المعلن واللامعلن

أدب الاعتراف العربي
الجمعة 2019/02/01
لوحة محمد ظاظا

الاعتراف هو الإقرار بشيء كان يستوجب الإخفاء، وقد يكون هذا الاعتراف طوعا أو كرها، لكن ما نحن بصدده الآن هو النوع الأول بالتأكيد. النوع الذي فيه يقرر شخصٌ بكامل إرادته الإفصاح عن أمر يخصه لا يعرفه أحد غيره، يفعلها وهو يعرف بأنه سيجرح صورته لدى الآخرين لا محالة، كذا مكانته في المجتمع وحتَّى سلامته الشخصية. يفعلها وهو واع بأنَّه يكسر تواطؤا عاما على الصمت ويكون مهيئا ولو جزئيا لأن يتلقى ما يُمكن أن نُسميه عقابا ما من سياقه المحيط بتنوعات تصنيفاته ومرجعياته.

السياق الاجتماعي والقانوني والأخلاقي منتج الإدانة ومن ورائها العقاب ليس قاسيا في انضباطيته إلى هذا الحد الذي يبدو عليه فبه ثقوب كثيرة تمرر نقيض ما يمتدحه في العلن. هذا السياق المحرض على الكتمان يعترف مثلا بالبوح بلا حد أو حساب ولكن خارج أي إطار للتوثيق.

هكذا ينتهي كل وجود للأدب لأن جوهر الأدب في حقيقته الأبسط هو فعل التوثيق الذي تتنكر له مثل هذه الأعراف.

الهلع من كسر الصمت

ربَّمَا هو الخوف.

الخوف من سقوط قطعة الدومينو التي ستغير كل شيء.

الخوف من هشاشة تختبأ تحت سطح صلابة ظاهرية تخاف أن توضع تحت اختبار فتُفتَضح.

الخوف من عالم لا شيء فيه مرتب. عالم لا يمكن إحكام القبضة فيه سواء من قبل رجل الشارع العادي على حياته الخاصة أو من قبل رجل السلطة الأبوية على رعاياه في أدوار الأبناء مسلوبي الإرادة والقانعين بهذا الدور.

ربَّمَا هو التنعم في دنيا الأبيض أسود والتي تعفينا من ثقل التفكير وهو فعل يبدو بداهة مفترضة في حالة إنسانية مرت بكل هذه التجارب ونالت كل هذه المكتسبات الحضارية إلا أنها مازالت تخافه وتتحاشاه بأي ثمن كان.

ربَّمَا يكون هذا الخوف من التفكير مبررا فبداخله يطو أفعالا أخرى مربكة مثله. أفعالٌ كالحيرة، وتعدد الاختيار ووجوبه، وحتَّى جبرية دفع ثمن الأفعال التي اخترناها طوعا.

برج بابل هذا والمسمى بالتفكير يسبب ارتباكا في وعي من اعتاد على تعايش منطقين لا يلتقيان أبدا وإن تجاورا: منطق الإبانة ومنطق الإخفاء. ولكل أرضه ومنطقة نفوذه وكما قلنا لا يلتقيان.

سيظهر في الأفق إذن سؤال جديد لم يكن في الحسبان. أيجب أن أقول؟ أيجب أن أظل صامتا الآن؟ لا خطوط واضحة بين ما يجب أو يصح وما لا يجب.

كما أنَّ تخيل أن يبوح الجميع بما في داخلهم ينتج في وعي إنساننا ابن الأبيض أسود ذا مجتمعا من أناس لا يعرفهم ولا يستطيع توقع سلوكياتهم أو تعميمها أو إسكانها في قوالب جاهزة مما يفضي به بالضرورة إلى الطرد من محيط آمن اكتسبه بسلسلة طويلة من التواطؤ مع ما لا يحب والتضحية بما يحب.

حتَّى خساراته هذه لن تجد ما يمنحها شاعريتها الحالية. إذن فالمسألة حقا وكما يبدو ويظهر مسألة حياة أو موت. ربَّمَا يبرر هذا، ولو بشكلٍ جزئي، عنفه في التعامل مع أي بادرة تهدد بجرح معادلته المستقرة هذه.

