المفكر الذي لم يودع الاشتراكية

سمير أمين المفكر بمواصفات كونية
السبت 2018/09/01
المُنظر المتفاعل مع الواقع

فقد العقل المصري والعربي والإنساني، قامة علمية كبيرة، هي عالم الاقتصاد السياسي الدكتور سمير أمين (1931ـ2018). والذي تجاوز بإبداعاته علم الاقتصاد إلى مساحات ممتدة من الحقول المعرفية والثقافية. ما كرسه منظرا دائم التجدد، على مدى ستين عاما، لقضايا جوهرية تمسّ البشرية في علاقتها بواقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.

لم يكن الاقتصاد إلا مدخلا لفهم جوهر هذه العلاقة ومسارها وتحولاتها وتداعياتها، والأهم مستقبلها. وفي هذا السياق أنجز الراحل سمير أمين أطروحات معتبرة ارتبطت به وعرف بها. ذلك لأنه نجح في فك شفرتها ليصبح مرجعا كونيا معتمدا في ما يتعلق بتطور النظام الرأسمالي العالمي، والتراكم الاقتصادي، وأنماط الإنتاج الرأسمالية وما قبل الرأسمالية، والتشكيلات الاجتماعية للرأسمالية في البلدان المتقدمة: الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا الغربية، واليابان تحديدا، من جهة، وفي البلدان المتخلفة من جهة أخرى.

ومثلت دراساته الميدانية لكل من مصر، والكثير من دول أفريقيا مثل: المغرب، والسنغال، وساحل العاج، ومالي، وغينيا والكونغو.. إلخ، رصيدا ثريا لكشف الطبيعة المركبة لثنائية التقدم والتخلف. تقدم القلة وتخلف الكثرة. ما دفعه لأن يمتد بدراساته إلى مساحات جغرافية أخرى في قارتي أميركا اللاتينية وآسيا، بالإضافة إلى أوروبا الشرقية.

ابتدع سمير أمين الكثير من المفاهيم والمصطلحات مثل: المركز والأطراف، ورأسمالية المركز المتقدم والمهيمن والرأسمالية المحيطية الطرفية المتخلفة وتطورهما اللامتكافئ في العديد من القطاعات والمجالات الاقتصادية والمالية، ورؤيته المبتكرة لعملية فك الارتباط بين المركز الرأسمالي المهيمن والأطراف الخاضعة للهيمنة والمتخلفة والأخطر التابعة: ثقافيا، وتجاريا، وماليا، وتكنولوجيا..إلخ. وقد ساهمت اجتهاداته النظرية في أن تضعه بين مصاف كوكبة من العقول التي ساهمت بجهد تنظيري معتبر منذ مطلع الستينات من القرن العشرين وإلى الآن ممن عرفوا بأنهم رموز مدرسة التبعية وآباء نظرية التنمية اللامتكافئة بين المركز والأطراف مثل: سلسو فرتادو، ودوس سانتوس، وإيمانويل والرشتاين، وأندر فرنك، وكاردوسو.

قدم سمير أمين، نموذجا فذا للمُنظر المتفاعل مع الواقع. فالواقع لديه ليس ساكنا أو مستقرا. وإنما دائم الفوران بالتفاعلات والصراعات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يؤمن يوما بأن هناك واقعا أو أفكارا عصية على التغير. ودور المنظر الحقيقي هو القدرة على النفاذ إلى عمق عالم الأفكار الحاكمة للواقع من جهة. ومن جهة أخرى كشف الواقع المادي بملابساته المتشابكة. والتعبير عن العلاقة الجدلية بينهما

وأن تشير الموسوعة البريطانية إلى أطروحاته النظرية وتصنفها تحت أربعة عناوين رئيسية كما يلي: أولا: نقد نظرية وتجارب التنمية السائدة. ثانيا: اقتراح بديل فكري جديد -غير المعتاد- لتحليل النظام الرأسمالي القائم. ثالثا: إعادة قراءة تاريخ التكوينات الاجتماعية الراهنة. رابعا: تأسيس لمنهج قراءة المجتمعات تحت عنوان المجتمعات ما بعد الرأسمالية.

