخ ابتداء من ابن خلدون ووصولا إلى ميشال فوكو، والهمّ المنهجي في ذلك هو الابتعاد عن القراءة التراثية للتراث. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الإشكالية بقيت مطروحة إلى يومنا باعتبار أن المد البترولي السلفي يحتاج إلى تخدير الجماهير العربية بالمجد التراثي ليبقى ناهبا لخيراتها وذلك بدغدغة عواطفها والاستنجاد بوجدانها.
لذا رأى محمد عابد الجابري أن من واجبه التعرض إلى هذا الوجدان بالتحليل وتقديم نظرة شاملة عن العقل العربي الذي مازال يخضع للبيان وللوجدان. وهي القضية الثانية التي عالجها في مشروعه الفلسفي الضخم وتتمثل في «نقد العقل العربي» وإعادة بنائه على أسس علمية قويمة وذلك بتحليل معطيات الفكر الإسلامي الكلاسيكي بما في ذلك علم الكلام وعلم النحو العربي والشعر والخطابة وعلم تفسير القرآن وعلم الحديث وطبعا الفلسفة المشائية والاستشراقية.
فتعرض أولا إلى علوم البيان ناقدا ما يسميه بالعقل البياني الذي يعتمد القياس منهجا (القياس البياني) وتعرض ثانيا إلى علوم العرفان الذي يعتمد مجالات الوحي والوجدان والانفعال كمنهج إبيستمولوجي للمعرفة فنجد ذلك واضحا في التصوف مثلا وفي الفلسفة الشيعية كالإسماعلية وفي بعض مدارس التفسير وفي الفلسفة الاستشراقية وفي بعض مدارس علم الكلام وفي بعض العلوم العربية كالكيمياء وعلم الفلك وغير ذلك. وتعرض أخيرا إلى علوم البرهان الذي يعتمد إبيستمولوجيا منهجا تجريبيا ومنهجا تحليليا مثل ما نجده في المنطق والرياضيات وعلوم الفيزياء وفي الميتافيزيقا.
وقد أخذت معالجة هذه القضية الجانب الأكبر من حياته لأنها استوجبت وصف بنية «العقل العربي» وتركيباته المختلفة كما استوجبت تفكيكه ونقدها وفرضت على الفيلسوف معالجة تمظهراته في المجتمع والسياسة وفي الأخلاق وأنماط العيش داخل المجتمعات العربية.
الحديث عن التقدم وعن يسار عربي تقدمي جديد في الثقافة العربية حاليا يستوجب إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات اللازمة لإعادة بناء نهضة عربية جديدة تقوم على مكتسبات فلسفة النهضة وتطور مرتكزات انتماءاتنا الحضارية
أما القضية الأخيرة التي عالجها الفقيد ولعلها لم تكتمل تتمثل في كيفية استخراج عقل عربي منفتح من خلال العملية الضخمة المتمثلة في نقد العقل العربي. لذلك عاد إلى قراءة القرآن قراءة عقلية محاولا إيجاد ما به يمكن للعقل العربي أن يستعيد قضاياه فيقضي بذلك على هيمنة الوجدان في ربوعنا.
ورغم الاحترازات التي قدمتها في أبحاثي حول مفهوم العقل العربي الذي أعتبره مجانبا للصواب لأن العقل لا يخضع لمعطيات جغراسياسية فإن مشروع الجابري يرتكز على محاولة استئناف تحاليل قضايانا بالعقل والعلم. لذا فأنا أستعمل تصور المعقولية العربية عوضا عن العقل العربي فالعقل كوني يعتمد المنطق العام وبه تتواصل الإنسانية كاملة. فلا يمكن أن يكون لكل حضارة عقلها.
فالمهم أنه حاول توجيه «العقل العربي» نحو الممكن ونحو التقدم والإبداع. لقد سيطر الفكر اللاهوتي على المعقولية العربية وأغلق زمانيتها بطريقة جعلتها تنعزل عن العالم وتفقد مكانها الذي كان أساسيا في القرون الخمسة الأولى بعد ظهور الإسلام.