أسباب الغياب

لن يوجد أدب اعتراف عربي ما لم ينضج المتلقي بالأساس والذي يظل يتعامل مع كل سرد على أنَّه خيال حتى يقابل أول منطقة شائكة في طريقه فيبدأ في اليقين بأنَّ هذا الفعل هو فعل كاتب الكتاب لا بطله وأنَّ هذا رأي الأول وقد ألبسه للثاني المغلوب على أمره كقناع لا أكثر ولا أقل.

هل يعني هذا أن القارئ وحده هو المخطأ؟ لا يمكن طبعا الجزم بهذا ففي مناخ مركب كالذي نحيا فيه جميعا كثيرا ما يلعب الكاتب نفسه على هذا الالتباس في وعي المتلقي فيمرر آراءه هو عبر أبطاله حتى لو جاءت مناهضة لتكوينهم الشخصي. يفعل ذلك وهو يعرف سلفا بما سيفعل متلقيه ويظلّ علنا ينكر نسب هذه الآراء بل ويتعمد إعلان نقيضها.

ما حاجته إذن لكتابة أدب اعتراف أو إقرار بأخطاء مدفوعة الثمن ما دام هناك هذه المعادلة أو اللعبة والتي تمكنه في لحظات انفلات الأمور وخروجها عن حدها الآمن من التنصل من كل شيء؟

هل هذا مشروع؟ ربَّمَا لا لكن هل مشروع أصلا أن يشكل قارئ مجهول، منبت الصلة بقراءة الأدب إلا كنوع من التلصص على الآخر، سلطة ضد الكاتب تنتهي به وراء القضبان؟

لا يمكن طبعا إنكار حالات تضخم تصورات الفنان عن الذات وحرصه على صورته المعلنة، لكننا تجاوزنا هذه الأسباب وغيرها لأننا هنا بصدد الحديث عمن يريد تقديم أدب اعتراف لكنه ليس مستعدا لتحمل التبعات أو دفع التكاليف.

لوحة: إيمان شقاق
لوحة: إيمان شقاق

هكذا لا يمكن بأي حال لوم طرف وتجاهل الآخر. القارئ في إطار مظلوم وفي آخر ظالم كذا الكاتب. فمن ظلم من؟ حسنا، لنر الأمور من منظور آخر، فبما أن غالبية مستقبلي الأدب -وربما أكثرية منتجيه- في محيطنا الجغرافي ينتمون إلى سياق ديني يرى أنَّه “إذا بُليتم فاستتروا” فلا يمكن الحديث بعدها عن أدبِ اعتراف معلن.

مع هذا المانع الديني الذي يرى في الاعتراف نوعا من هتك الستر الذي منحه الله جلَّ جلاله لعبده الضعيف والمغلوب على أمره والذي من المفترض أن يمتن له على هذه الحماية لا أن يتجرأ ويرفضها، فأي إنسان ذا الذي سيجرؤ على كتابة أدب اعتراف واضح وصريح إن رآه بهذا التصور. وأي مُتلق بالتبعية سيقبل به إن رآه بنفس المنظور؟ هكذا تتضاءل أكثر وأكثر فرصة وجود أدب اعتراف عربي معلن، ويزداد حضور الهامش غير المعلن له.

هناك أيضا رجال السياسة ورجال القانون ورجال الدين وكل منهم سيختار دائما الانحياز إلى المجموع الأكبر على حساب الفرد الوحيد والهش عديم الأثر. يتم هذا الانحياز إما عن إرادة واعية وإما بحكم التكوين الشخصي الذي لا يشكل الأدب فيه شيئا يذكر فهؤلاء مثلهم مثل عامة الناس الذين يطالبون بمصادرة كتاب وسجن كاتبه ليسوا قراء أدب بالأساس، وما يصلهم منه هو ما يشذ عن الأعراف التي يتبنونها فيسقطون هذا النموذج الذي وصلهم على بقية ما لم ولن يقرأوه أبدا. هكذا تنشأ عداوتهم اللاعمدية والأبدية للأدب.

أدب غير معلن

يمكننا أن نرصد هذا الوجود اللامعلن كما قلنا سالفا في إساءةِ تلقي القارئ نفسه للأدب المتخيل، فهو يصنع منه حقيقة في لحظات بعينها، ويبدأ في التعامل معه كسيرة لامتخيلة. ومن هذه اللحظة يلعب الأدب المتخيل دور أدب اعتراف كامل الأركان لا ينقصه شيء سوى الاعتراف به وطبعا يعني بالضرورة دفع ثمنه.

