المهم والأهم
صديقي العزيز،
ما هذا الكتاب الرّهيب الّذي تتأهّب اليوم لإهدائه إلى العالم؟ وأنا أتصفّحه وأتعرّفُ على بعض المقاطع الّتي كُنْتَ – بثقتك المألوفة وكرمك المعتاد – نشرتَ البعض منها على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أتساءلُ إن كنت حقّا على وعي بالثّورة الفكريّة والإنسانيّة الّتي تتأهّب ككاتب ومفكّر مغربيّ وعربيّ للقيام بها، إذ أنّي أرى السّيوف والخناجر تُخْرَجُ من أغمادها والرّماح تهتزّ والأصوات ترتفع من الخليج إلى المحيط ومن المحيط إلى الخليج داعية إلى سفك دم رجل لم يفعل سوى سؤال: “لماذا نعيش؟”.
أنت ونحن معك نسأل، في حين هم، طبعا، يجيبون، لأنّ القول عندهم إجابات خاصّةً عن أسئلة غير موجودة لأنّها مُغيّبة كالله والرّسول والحياة. ولكنّهم يتذمّرون لأنّهم مع صراخهم المليء بالغضب لا يعلمون أنّ الغضب كفر وأنّ ربّنا العليّ سأل الرّسول – ونحن اليوم نحتفل بالمولد النّبوي الشّريف – عن سبب عبوسه، وكلّ البشر ما عدا الأنبياء والرّسل عميان لا يفقهون، فكلّنا نرنو إلى الله وإلى مبعوثيه إلينا نورا وهدى للعالمين. لا غضب عندك، يا حامل اسمك، يا سعيد، ولا عُبُوسَ، بالطّبع.
صديقي سعيد، لن أوغل هنا في التّساؤل ولا في التّهكّم، قطعا لا، فوالله، نحن لسنا في حاجة إلى أكاذيب هؤلاء (ولن أسمّيهم) كي نوجد أو نعيش. هم بالطّبع يعرفون من نحن ويحاولون الإطاحة بنا من بلد إلى بلد كي يُحسّوا بأنّ لهرطقاتهم معنى أيديولوجيا وبعد ذلك حزبيّ ثمّ دينيّ، مع العلم – يا صديقي العزيز – أنّ ماركس، وهو في صغره، عندما قطع رأس الممتاز فُويرباخ، عبّر عنهم بكلّ ألمعيّة، بقوله كما يجب: “لقد فسّر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، لكن ما يجب هو تغييره”.
عزيزي سعيد، كُنْتَ تنتظر أن أتحدّث عن الدّين وعن الأفيون وعن الشّعوب؟ لا، هي سهلة كإيبّون في الجودو أو كش مات مع مبتدأ. نحن أرحب، نحن أرحب، كما يقول الشاعر العظيم بشير مرجان البجّ رحمه الله.
لكن، فلنذهب بعيدا في هذا الكتاب: لستُ أعلم كيف تعمل، لكن أريدُ أن تعلم أنّي من خلال ما تكتب وما نظّمت في ترتيب الكتاب، أمدحُ ألمعيّتك، بحقّ، لا ككاتب ولا كفيلسوف، لكن لأنّك بقوّة كالنّبيّ الّذي يحمل كتابه بشدّة، أخذت على نفسك ما حاول الإخوان المجرمون فعله بك: أنت أحببت الحياة مرارا وتكرارا، إيجابيّا لا كمرض بل كفعل حياة، تحديدا كنبض حياة، كقبول للقدر كما يقول الحبيب نيتشه، وهنا، وهي غمزة: amor fati هي أوّلا حبّ لذواتنا ولأقدارنا من جهة، ثمّ ليست “استسلاما للقدر”، فالإسلام كدين، لو آمن بالقدر، آه، عفوا، لأنّه آمن بالقدر فهو لهذا السّبب صار ما نعلم، لكن بالطّريقة العقائديّة والرّوحيّة، فلو كان ذلك بالطّريقة السّياسيّة والأيديولوجيّة كما يقع ذلك اليوم، لمات منذ البداية في مهده. وأنت وأنا نعلم، والله على ما أقول شهيد.