ما العمل إذن إذا ما أردنا لهذه الربوع وضعا مغايرا يجنح نحو التقدم العلمي والتكنولوجي في تناغم مع التقدم المجتمعي والفكري؟
لعلنا هنا نستطيع تقديم مقترح تصورات لإجابة ممكنة من خلال رؤية متجددة يجب استئناف البحث فيها تحت معطيات حياتنا اليومية وواقعنا المتأزم ولعل ذلك سيساعد على بناء اليسار الجديد في الوطن العربي.
وأول هذه التصورات تهمّ مسالة الحرية بالذّات من حيث هي ركيزة أولية وضرورية لكل تقدّم ممكن. ومقاربة هذه المسألة لا تكون مجدية إلا إذا كانت مقاربة جدلية مفتوحة مرتبطة بمفاهيم مجاورة كالمسؤولية، والقرار والفردية والتعايش والغيرية وغيرها من مفاهيم أساسية تجعل من الحرية شبكة معقدة من التصورات والممارسات.
إلا أن المقاربة النظرية للحرية لا تكفي باعتبارها أيضا ممارسة في الأساس على المستوى الوجودي والاجتماعي يجب أن ترافق كل تفكير فيها وكل تنظير وتأسيس لها. فالتفاعل الحقيقي بين مفهوم الحرية وممارستها داخل كل طيات المجتمع هو الذي يعطيها ايجابية قصوى ويجعلها تسكن بسهولة كل مجتمع ممكن. على أن هذه الممارسة من حيث هي نتيجة التفاعل بين النظر والعمل ستكون مجدية في المجموعة إذا تأقلمت مع مفهومي العدالة الاجتماعية والتآزر بين الجميع. وسنتعرض لهذين المفهومين في مقالات مقبلة.
ودون إغراق تحليلي وحتّى ألخّص كل ذلك أقول بأن الحرية هي الحق بألاّ يخضع الفرد في المجتمع إلاّ للقوانين العامة. يعني ذلك أنه على المجتمع أن يضمن كرامة المواطن فلا يمكن اعتقاله أو سجنه أو قتله أو تعذيبه من قبل إرادة اعتباطية لفرد ما سواء كان هذا الفرد في أعلى هرم السلطة أو في أسفله، أو من قبل قرار اعتباطي لمجموعة من الأفراد.
أن يكون الفرد حرا في عصرنا يعني الحق بالتصريح علنا ودون رموز وواسطة ملتوية بآرائه ودينه وفلسفته واعتقاداته، كما يعني الحق في اختبار طريقة عيشه دون شرط أو تصريح أو جواز، وكذلك الحق في الاجتماع بأفراد عائلته ومجتمعه لأغراض نفعية أو دينية أو إيديولوجية أو سياسية. فهذا إذن هو المبدأ الأولي التأسيسي لكل ثقافة تقدم ممكنة. وعلى اليسار الجديد أن يتبنى هذه المعطيات المؤسسة للحرية ويدافع عنها ولا يتركها حكرا على الليبراليين واليمينيين. ويكون ذلك بربطها بمعطيات العدالة الاجتماعية التي يجب أن تكون في تناغم مع حرية الأفراد.
أما التصور الثاني الذي ينبني عليه فكر التقدم يتمثل في بروز «المدني» وتركيز شرعيته على المجتمع، وفي حقيقة الأمر فإن مبدأ الحرية في كل شيء، في الدين والأدب والفكر والصناعة والسياسة والمجتمع، يقودنا أساسا إلى تصور المدني من حيث هو نتيجة حتمية لتفاعل شائك بين الفردانية والاجتماعية، حيث لن يضمحل الفرد داخل مستلزمات المجتمع السياسية، ولن يغيب الوجود الاجتماعي المشترك عن الفعل الفردي والحق الإنساني.