وقد أتاحت دراسته للتشكيلات الاجتماعية للمجتمعات في صورتها ما قبل الرأسمالية والرأسمالية، سواء في الدول المتقدمة (في المركز)، أو المتخلفة (في الأطراف) إلى أن يحقق سمير أمين مسحا بحثيا شاملا/ مسوحا بحثية شاملة لهذه الدول من حيث: تاريخها الاقتصادي/ الاجتماعي، التطور الدولتي (نسبة إلى الدولة وتطورها السياسي)، وبيروقراطياتها (أجهزتها الإدارية)، وطبيعتها الطبقية، وأنماط إنتاجها، وأصولها الثقافية. فاتسمت كتاباته بالموسوعية، والشمولية، والمقاربة متعددة المستويات.

كما ساهمت حياته العملية، بداية بانخراطه المبكر في السياسة ثم عمله في المؤسسة الاقتصادية المصرية التي أسسها جمال عبدالناصر في 1957، وهي تجربة هامة للغاية وثقها سمير أمين في كتابيه مذكراتي وخروجه من مصر إلى أوروبا واطلاعه على جديد العالم الغربي والشرقي كأستاذ للاقتصاد في جامعة باريس، ثم عمله في أفريقيا: أولا: كأستاذ اقتصاد في جامعة دكار، وثانيا: كمدير للمعهد الأفريقي للتخطيط والتنمية الاقتصادية التابع للأمم المتحدة. وثالثا: كمدير للمكتب الأفريقي لمنتدى العالم الثالث وإشرافه على برنامج بحوث “استراتيجيا للمستقبل الأفريقي” التابع لجامعة الأمم المتحدة على قدرة رفيعة المستوى في أن يصيغ اجتهاداته بصورة حية، متجنبا التجريد المطلق، وواعيا بضرورة ربط أطروحاته بالواقع وتصور كيفية تغييره.

صناعة التاريخ

قدم سمير أمين، نموذجا فذا للمُنظر المتفاعل مع الواقع. فالواقع لديه ليس ساكنا أو مستقرا. وإنما دائم الفوران بالتفاعلات والصراعات الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولم يؤمن يوما بأن هناك واقعا أو أفكارا عصية على التغير. ودور المنظر الحقيقي هو القدرة على النفاذ إلى عمق عالم الأفكار الحاكمة للواقع من جهة. ومن جهة أخرى كشف الواقع المادي بملابساته المتشابكة. والتعبير عن العلاقة الجدلية بينهما. وهو ما دفع أحد الباحثين أن يوجز مسيرته بكلمات قليلة معبرة كما يلي “سمير أمين: جدل الواقع والنظرية”.

لم تكن هذه العملية الجدلية بين عالم الأفكار ودنيا الواقع؛ التي مارسها سمير أمين في أطروحاته الغنية المتعددة والمتجددة، هدفا بحد ذاته. وإنما كان يضع نصب عينيه كيف يمكن أن تسهم الأفكار الجديدة التي تأسست على نقد الأفكار القديمة التي حكمت تشكّل الأوضاع البائسة: التابعة والمتخلفة، للمواطنين، في الكثير من بقاع العالم في دفعهم إلى “صناعة تاريخ جديد: متكامل/ متشابك الأبعاد: اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا، وثقافيا.

كان واعيا بحتمية وضرورة أن يقوم الإنسان بصناعة التاريخ باعتبارها مهمة حياتية دائمة. ولن يتم هذا ما لم يتم نسج علاقة وثيقة بين عالم الأفكار ودنيا الواقع. بين الدراسات والتحليلات من جهة والنضالات والمواجهات من جهة أخرى، حيث يُصنع التاريخ نتيجة الجدل بينهما.

وحول هذا يقول “لم تكن اهتماماتي الفكرية على الإطلاق اهتمامات جامعية بالمعنى الضيق للكلمة، بل اعتبرت نفسي دائما، بالأحرى، مناضلا للاشتراكية ولتحرر الشعوب، واضعا بخدمتها كل المعرفة التي أستطيع الحصول عليها من خلال تكويني الفكري. وكانت التحليلات التي اعتقدها صائبة تستوجب بالنسبة لي مواقف وخيارات سياسية. ومازلت إلى الآن أحمل وجهة النظر الجوهرية هذه ذاتها. فهناك إذن علاقة وثيقة بين هذه التحليلات واللحظة التاريخية والسياسية التي تقع ضمنها والخيارات العملية التي سلكتها. ومقولة ماركس: بأن المسألة ليست في فهم العالم وحسب، بل هي في تحويله؛ شكلت دائما، ومازالت، الخط الموجه لحياتي”. (سيرة ذاتية فكرية – 1993).

