المكانة الأصيلة
في البدء كانت الكلمة، سواء كانت منطوقة أو مكتوبة، فهي لسان حال اللحظة التي انبثقت من حاجة الإنسان. ولهذا فهي إن كانت منطوقة أو مكتوبة، فإن التوصيل هو ما يحدّد الهدف والماهية والمبتغى والقصد. وأمام حاجة الإنسان لاكتشاف ذاته والمحيط من جهة، والحاجة الى مخيّلةٍ قادرة على مساعدة الذات والتفكير في رؤية جوهرية من جهةٍ أخرى، غير منظورة للآخرين، فإن الأدب كان أولى الخطوات التي عبّرت عن تلك الحاجة، التي سوّرها الشعر كنوعٍ من المخالفة عن الكلام المنطوق أو المكتوب. ولهذا فالشعر كان حاجةً ومن ثم تأمّل ومن ثم رؤيا ورؤية، ويحمل أبعادًا أخرى في لحظات الصيرورة الأولى، ومن ثم إلى ممكنات تجريب في المراحل اللاحقة.
ولهذا فإن الشعر لن يكون في غافلة الزمن، كون المتغيّرات التي حصلت مع بداية الحاجة، لم تنهِ المخيلة، ولم تنهِ الحاجة التي باتت ماسّة أصلًا لمعاجلة التحشيد الهائل من المشاكل، ليكون العلاج بطريقة الشعر، وإن كان هذا القول لا ينطبق على الجميع، لكنه أيضا يكون مهمًا للجميع حين يذهب أو يستعين المرء بالشعر لإطلاق المكبوت من داخله أو الاستعانة به لتبيان المقارنة أو إعطاء الحكمة أو الدليل على توضيح ما يريد توضيحه، بمعنى أن الشعر ليس دخيلًا على النفس البشرية لأنه استلم القول شعرًا في البدء، لذا يمكن القول إن الكلمة الأولى كانت شعرًا، لهذا انتبه له العرب فصار ديوانهم.
ومن تلك الفاصلة الزمنية صار الشعر هو سيد المواقف، أو على الأقل هو المرجع في التوضيح والاستبيان، مثلما هو إظهار القدرة على الوعي والثقافة والاستنتاج، وهو ما يعني أن لا تراجع أصلا لمكانة الشعر أمام أيّ جنسٍ أدبي، مثلما لا يتراجع أي جنس أدبي أمام الشعر، فلكلّ من هذه الأجناس من يذهب باتجاه من يريد إنتاجه أو الاطلاع عليه كجزءٍ من الحاجة أو جزءٍ من المعرفة أو الموهبة او حتى استكناه الداخل الذي قد يجده البعض في نصّ مسرحي أو حتى مقالةٍ نثرية، بل إن الأمر لا يحتاج إلى تثبيت صحة المقولة في مكانة الشعر، فرؤيةٍ واحدةٍ إلى الصحف العالمية والعربية منها، نجد أنها تنشر بشكلٍ يومي نصًا شعريًا، بل أكثر من نصّ، وهو دليل على أن عدد منتجي الشعر أكثر من عدد منتجي الأجناس الأخرى وربما ستكون الكفّة للشعر أمام كل الأجناس، بغض النظر عن الجودة، كون الأمر نسبيا.
إن مقولة جابر عصفور كانت في مرحلةٍ أراد بها أن يستصرخ الشعر من داخل الأديب المنتج للنص، بعدما رأى أن مكانة الشعر تراجعت، ليس في الترتيب الأجناسي، بل عند الجمهور، أو تراجع أثر الشاعر لدى الجمهور أو السلطة السياسية الذي قمعت الشاعر والمثقف وجعلت الشعر يتراجع عمّا كان في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، وربما يكون الإعلام قد سلط الضوء على الأدباء الآخرين، ومنهم الروائيون، باعتبار أن الرواية هي مكان الفكر والخلق للحياة بطريقة مستقيمة لا تحتاج إلى التدوين الشعري الذي تحول من بناء القصيدة العمودية إلى التفعيلية والتحولات الدراماتيكية، ومن ثم إلى النثر والتحوّلات الجوهرية التي جعلت الكثير من القراء التقليديين مثلا لا يحبّذون هذا النوع من الشعر، كونهم يبحثون عن الموسيقى أكثر من بحثهم عن الخلق الشعري.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الشعر مكانه العقل غير واسع الإنتاج، والسرد أو الرواية مكانها المخيلة التي تحتاج إلى عالمٍ واسعٍ وكبيرٍ، ولهذا نجد الشاعر يكتب قصيدته نهارًا ويقرأ الرواية مساء، لأنها أي عملية تلقّي الرواية تحتاج استرخاء، وعملية تلقّي الشعر تحتاج إلى تحفيز الخلايا لمتابعة الحيثيات التي تتوزّع داخل النص، الذي توزّع وتوسّع وتعدّد وتنوّع، وصارت قصيدة النثر ترتدي أثوابًا عديدةً لا تعترف بزي مدينةٍ أو بيئةٍ أو دولةٍ أو قارة، فهي ابنة العالم وليس مجتمعا محدّدا.