ولعل ما يجب الانتباه إليه هو أن مجتمعاتنا العربية مازالت تولّد السياسي لقمع المدني، ومازالت السلطة فيها ترتكز على شبكة هائلة من الإقصاءات المتعدّدة، بحيث سيكون السّويّ المصطنع الذي قد تمت صناعته داخل الأسرة وفي المدارس وتحت وطأة الأيديولوجيات الرسمية هو المواطن الوحيد الممكن بالنسبة إليها بحيث سيكون حق الاختلاف والتعارض غير ممكن بالمرة في هذه المجتمعات السياسية.
لوحة: جوني سمعان
الفكر العربي السياسي بصفة عامّة لم يجد توازنه الخاص في عملية تجذير الحياة السياسية في المجتمعات العربية لأن هذا الفكر بقي دائما في حالة التساؤل المستمر عمّا ينبغي أن تكون عليه السلطة في تعاملها اليومي مع الأفراد وفي بناء مشروعيتها التي تضمن لها البقاء والنّجاعة، لذلك اتجه الفكر عامّة نحو إيجاد حلول لهذه التساؤلات، تارة تتمترس المشروعية خلف التراث الديني فتتخذ منه حصنا «منيعا»، ضد غوائل التيارات الصراعية المعارضة في شكلها العنيف لذلك لا يمكن لهذه الأيديولوجية الدينية أن تقبل التعارض أو الاختلاف، وتارة أخرى تحاول المشروعية الاعتماد على الحاضر بتعقّد مشاكله وتنوّع معطياته لتنفتح على المستقبل وتبني بذلك فكرا تقدّميا يستند إلى العقل العلمي والتقني. فمجتمعاتنا العربية حتى بعد ثورتي تونس ومصر بقيت تتأرجح بين هاتين المشروعيّتين ولم يستطع الفكر العربي السياسي إلى الآن أن يقوم بهذه القفزة النوعية ليطرح جانبا وبصفة نهائية المشروعية الأولى وألا يعتمد إلا المشروعية الثانية. ويبقى الاختلاف واردا ولكن بين تقنيات وكيفيّات المشروعية الثانية.
هذا يعني أنّ على الظاهرة السياسية بصفة عامّة في المجتمعات العربية ألاّ تخرج عن المشروعية الفكرية المدنية وإلا انزلقت هذه المجتمعات إلى هيمنة عناصر غيبية لا ناقة للإنسان فيها ولا جمل. يعني ذلك أن اليسار الجديد في العالم العربي مجبر الآن على التحول من سياسة إخضاع العمل المدني لمشيئة أحزاب سياسية مركزية إلى التشجيع على تطوير النضالات الاجتماعية والمدنية ليكون فاعلا في تطوير القرارات السياسية.
ولكن علينا ضمن جدلية المدني والسياسي أن نبين بوضوح صيرورة مفهوم الشعب. لأن هذا المفهوم قد لعب دورا أساسيا في كل الثورات التي عرفها العالم بل إنه قد تأسس مع الثورة الفرنسية. ورغم نقد ماركس الذي بيّن أن ما يوجد حقيقة هو الصراع الطبقي وأن وحدة الشعب غير موجودة إلا في المستوى الأيديولوجي، فقد ذهبت بعض الدراسات الفلسفية، الآن وعلى غرار ما قامت به الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف، إلى إقرار نظرية الشعبوية السياسية.
نعم مصطلح الشعبوية في أذهان المثقفين سلبي وممارسات بعض السياسيين تنبذ الشعبوية ولكنها قد ظهرت في المدة الأخيرة ناجعة وأساسية إذ بها انتخب مثلا ترامب رئيسا جديدا لأميركا وبها زحف اليمين المتطرف في أوروبا نحو امتلاك السلطة. وهي التي سمحت للاتجاهات الإسلامية السياسية في الوطن العربي بالوصول إلى السلطة بعد ثورتي تونس ومصر. وسنعود إلى هذا المفهوم وندرسه على ضوء متطلبات اليسار العربي المنشود وضمن دراسة علاقة اليسار بالظاهرة الدينية. أما التصور الثالث الذي قد يركز فكرة التقدم في الحياة الاجتماعية العربية ألخصه في تصّور التعقّليّة.