الاعتراف بالرأسمالية

بيد أن صناعة التاريخ ليست ممارسة تقنية/فنية وإنما هي فعل ناقد نضالي مركب، يهدف إلى بلورة واقع جديد تحكمه أفكار جديدة، إلا أن الأمر ليس سهلا، لأن المجتمعات تتشكل من سياق “Context” ثلاثي الأبعاد يحتاج من الجادين والصادقين لأن يصنعوا التاريخ لفهم وإدراك هذه المجتمعات بأبعادها الثلاثة: الاقتصادية والسياسية والثقافية.

ويتكون كل بعد من جملة من العناصر نرصد أهمها كما يلي:

أولا: الطبيعة الاقتصادية بعناصرها المختلفة، وأثرها على كل من الدولة والجسم الاجتماعي بطبقاته وشرائحه التراتبية المختلفة. وتحديدا: وضعية تراكم رأس المال وتوزيعه ونوعيته.

ثانيا: الطبيعة السياسية من حيث التطور الديمقراطي، والوضعية المواطنية وقدرتها على الحركة في المجال العام ببعديه السياسي والمدني، ومدى الفصل بين السلطات كذلك مدى استقلالها.

ثالثا: الطبيعة الثقافية من حيث منظومة القيم الثقافية السائدة وهل هي تقدمية أم رجعية، كذلك مضمون الفكر والخطاب الديني السائد ومن ثم مواقفه المجتمعية، والمسار التاريخي الثقافي لهذه المجتمعات.

وتبدأ عملية صناعة التاريخ بنقد هذا السياق المجتمعي بأبعاده الثلاثة. ويشير سمير أمين في هذا المقام إلى أن “نقطة الانطلاق النقدية تبدأ بالاعتراف بأن العالم الذي نعيش فيه قد أصبح تدريجيا ـ ابتداء من القرن السادس عشرـ رأسمالي الطابع في جوهره، شئنا أم أبينا. وبالتالي ينبغي أن يقوم تحليله العلمي انطلاقا من هذه المعرفة”. (نحو نظرية للثقافة – 1989).

وقد فرضت هذه الرأسمالية نموذجا ديمقراطيا لم يحقق العدالة ولا المواطنة – بدرجات متفاوتة – في كل من المركز والأطراف على السواء. كما خلقت الرأسمالية نموذجا أيديولوجيا يبقي الأمر على ما هو عليه في المركز. ومن جانبها خلقت الأطراف نموذجا أيديولوجيا – معكوسا – دينيا وثقافيا “ماضوي الجوهر”؛ أطلق عليه سمير أمين “الاستشراق المعكوس″.

ومن هنا تبدأ لدى، سمير أمين، عملية صناعة التاريخ والتي نكرر، يعني بها: تغيير الواقع، والعمل على تجديده ورسم تحولاته شريطة فهم الأفكار الحاكمة للواقع الآني ونقدها وتأسيس حيوية فكرية جديدة يحملها الواقع الجديد الذي ينقل المجتمع والدولة إلى تاريخ جديد متحرر من القيود الاقتصادية والسياسية والجمود الثقافي والفكري في آن واحد.

بلغة أخرى لن يتأتى للمواطنين أن يكتبوا تاريخا جديدا أو يتقدموا ما لم يتحرروا من مركب “الاستغلال: الاقتصادي، والسياسي، والثقافي. والانعزال: في الماضي/عن جديد العصر”.

يؤكد سمير أمين أن صناعة التاريخ ممكنة ومتاحة بالرغم مما يبدو لنا من صعوبات. وحول ذلك يقول “يبدو التاريخ محكوما من خلال قوانين موضوعية ظاهريا، تعمل بمثابة قوانين الطبيعة. ففي الرأسمالية يصبح المجال الاقتصادي لأنه مهيمن، مجالا يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية الذاتية تجعل قوانينه تفرض نفسها فرضا، كما هو الحال في مجال الطبيعة. وعليه يدعو الخطاب المهيمن إلى الإذعان لهذه القوانين التي يقال إن تحكمها قائم لا محالة ولا مفر منه. وفي الصورة المبتذلة لهذا الخطاب يقال إن قوانين السوق لا مفر منها” هذا هو الاستغلال بعينه.