إن هذا الأمر قد لا يكون مرئيًا إعلاميا وهو الذي جعل الشعر وكأنه في تراجع، فضلًا عن سعي النقاد بشكلٍ لافت إلى مطاردة الرواية وتأليف كتبٍ نقديةٍ سواء تطبيقية أو تنظيرية، أو البحث عن مجترحٍ نقدي جديد يعتمد على الرواية، مما جعل الكثير من الشعراء يذهبون باتجاه الرواية لأنها تمنحهم شهرةً أكبر، وحضورًا نقديًا فضلًا عن المسابقات سواء منها العالمية أو العربية التي اختصت بالرواية، وجوائزها التي تغري اللسان والإنسان، إضافة إلى أن الرواية تحتاج إلى عملية هدوء واستكناه الواقع والغوص فيه وتخليق عوالم وشخصيات وأحداثًا وأزمانا مختلفة، وكذلك تحتاج إلى حضور الرأي سواء السياسي أو الأيديولوجي في مواجهة الواقع. ومطاردة السلطة للشاعر، وغيرها من الأسباب التي تحول دون استمرار الشاعر بالدخول إلى المنطقة المحرّمة سياسيًا أو حتى اجتماعيا، في حين أنّ لا حدود للرواية وخاصة في زمن ما بعد التغييرات التي شهدتها العالم العربي.
إن الشعر حاجةٌ إنسانية، ولهذا فهو لا يموت، ولم يكن متراجعًا أصلا لأن الماكنة الإعلامية والنقدية كانت باتجاه الرواية وهو الأمر الذي ينطبق على السينما، التي ربما نراها تراجعت في البلدان العربية إنتاجًا وقبولًا وإقبالًا وتقبّلًا على اعتبار قلّة الحضور إلى دور السينما، وبعض الحقيقة أن روّاد السينما تحوّلوا من الحضور إلى دور السينما الى المتابعة عبر وسائل الاتصال الحديثة.
الشعر لم يمت أو يتراجع، لكي تقول إنه عاد إلى مكانه، بل هو موجود أصلا وفق المؤشرات التي ذكرناها، فحتى الروائي يلجأ إلى الشعر أو الكتابة الشعرية في النص الروائي، كونه يدرك مفعول الكلمة الشعرية على إنتاجه ومتنه السردي، أكثر من مفعول الكلمة النثرية الطبيعية إن صح التعبير في إنتاج فاصلٍ حياتي من خلال الرواية.
إن العلاقة قائمة مهما تعدّدت الأجناس، خاصة بعد ظهور مصطلح تداخل الأجناس. فإذا ما أخذنا مقولة بول فاليري إن الشعر “لغة داخل لغة” فإن الأمر ينطبق أيضا على الأجناس الأخرى وقد وضحت في قول لي “رؤية تأملية من داخل الشعر، بنية الكتابة وخاصية التكوين” بما يفسر جملة فاليري من أن “التخليق الدلالي لكثافة هذه الجملة البسيطة التكوين العميقة المغزى تعطي مفهوما انزياحيًا خارجًا من اللغة الإشارية لتكون دالًا ودليلًا بين الصوت، قراءة المفردة، وبين الصورة المدونة، رسم المفردة، لأن الشعر عملية إعادة خلق الأشياء وتكوينها من جديد، على وفق نظرة عصرية لمفهومها الحديث”.
إن عودة الشعر إلى مكانته ليست القرائية أو الإنتاجية بل الإعلامية، كون الإعلام أو ما نقصده التسليط الإعلامي على مقالات الرواية ونشرها ومتابعتها والترويج لها يبدأ من الإعلام نفسه، والذي يبدأ من النقاد أنفسهم حين لا يتبنّون غير الكتابة عن الرواية كونها تتيح لهم الشهرة أكثر من كتابتهم عن الشعر، وإن المدارس النقدية الأوروبية التي يستعينون بها اعتمد على الرواية أكثر من الشعر، وإذا ما أقيمت مسابقات ضخمة خاصة بالشعر، سنرى أن الشعر متوهّج بطريقةٍ عجيبة، وأن عدد المتعاطين به إنتاجًا وتلقيًا أكثر من متعاطي الرواية أو الحقول الأخرى ومنتجيها.
إن المتابعة النقدية كفيلةٌ باكتشاف الأمر، خاصة وأن مكانة الشعر والشاعر هي مكانة ارتباطية مع المجتمع، فالشاعر صاحب صوت، على العكس من الروائي الذي يعد صاحب عزلة، وأن مكانه في الندوات أو من المنصات. في حين أن المهرجانات مثلا تستعين بالشاعر ولا تستعين بالروائي، إلا لربما ليكون ضيف شرف في الحضور، كون صوت الشاعر مؤثّر جدا في الوسط الاجتماعي في أزمان الأزمات أو المتغيرات التي تشهدها هذه البلاد أو تلك. فالشعر خبب في الصوت والرواية خبب في المخيلة. وقارئ السرد يقرأ وهو يتمدّد على الفراش، وقارئ الشعر يقرأ وهو مستفز لملاحقة المعنى. وهذا الأمر لا يعني الاستهانة بالرواية، فتلك موضوعةٌ أخرى، كون الرواية هي إمساك العالم كلّه من طرفيه، والشعر مطاردة العالم من داخله.. بمعنى إن كانت الرواية تمتلك المنصة الحالية فالشعر يمتلك الأصالة الأولى.