هذا التصور الذي قد قمت بالتعريف به من خلال دراسة أعمال الفارابي عندما ربط بين النظر والعمل في تصوّره للعقل. فالعقل النظري «هو قوة يحصل لنا بها بالطبع لا ببحث ولا بقياس العلم اليقين بالمقدمات الكلية الضرورية» التي هي مبادئ العلوم. «والعقل العملي هو قوة تحصل للإنسان عن كثرة تجارب الأمور وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة مقدمات يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يؤثر أو يجتنب في شيء من الأمور التي فعلها إلينا»، فإن كان العلم والحكمة فضيلتي العقل النظري، فإن التعقل هو فضيلة من فضائل العقل العملي. والتعقل هو «القدرة على جودة الروية واستنباط الأشياء التي هي أجود وأصلح، فيها يعمل ليحصل بها الإنسان خيرا عظيما في الحقيقة وغاية شريفة فاضلة، كانت تلك هي السعادة أو شيء مما له غنى عظيم في أن ينال به السعادة والتعقل غير الكبس والدهاء وهو غير الخبث والجربذة وهو أنواع كثيرة يكون أساس تدبير شؤون المنزل وهو التعقل المنزلي، «ويكون أيضا أساس تدبير المدينة وهو التعقل المدني»، وهو أخيرا السعي لنيل «الخيرات الإنسية». فالتعقل يصبح إدراك «الأشياء الإنسانية» والسعي بها إلى نيل السعادة.
هكذا تكون التعقليّة تمشيا في الحياة يأخذ العقل ركيزة لأعماله فينفتح على النظر والعمل والإحساس والأخلاق. لذلك يجب أن تكون التعقليّة متجذرة في حياتنا اليومية وفي معاملاتنا المختلفة على كل المستويات. وما من شك أنّ تقلص العقل في المجتمعات يؤدي حتما بحسب الفارابي إلى سيطرة الدهاء والمكر لأن «العقل والكبس يحتاج كل واحد منهما إلى استعداد طبيعي يفطر الإنسان عليه. ومتى فطر الإنسان معدّا للتعقل التام ثم عاود الرذائل استحال وتغير فصار بدل التعقل ذا دهاء وخبث ومكر».
وأخيرا يكمن التصور الرابع في علاقتنا بالآخر. وفي هذا الصدد أردنا أن نتعمق قليلا في مفهوم الغيرية علّنا نفهم نجاعته من ناحية وتأثيره في تطوير فلسفة تقدمية متجذرة ومنفتحة في الآن نفسه. لقد عاب المحافظون على اليسار العربي تفتحه بل خضوعه أحيانا إلى إرادة سياسية خارجية. لذلك لا بد من ضبط مقومات علاقتنا بالآخر.
الفكر العربي السياسي بصفة عامّة لم يجد توازنه الخاص في عملية تجذير الحياة السياسية في المجتمعات العربية لأن هذا الفكر بقي دائما في حالة التساؤل المستمر عمّا ينبغي أن تكون عليه السلطة في تعاملها اليومي مع الأفراد
ففي مجال حديثنا العادي عن الأنا وعلاقاته الاجتماعية المختلفة، نستعمل مصطلح الآخر لنفيد به الطرف الآخر في علاقاتي واتصالي في كل مجالات الحياة. فالآخر مفهوم ينتسب إلى المتحدث في الهنا والآن. وبذلك لا يكون حضوره ممكنا إلا إذا أثبتنا حضور الذات المتكلمة. أما مصطلح الغير فهو لا يفرض الأنا مقابلا وطرفا للعلاقة الممكنة، بل يفترض الهو بصفته جوهر الوجود ومبدأه. فتكون بذلك الغيرية مقابل الهوية فتعني في كنهها علاقة سالبة للوجود.