التحرر الاقتصادي

Thumbnail

لكن أمين يطرح رؤية متكاملة من أجل التحرر من الاستغلال الاقتصادي نوجزها في عبارة مركزة مفادها ضرورة سيطرة المواطنين على مقدراتهم. أو بلغة سمير أمين “السيطرة على عملية التراكم من خلال: أولا: إعادة تكوين قوة العمل. وثانيا: الهيمنة الذاتية على تمركز الفائض المحلي من خلال مؤسسات وطنية مستقلة. وثالثا: السيطرة الوطنية على السوق المحلية. ورابعا: تعظيم الهيمنة الذاتية على الموارد الطبيعية. وخامسا: القدرة على إبداع التكنولوجيا بعناصرها.

ومن جانب آخر، يشير إلى الانعزال، وذلك عندما ينتقد هؤلاء الذين ينتقدون الحداثة بأنها أصبحت مفهوما تخطاه التاريخ بقوله إن هذه العبارة “لا معنى لها من حيث المبدأ”. ذلك لأن تعريف الحداثة هو: أن يصنع الإنسان تاريخه. وهو أمر لا يمكن تجاوزه بالمرة. سواء بالردة نحو الماضي، أي قبل الحداثة. وهو ما يتبناه السلفيون ويقدمون من خلاله نمطا متطرفا لهذا الوضع، حيث على البشرية أن تتنازل عن طموحاتها في صنع القوانين التي تريد أن تُحكم بها.. ويتساوى مع دعاة الماضي هؤلاء الذين يتحصّنون بالخصوصية الثقافية وثبات سماتها في مواجهة العصر وتحولاته المطردة. ما يعزلهم عن تاريخ البشرية ويمنع بناء أي جسور مع العالم الجديد الدائم التطور.

ويضيف، سمير أمين في إطار نقد السياق المجتمعي إلى ضرورة فك الارتباط بين منظومة التلازم القسري بين الديمقراطية والسوق التي تم تطبيقها قسرا منذ أن استباحتنا الليبرالية الجديدة نهاية السبعينات من خلال العولمة. وينبه إلى خطورة “استحضار السوق في الخطاب السائد مثلما تُستحضر قوى ما فوق الطبيعة التي توجب خضوع الكائن الإنساني فرديا والمجتمع جماعيا. حيث يفرض علينا الإيمان بالسوق، لأنها وحدها تقدم القيمة الحقيقية للهمبرغر والسيارة، وللمتر المربع في وسط العواصم، ولهكتار الأرز، وبرميل النفط، وقيمة صرف الدولار، وأجر العاملة الآسيوية أو المضارب في نيويورك.

ويلفت أمين النظر، إلى أن الإصلاحات الجزئية، حتى أكثرها جرأة، لن تتمكن من تقليص مدى الدمار الذي يحدثه التراكم الذي بلغ حدي حصاره التاريخي الإيجابي. يجب التجرؤ للتفكير بنظام اجتماعي قائم على المساواة والتضامن، والعالمية المؤسسة عليهما والمتحررة من الاستلاب السلعي. إنه نظام لا أجد له اسما آخر إلا الاشتراكية. وهذا الانتقال لا يبنى إلا على المبادئ والممارسة الديمقراطية، بالمعنى القوي للكلمة، أي بناء الأطر المؤسسية التي توسع مدى الإدارة المواطنية للاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية والثقافية، وتسمح للمتخيل الاجتماعي الحر بتصور الاستراتيجيات المرحلية الفعالة واقتراحها. يمكن في هذا الأفق الطويل، تحضير برامج إصلاحات متسقة تتيح ربط المراحل المتعاقبة من أجل التقدم في الاتجاه المطلوب. لا الديمقراطية المنخفضة التوتر، ديمقراطية المستهلكين السلبيين بدلاء المواطنين الفاعلين، ولا الخضوع لمنطق الأسواق الوحيد يستجيبان لهذه المتطلبات. من يقول ديمقراطية، بهذا المعنى الذي يستبعد الإجماع الفارغ والمصطنع، فإنما يعني التعددية بمعناها القوي.

لا يهم هنا كثيرا ما إذا كان طريق الوصول إلى إرادة تغيير العالم يُشق بالأدوات الفكرية الناتجة عن عصر الأنوار ونقده الماركسي، أو عن طريق التأمل في البعد الروحي الخاص بالكائن الإنساني، على غرار ما يقترحه لاهوت التحرير. فهذه كلها روافد تصب في النهر الكبير ذاته. وتعددية في الفاعلين التاريخيين، الذين يشكل تلاقي نضالاتهم الضمانة الوحيدة لفعالية الانتقال؛ لأن تفتت الحركات الاجتماعية القائمة حول مواضيع جزئية، والمميزة لأوقات الأزمات، يفتح الباب واسعا لاحتمالات التلاعب بها من جانب الرأسمال المسيطر، أو من جانب الثقافة الماضوية.