فلا يمكن محاسبة بطل رواية على جريمة أيا كان حجم بشاعتها بينما كسر جدار الأمان هذا سيجعل من الجريمة فعلا جرى بحق على جوارح إنسان مسؤول أمام القانون. بهذا تكون الجريمة المتخيلة في حق الأخلاق أو الدين أو السياسة أيا كانت على ضآلتها فعلا يهدد السلم الاجتماعي بأكمله. هو في الحقيقة لا يهدد هذا السلم بل يهدد ثنائية إبانة/إخفاء السالف ذكرها، ويهدد الركود الآمن في العقل، ويهدد حالة الإعفاء العام من تحمل نتائج فعل اليد.

وجه آخر يمكن أن نرى فيه هذا الجانب اللامعلن لأدب الاعتراف العربي، إنه الأوراق غير المنشورة للكتاب، بما تتضمنه من رسائل، مسودات أعمال معدة وغير معدة للنشر بل وممنوعة منه، كذا اليوميات والجلسات الخاصة، وحتَّى مجرد الخطوط العجلى على هامش دفتر أو جريدة أو كتاب.

في هذه الحالة يكون الفنان مجرد إنسان يكتب لذاته، لا يحمل هما لقارئ ولا حسابا لرقيب. قد يعترض أحد على اعتبار هذه الأوراق أدبا للاعتراف لكن مجرد احتفاظ الأديب بها دون تمزيقها يعني وعيا حقيقيا باحتمالية نشرها في يوم ما. لتبقى هذه الأوراق وثيقة شديدة الدلالة وكثيرا ما تكون شديدة القسوة فترسم صورة مغايرة عن صاحبها فيما يُعدُّ حالة التعري الأكبر حتَّى من أدب الاعتراف الموثق والمنشور بهذه الصفة والخاضع لرقابة النشر مهما بلغت درجة جرأته وصراحته.

الدافع على فعل الاعتراف

الاعتراف الذي يتطلب تعذيبا ليناله من صاحبه رجل التحقيق، الاعتراف الذي يفتح أبواب الجحيم ويجلب على مرتكبه كل هذا الوصم والنفي والاضطهاد ويظل يقدم عليه بمحضِ إرادته غير عابئ بكل هذا وبلا أي نوع مباشر من إكراه. ربَّمَا تكون الرغبة في الانعتاق، الخلاص من حمل ينوء به القلب، التوق إلى التطهر، إلى أن نعود كما جئنا الحياة صفحة رقيقة وبيضاء.

ربَّمَا تكون الرغبة في أن نتلقى اللوم والتعنيف فتهدأ أصوات الإحساس بالذنب في داخلنا. نعم، فجزء من ذات الفنان نفسها يشبه ذات المتلقي التي ستدينه في ما بعد، هذا الجزء يتوقع الوصم بل ويطلبه. ربَّمَا، أيضا، يكون شبق الحرية، الرغبة في الإحساس بالذات كاملة. إن لم نكن أحرارا فوق الورق فأين إذن؟

ربَّمَا حتَّى تكون الشهرة هي الهدف أو الرغبة في الإحساس بأننا شهداء محملون بالمظلومية مما يعفينا من أي مسؤولية قادمة أو ربَّمَا هي الرغبة في الانتقام من الجراح التي ملأنا بها المجتمع والآخرون ولم نستطع تجاوزها دون أن ننكأها. وكما كان الوصم علنيا فليكن التطهر منه علنيا أيضا. ألا يبدو الأمر بهذه الكيفية مبررا وعادلا بشكل ما أو بآخر؟ ربَّمَا لا يكون السبب في الإقدام على فعل الاعتراف شيئا من هذا كله وربَّمَا هو كل هذا معا.

ختام

أخيرا، فهذه هي كما رأينا معضلة أدب الاعتراف العربي. معضلته ليست أنَّه غير موجود بل أنه مدفوع الثمن وبشكل متعسف خارج عن كلّ حد آمن.

مع الإقرار طبعا أنه لا يُمكن انتظار ردود أفعال حميدة في مقابل مثل هذا النوع من الأدب، فهو أدب مثير للجدل في كل بقاع العالم لكنه في عالمنا العربي وربَّمَا في أماكن أخرى أكثر مما نحسب يتجاوز إثارة الجدل إلى حدِّ إيذاء صاحبه نفسه. حالة أشبه بانتحار معنوي وأحيانا –أحيانا أكثر- مادي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.