فكلما قمنا بمقاربة اجتماعية للعلاقات البشرية حيث نستحضر الأنا نستعمل عادة مصطلح الآخر لنعبّر بوضوح عن مقتضيات هذه العلاقة وإشكالاتها. أما إذا رمنا التعمق فلسفيا في أصل وجود الآخر وجوهره، نفضل عندئذ استعمال تصورات الغير والغيرية حتى نعطي لهذه العلاقة بعدها الأنطولوجي. فالغير لا يفيد الآخرين كما لا يفيد الآخر بعينه من حيث هو شخص له حضور في المجتمع. كذلك يجب ألاّ نفهم من استعمالنا لمفهوم الغير هنا ما يكون غير الإنسان، كالحيوان أو الجماد أو النبات وغيرها بحيث أن الغير هنا لا يفيد الأشياء ولا الحيوانات ولا العالم الإلهي. لأننا نعني بالغير الإنسان الآخر الذي هو إنسان مثلي له نفس الحقوق ووجوده يساوي وجودي أنطولوجيا وأخلاقيا وقانونيا، ولكنه يختلف عنّي في نمط وجوده وحياته. يعني ذلك أن «الإنسان الغير» ليس هو فقط غير أنا بل هو أنا آخر، أنا الغير، هو الأنا الذي يختلف عن ذاتيتي وهو موجود مثلي في عالمنا المشترك له حضوره كأنا آخر سواء كان في علاقة معي أو كان منفصلا كل الانفصال عني.
يقول عبدالوهاب بوحديبة «الإنسان ليس إلا ذلك الكائن المغاير للغير بل المغاير لغير الغير. لذا يكون الوعي بالذات ثانويا على أساس أن الغير،منذ البداية، يسكن فيه ويتكون منه ويكشف عنه. وفي قلب الهوية تقيم الغيرية وتلتصق، بل تتسرب ضائعة في سلسلات لا تنتهي» (أنظر د. عبدالوهاب بوحديبة ، القصد في الغيرية - الوسيطي للنشر، تونس 2001 ص 10).
لكل ذلك سيكون تحديدنا للغيرية في علاقة جدل مع الهوية ومع الهو وسيقتضي هذا التحديد تفكيرا خاصا في معضلة الغير ومفارقات العلاقة بالآخر.
فهل الغيرية مشكلة في حد ذاتها؟ فهل الوجود من حيث هو وجود لا يمكن أن يحدث خارج الغيرية؟ ثم هل الغير هو عنصر وجودي باعتباره الوجه الآخر للوجود؟ هل كلما أردت أن أكون وجودا لذاتي سأكون حتما وجودا للغير؟ هل يوجد الإنسان الفرد خارج كل علاقة ممكنة مع الغير؟
عندما اعتبر أرسطو، (انظر بدايات كتاب أرسطو في السياسة)، أن الإنسان المتفرد إما أن يكون إنسانا فوقيا أو حيوانا تحتيا بحيث لن يكون متفقا ومتناغما مع مفهومه فذلك يعني أن الإنسان هو الكائن العادي الذي يفكر ويشعر ويحيا، يصيب ويخطئ، يحب ويكره وفي كل ذلك هو مجبر على نسج علاقات متواصلة مع الغير تسوسها طبعا المصالح والغايات ولكنها تمكّن الجميع من البقاء والعيش العادي. هكذا بالنسبة إلى أرسطو، لا يمكن أن نحدد الفرد إلا من خلال تلك العلاقات مع الغير من حيث هو وجود ضروري لإقرار الكينونة. بتعبير معاصر نستطيع القول بأن الإنسان هو كائن يقطن العالم بكل معطياته المادية والرّوحية وبكلل تشكل علاقاته التواصلية وكينونته فتحدد بذلك ليصبح حيوانا اجتماعيا.