إذن، لماذا فعلوا بك ما أرادوا فعله؟ ولماذا بالصّدفة، أيّام الحجر الصحّي المتعبة، تعرّفنا على بعض بطريقة سلسة ومعرفيّة محضة؟ هنا، في هذا الكتاب، وهو أكثر من كتاب، هو ألف حياة في واحدة تتواصل، تقول ما لا يجب أن لا يقال، ليس من وجهة نظرنا، لكن بمعنى أنّهم حاولوا قتلنا. لكن، أنت وأنا تواصلنا بمعنى التّواصل والوصال والمواصلة. الطّريق طويلة أو طويل لكنّ بئر كرههم عميق أو عميقة.
ابتسم، صديقي سعيد، فصديقي فُوجْلاَ، نعم اللّغوي الفرنسيّ، لحظة ولوجه إلى العالم الآخر قال شيئا مماثلا في تلك اللّغة الّتي نحبّ وهو بذلك، لغويّا، من الفرد إلى الجمع يؤسّس إلى اللّغة، لكن المصيبة اليوم في الأجناس وفي الدّين السّياسيّ الّذي يبحث من خلال خصي الرّجولة والأبوّة ومع كلّ ذلك الحبّ والعائلة والقوّة، عن قتل كلّ رغبة ونفس وفكر. هذه أيديولوجيتهم الجديدة لضربنا بشريّا وإنسانيّا من الدّاخل: أنت انتبهت إلى مسألة حياتيّة تتمثّل في الإجهاض وفي الحقّ الطّبيعي المتمثّل في أنّ الحياة دون رغبة في إعطاء الحياة خطأ وربّما هكذا أترجم ما كتبت وأعتقد أنّي قارئ ومترجم ألمعيّ.
صديقي، يروعني ما وصل إليه عالمنا منذ 2011: هل تعلم أنّهم حاولوا قتلي يعني تصفيتي جسديّا ليلة 3 – 4 ماي 2012، حين كانت المبدعة الصّغيرة ألمى في المصحّة مع والدتها وجدّتها؟ كان ثلاثة من الإخوان المجرمين ينتظرونني أمام العمارة في سهلول – حمّام سوسة. لن أحدّثك عن هوس الموت في عيونهم، لكن، في تلك اللّيلة، احتفى الرّفاق والأحبّة بالمولودة الجديدة، بتونس الجديدة: الهادي كريفة وتوفيق التّونسي، أسماء وحيوات ونضالات. فلنواصل لأنّ الموت عند أعدائنا نصر، ولهذا كتبت بالفرنسيّة وترجم إلى العربيّة “عودة الحشّاشين. مقولات عن تونس الثّورة جانفي 2011 – جويلية 2012”.
إذن، هو عود على بدء، هل نكتبُ كي نُقْتَلَ أو كي نَعِيشَ بعد أن نُقْتَلَ؟ لكن، هل لهذا السّبب، بعد سنين، عُدْتَ للجودو؟ فهو كرياضة قتاليّة، دفاع عن النّفس والفكر والحياة. صديقي العزيز، لستُ أدري، إن كُنْتَ شاهدت الثّنائيّة الفلميّة لنابغة السّينما الياباني والعالميّ أكيرا كوروزوا – “أسطورة الجودو الكبير” – لأنّها تمثيليّا أي حياتيّا ستعطيك حياة وكتابة وطاقة أخرى. فكلّ ما أحدّثك عنه، من خلال معرفتي المُحِبَّةِ بك، تشابه ضربات مطرقة نيتشويّة، وهي فلسفة وجوديّة عميقة لأنّها يوميّة، سيقرأها من سيقرأ فعلا كتابك المبنيّ على السّؤال: “لماذا نعيش؟”. سؤالك عميق لأنّه في نهاية الأمر طفوليّ. هل هذا تحقير أو تقزيم؟ قطعا لا. نظرتي هنا تنبني على اعتبار منهجيّ وبيداغوجيّ (بمعنى تعليم الأطفال) وإنسانيّ (بالمعنى الكانطيّ المتواجد في كتابك الرّائع “دليل التديّن العاقل”) وماكر (نعم بالمعنى الفُوسْتِي والنّيتشويّ الذّي أهدى إلى فولتير السّاخر ثنائيّة “ما بعد الخير والشّر” لذكرى وفاته المائة الأولى”)، ومع هذا كلّه أُحاولُ بكلّ حبّ البناء معك بين ذاتينا، بين تونسك ومغربي، بين فرنسيّتك وعربيّتي هذه، بين الحياة والحياة والحيوات، فوالله ليس عندنا أجمل من حبّ الحياة.
أسعدك الله، يا صديقي سعيد، أليست الحياة المهمّ والأهمّ؟
صديقك الوفيّ،
أيمن حسن