وأخيرا تعددية تنطلق من تنوع الإرث التاريخي، والإبداعات المرتبطة بالتمفصلات الممكنة بين موجبات العالمية من جهة والمساهمات الخاصة بالشعوب المختلفة من جهة ثانية.

وفي كل مجالات هذه التعدديات لا يتعلق الأمر بتنوع متوجه نحو الماضي، يعبر عن نفسه عادة بطريقة انفعالية وعصبية، بل تنوع متطلع إلى المستقبل، ولهذا السبب، مبدع وتغييري فعلا.

يفرد سمير أمين جانبا من كتاباته للحديث عن عملية صناعة التاريخ من حيث: أولا: القائمين عليها، وثانيا: الكيفية. وثالثا: طبيعتها. فبالنسبة إلى القائمين عليها يسأل أمين الأسئلة التالية: “من هو الفاعل الذي يصنع هذا التاريخ: الأفراد كلهم، أم بعضهم، الطبقات الاجتماعية، الجماعات أو الفئات ذات الهوية المحددة المتباينة الوضع، الأمم، المجتمع المنظم في إطار الدولة السياسية؟”.

الحداثة هي الحركة

أما بالنسبة للكيفية التي يصنع بها التاريخ، فيطرح سمير أمين الأسئلة التالية: كيف يصنع التاريخ؟ ما هي الوقائع التي يقوم صانعو التاريخ بتعبئتها؟ ما هي الاستراتيجيات التي يطورونها ولماذا؟ وما هي المعايير التي يمكن قياس فعالية عملهم من خلالها؟ وما هي التحولات التي يتم إنجازها بالفعل على إثر هذه الأنشطة؟ وهل تتفق هذه التحولات مع تصورات صانعي التاريخ وأهدافهم الأصلية؟ أم تبعد عنها؟

وتشير هذه الأسئلة المفتوحة إلى أن الحداثة، التي يؤمن بها سمير أمين، هي حركة دائمة وليست منظومة مغلقة محددة نهائيا أو سلفا. وبالتالي فإن عملية صناعة التاريخ هي عملية دائمة ومستمرة وممتدة ولا نهائية ولا سقف لها. وفي شرح دقيق لطبيعة حركة التاريخ يقول “في مراحل التقدم الهادئ والمستديم، عندما تفعل التوازنات الملائمة فعلها لتيسّر إعادة إنتاج التراكم المتوسع، ثمة ميل قوي يدفع الفكر نحو نظريات التطور الخطي. فالتاريخ يبدو في هذه اللحظات كما لو كان يتجه لا لضرورة نحو هدف طبيعي لا محالة. وفي هذه المراحل نجد إذن ميلا قويا نحو بناء نظريات كلية، أطلق عليها ناقدوها المحدثون تسمية الخطابات الكبرى مثل المشروع البرجوازي الديمقراطي، أو المشروع الاشتراكي أو المشروع الوطني للتحديث، وفي هذه الظروف تندرج المعارف الجزئية فعليا في إطار الأطروحات النظرية الكلية، أو على الأقل يبدو ذلك متيسرا”.

يلفت أمين النظر، إلى أن الإصلاحات الجزئية، حتى أكثرها جرأة، لن تتمكن من تقليص مدى الدمار الذي يحدثه التراكم الذي بلغ حدي حصاره التاريخي الإيجابي. يجب التجرؤ للتفكير بنظام اجتماعي قائم على المساواة والتضامن، والعالمية المؤسسة عليهما والمتحررة من الاستلاب السلعي. إنه نظام لا أجد له اسما آخر إلا الاشتراكية. وهذا الانتقال لا يبنى إلا على المبادئ والممارسة الديمقراطية، بالمعنى القوي للكلمة

ثم تأتي لحظة الأزمة فتنحل التوازنات التي كانت تضمن سابقا إعادة إنتاج التراكم، دون أن تحل محلها فورا توازنات جديدة. والتأخير في تبلور هذه الأخيرة يفضح نقاط النقص في النظريات الكلية السابقة السيادة، فتنهار مصداقيتها. وبالتالي تتسم المرحلة بصفة التشتت في الفكر الاجتماعي، الأمر الذي يتجلى أيضا في ظواهر انزلاق تعوق إعادة تركيب فكر عام متجانس مجدد يستفيد من عبَر التاريخ ويعمل حسابا صحيحا لتقدم المعارف الفرعية فيدمجها في بنائه العام.