تصميم: فادي يازجي
والمفيد هنا أن الإنسان ذات مندفعة في عالم عادي فهو ذات في علاقات أصلية مع الوجود الآخر. وهايدغير يرى أن الوجود المتفرد الذي يكون دون علاقة مع الآخر لا يمكن تصوره، بل إن النظرية القائلة بوجود المتفرد على حدة والذي يسعى فيما بعد إلى إيجاد علاقة مع متفرد آخر هي نظرية مغلوطة. فالوجود هو وجود معا. والوجود معا هو تحديد تأسيسي للوجود الإنساني. يقول هايدغير «إن الآخر لا يمكن أن ينقص ويخلف إلا في الوجود معا وللوجود معا. فالوجود المتفرد والمتوحد هو نمط ناقص من الوجود معا». (انظر هايدغير: الوجود والزمن - الفقرة عدد 26).
لا نتحدث هنا عن الوجود معا من حيث هو شرط بقاء الجنس الإنساني بالرغم من كونه ضرورة ملحة للعيش. ونحن نعرف نظرية شوبنهاور في «إرادة الحياة»، تلك التي تجعل من الحب رابطة ضرورية للحياة البشرية. يقول شوبنهاور «إن الميل المتزايد لمحبين اثنين هو في الحقيقة إرادة العيش لفرد جديد يستطيعان إحداثه». فالحب هنا وسيلة أساسية لتجديد الوجود واستمراريته من خلال «إرادة الحياة» .
كذلك لا نتحدث عن الوجود معا من حيث هو إمكان للكوجيتو وللأنا أفكر، من حيث هو خصوصية وجود كتفكير «يسيطر في الحال على جسدي الشخصي الوحيد والذي يعمل في العالم المحيط « حسب تعبير هوسرل في كتابه «التأملات الديكارتية».
قد يؤدي هذا الكوجيتو إلى نوع من الانعزالية للذات بحيث سيكون تحديد الأنا من خلال فعل التفكير لا غير، وكأن التفكير في حد ذاته لا يقع في العالم مع الآخر. لذلك أكد هوسرل على العالم المحيط من حيث هو الأساس للتفكير وللوجود معا. والتذاوت هنا هو محاولة لتجاوز الانعزالية في الكوجيتو وفتحه على الآخر. وهكذا تكون هنا الغيرية تأسيسية أيضا في تعيينها لهوية الإنسان المفكر.
نريد أن نشدد القول بأن الغيرية هي الوضع العادي للأنا وللهو. فإذا كانت الفلسفة هي عملية نقدية تأسيسية للوجود معا، فإن الغيرية ستكون هي أساس الذات والوعي وهي سمة الحرية الإنسانية. تبقى مع كل ذلك قضية علاقتنا بالآخر قائمة. لأن طبيعة الإنسان الحيوانية تجعل من الآخر جهنّم كما يقول سارتر. فهو معي ولكنه بحكم حيوانيته سيصبح في كل لحظة غريما وأحيانا عدوا يصبو إلى تنحيتي من الوجود. وقد بيّن هيغل في جدلية السيد والعبد عندما حاول دراسة إشكالية الاعتراف أن حذف الآخر مستحيل لأنه سيحذف الطرفين في الوقت نفسه.
ومهما يكن من أمر فإن الوجود في العالم يمكن أن يأخذ صبغة عنيفة كالحروب والإجرام وكل وسائل العنف المادي والمعنوي فتكون علاقتي بالآخر علاقة صمود ومقاومة، وهي علاقة طبيعية تبرّرها ضرورة البقاء البشري وهي علاقة مشروعة قانونا وأخلاقا يبررها الحق الأعلى في الوجود والحياة.
كذلك يمكن أن تأخذ الغيرية صبغة متسالمة تضمن علاقاتها مبادئ الحقوق والاحترام والتعقل فتكون عندئذ علاقتي بالآخر علاقة محبة وتآنس أي ما سميناه بالعيش معا في كنف الكرامة.
ولا يمكن تصوّر نظرية تقدمية ممكنة دون الأخذ بعين الاعتبار معطيات الغيرية وضرورتها من حيث هي إمكان الوجود والحياة، وعلى اليسار السياسي العربي الجديد أن يبني غيرية جديدة فاعلة وإيجابية حتى تأخذ هذه الغيرية صبغة تسالم وتعايش وذلك بالمزيد من التحكم في ذاتيتنا وأخلاقياتنا وقوانيننا وأنماط عيشنا ومجرى تصوراتنا وتفكيرنا لتكون متفتحة أكثر على الغير دون المساس بهويتنا ومصالحنا وقراراتنا واستقلاليتنا وهو أمر صعب لا محالة ولكنه ممكن إذا تخلت القوى التقدمية عن الخوف من تهمة التبعية وأعطت لمسائل الهوية حقها في الدرس والتحليل.
هكذا يرتبط إذن مفهوم اليسار العربي الأساسي ونعني التقدم بمفاهيم الإنماء والتطور والتحديث والغيرية ويكون ذلك بتجذير تصوّر الحرية في مجتمعاتنا وهيمنة المدني على السياسي وتركيز تواصلية بين أفراد المجتمع تقوم على التعقل واحترام الآخر وقبول المختلف.
والسؤال المطروح كيف تتأقلم هذه المبادئ العامة مع واقع الثقافة العربية والعالمية باعتبار أن الثقافة العربية رغم قبوعها داخل معقوليتها النقلية المهيمنة مجبرة على التلاقح مع الحضارة الغربية المهيمنة؟
بكل إيجاز نقول بأن ما ميّز حقل الثقافة العربية هو الاختلاف وشدة التنوّع. وقد يكون ذلك إيجابيا لغرس مستلزمات الفكر الحرّ والنقاش العمومي لقضايانا، ولكن الفكر العربي عموما قد كان عرضة لقمع شديد لم يشاهده أيّ قرن ولم تعرفه أيّ حضارة. فالمفكرون مقهورون في معظم البلدان العربية، بحيث أن الفكر ما زال يعيش القهر المتواصل وفي أفضل الحالات يستلزم المفكر في كثير من البلاد العربية ألاّ يتحدث في السياسة والمجتمع وأن يقبع داخل اختصاصه الضيق وأن يكتفي بوظيفته حتى لا يصبح غربيا كامل الغربة في وطنه. وقد تواصل ذلك بعد الثورتين العربيتين في تونس ومصر ولكن بطريقة أخرى حيث تم استبعاده وحلّت محل المثقف المفكر مجموعة كبرى من السفسطائيين المحللين للأحداث يتهاطلون على الفضائيات والإذاعات والصحف خدمة لمموّليهم من أحزاب ومجموعات مافياوية وحتى منظمات وأجهزة خارجية.
وقد كان الهدف من كل ذلك هو القضاء على الاختلاف والتنوع الفكري حتى تسيطر أحاديّة التفكير من جديد. ونتيجة كل ذلك هو استقرار التخلّف في ربوع عالمنا العربي. فلا غرابة أن ينعزل الفكر عندنا وأن تهجرنا العقول الذكّية والفاعلة، ولا غرابة أن تسود مجتمعاتنا نسبة تفوق 50 بالمئة من الأميين. فهل من تقدم ممكن في ظل عدم توفر العدالة الاجتماعية عندما تبقى المرأة مثلا مشلولة وفاقدة لأبسط حقوق الإنسان في أغلب عالمنا العربي، وفي ظل تكريس القيم التراجعيّة تعليما وإعلاما واجتماعا؟
ليس من السهل تغيير الأوضاع العربية ولن يكون ذلك من خلال تدخل الأجنبي سلما أو حربا، بل قد يكون ذلك من خلال مقاومة عناصر التخلّف على كل الأصعدة.
وقناعتي تكمن هنا في وجوب تأسيس فلسفة عربية جديدة تقوم على أسس عقلانية من ناحية وعلى مستلزمات التحديث والتقدم من ناحية أخرى. ويكون ذلك بتركيز تصوّرات الحرية والمواطنة والتعقلية التواصلية والغيرية المتسالمة في العمل المدني والسياسي. وهي ما سمّيته بفلسفة التآنس انطلاقا من قراءاتي للفارابي وأبي حيان التوحيدي ومسكويه.