ويقاوم، ويدحض سمير أمين، المقولة التي دأب على ترويجها كل من له مصلحة في “تثبيت الأمر الواقع لصالح السوق، والسلطة، والثقافة الماضوية/المنعزلة”؛ بأن الإنسان لا يصنع تاريخه. ويقال إن التاريخ مفروض عليه في واقع الأمر وأن هذا التاريخ ناتج قوي خارج عن إرادته.

ذلك أن القراءة العلمية تؤكد أنه لا يوجد وضع مستديم في التاريخ. أو بالأحرى نهائي. وأنه مهما تكيف الإنسان مع واقعه غير العادل والتابع والمحكوم بالأساطير. فإنه سوق يخرج عليه ليبدأ عملية صنع التاريخ بعقلانية تامة شريطة فهم القوانين الحاكمة للواقع والمطلوب تغييرها تتفق مع مقتضيات منطق مشروع مجتمعي يتجلى من خلاله معنى واتجاه حركة التاريخ الجديد. إن عمل الإنسان، عندئذ، يضفي معنى محددا على التاريخ.. كما أنها محاولة جديرة بأن يخوضها الإنسان. ويقول التاريخ إن الإنسان قد خاضها مرارا صانعا في كل مرة تاريخا جديدا ووعيا جديدا وواقعا جديدا.

مرة يسقط السلطة المستبدة، ومرة يحرر الثروات العامة من احتكارات القلة. ويجتهد في أن يجد طريقة عادلة لتوزيع الثروات قدر الإمكان. ومرة يكتشف أن النظام الاجتماعي ليس قدرا راسخا أو ناتج قوى ميتافيزيقية، بل ناتج فعل ومنطق قوى اجتماعية عليها أن تقبل بعضها البعض في إطار تعددي يتم تشكيل ملامحه بديمقراطية. حيث لا تفرض قوة ما على الآخرين قانونها خاصة إذا كان مقدسا. وإنما ضرورة صنع القوانين بالتوافق. قوانين موضوعية تحكم تطوره. وهكذا توالت المغامرات الإنسانية لصناعة التاريخ، وستتوالى المغامرات طالما وجد الاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي والاستفراد الثقافي.

مواجهة الهزيمة

نخلص إلى أن التنازل عن صناعة التاريخ نوع من الاستسلام للاستغلال والقبول بالانعزال. وبلغة سمير أمين “التنازل عن صناعة التاريخ هو هزيمة تاريخية كبرى للشعوب، تخفي العدول عن تشخيص أسباب الهزيمة، والهروب أمام التحديات الحقيقية التي يواجهها المجتمع، العدول عن واجب الإبداع من أجل التغلب على الوضع، إنها دعوة للخروج من التاريخ لن تنتج إلا المزيد من التدهور والتهميش في العالم المعاصر”.

ولا مفر من مواجهة البؤس المتزايد لأغلبية مواطني الكوكب، وإعادة بناء ما تفكك في المجالين السياسي والمدني، والتمرد على الاحتكارات الكبرى العابرة للقارات، إلا بصناعة تاريخ جديد بتضامن المتضررين سواء في المركز أو الأطراف معا، وتحرير الإنسانية من الاستلاب الاقتصادي السوقي (نسبة للسوق)، والاستقطاب تاريخ جديد نحو زمن أكثر إنسانية وأكثر عدلا ومواطنية وعقلانية.

المشروع الفكري لسمير أمين كبير ومتعدد الحقول المعرفية. والقارئ له سوف يلحظ أنه يتسم بفضيلة إعادة النظر. فقد كان واعيا بما يطرأ على الواقع من تحولات. فكان حريصا دوما على مواكبة هذه التحولات. فلم يكن جامدا وقادرا على التعاطي المرن دون تصلب فكري مع هذه التحولات بإبداع. لم يعزل نفسه في برجه عاجي، فقد كان دائم التحرك ودائم الاشتباك، بتواضع مع المختلفين معه. رحم الله سمير أمين منظرا ومفكرا لقضايا وإشكاليات كبرى، وممارسا تنمويا ومحرضا لصناعة التاريخ. ما أهله لأن يكون رمزا من رموز صناع التاريخ الإنساني.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.