ولا بد أن نذكر هنا أن فلسفة التآنس هي إمكانية التفكير في الشروط الموضوعية والروحية للتقدم، أساسه الأنس والحرية والتعقل والمواطنة، وقد تظهر هذه الفلسفة في التصورات التي تتحدد حول مفهوم الاتفاق كما نجده عند الفيلسوف الأميركي راولس أو التواصل كما نجده عند الفيلسوف الألماني هابرماس أو التآزر عند الفيلسوف الكندي بايلور، أو الضيافة عند الفيلسوف الفرنسي دريدا. كل هذه المفاهيم هي تصورات تعالج وضعية الإنسان المتردية في عالم تسيطر عليه معقولية الهيمنة، هذه المعقولية التي تتمحور حول العقل الأدواتي الحسابي المنغلق.
وخلاصة القول ليس ثمّة من شك أن فكرة التقدم كما وردت في الحداثة قد قامت على أساس تكوّن الثقافة الغربية من خلال سيطرتها اقتصادا وسياسة على العالم، فاقترن كل ذلك بالتقدم الصناعي والتكنولوجي وسيطرة رأس المال كما أنها انبنت على سيطرة العقل وانتشار العقلانية في المجتمع وتطوّر الفكر التنويري الذي وجد بذوره في فلسفات القرن الثامن عشر وظهور الحركات النقدية التي قد أخذت أحيانا بعدا تنسيقيا. قد يمكن ذلك أيضا في مواصلة مشروع التحديث التقدمي في عصر العولمة، عصر ما بعد الحداثة حتى بعد اكتشاف العالم أن فكرة التقدّم قد لعبت دورا كبيرا، على الصعيدين الثقافي والأيديولوجي في تبرير حركات الاستعمار الهائلة. فلا ننسى أن حركيّة ما بعد الحداثة تقوم على ما يسمّى بفترة ما بعد الاستعمار أي أنّها أعلنت بداية نهاية سيطرة أوروبا على العالم كما أنّها قد أعلنت بوضوح أزمة نزعة التيار الأوروبي وأدخلت الفكر الريبي التشكيكي ورفضت الكلية وكرّست فلسفة التنوّع.
من هنا فإنّ فكرة التقدم إذا حصرناها داخل تصوّرات استعمارية فإنها ستكون غير مجدية لمعالجة وضعنا الحالي، لأنها ستقترن بوضعيات فكرية وأيديولوجية واقتصادية قد تمّت محاربتها في المجتمع العربي أثناء حروب التحرير. أمّا إذا حرّرناها من سيطرة الفكر الحداثوي وجعلناها محرّكا للتحديث، أي تحديث كلّ جوانب المجتمع والثقافة بما في ذلك التراث وذلك خدمة للحياة الجديدة، فإننا سنستطيع بكل جرأة وشجاعة أن نبني مقومات فكر تقدمي يقوم على إنتاج الحقائق العلمية في كل جوانبها، ويفتح المجال للفرد أن يختار نمط حياته ليثبت انتماءه ومدنيّته بحرية وتعقل واحترام للغير والعيش سويّا، وهذا المشروع الإصلاحي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر ويتواصل الآن رغم الأزمة العنيفة التي تهزّ كيان الإنسان العربي، قد يأخذ اليوم صبغة متجدّدة تتأسس على الحرية والمدنية والتعقّليّة والعيش معا بالعزّة والكرامة والقوّة وحبّ الحياة. ولعل ذلك هو الهدف الأسمى المعلن في الثورة التونسية.
ولعل الثورة التونسية التي يحاولون اليوم تحويل وجهتها هي الولادة لليسار العربي الجديد الذي يجب أن يقوم على المبادئ المذكورة : حرية فردية واجتماعية ونشاط مدني نضالي وعيش مشترك بالكرامة وحب متواصل للحياة من أجل تنمية شاملة تضمن السعادة لكل أفراد الشعب.