الموبايل وحاجاتنا السلوكية والثقافية
حياتنا الآن أصبحت تعيش صراعا بين أكثر من جيل، فجيل يرفض وجود الموبايل، وجيل آخر لا يرى حياته من دونه، أما الجيل الثالث فهو يقف وسطا بينهما. ونحن هنا لا يمكن أن نعالج ذلك في مختبرات نفسية بقدر ما يهمنا أن نرسّخ مفهوم الموبايل من الناحية الثقافية والسلوكية وتأثير ذلك على المنظومة المتبعة ليس عندنا فقط، وإنما أيضا في أنحاء كثيرة من دول العالم.
حياتنا أصبحت أكثر رقمية، فثمة تصالح بيننا وبين هذه الأجهزة الذكية التي حددت كثيرا من مفاهيمنا ومسيرة أعمالنا ومناشطنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية، وغيرها على اعتبار أن هذه الأجهزة وتطبيقاتها تسعى إلى وجود تواصل دائم بين كل الجهات والأفراد الذين نتعامل معهم.
لا يمكن لنا أن نستغني عن الموبايل، وأقصد بذلك الموبايل الذكي الذي انخرط في حياتنا منذ العام 2007 تقريبا، حيث يوفر لأي مقتن له حزمة من التطبيقات لا يمكن أن نجدها في جهاز الكمبيوتر أو التلفاز أو أي اختراع آخر، وبالتالي فنحن موجهون إلى هذا الموبايل في كل لحظاتنا وأوقاتنا، فأصبح رفيقا لنا في سفرنا وإقامتنا ومشاعرنا، بل أصبح ضرورة تواكب العالم بعد أن كنا منذ عقود مضت نعتمد على الورقة والقلم والبريد اليدوي وأمور أخرى اتسمت بالبطء واللامنهجية، ففي الوقت الذي يستغرق إرسال رسالة واحدة إلى أحد ما شهورا نجد أن هذا الموبايل الذكي يرسلها في لحظتها بضغطة زر وقد تصل العالم كله في وقت واحد. إنها التكنولوجيا وتطور وسائل الاتصالات التي منحتنا سرعة التواصل مع من تربطنا علاقة بهم.
إن تطبيقات هذا الموبايل كثيرة، ومن السهل تحميلها والتعامل معها، منها ما هو خاص بالدوائر الحكومية والشركات، ومنها ما يخص أمورا أخرى كتطبيقات الصحة والعلاقات العامة والتعاملات المالية والأسواق والأخبار المتنوعة، ومتى ما استخدمت هذه التطبيقات باحترافية فإنها توفر على الفرد كثيرا من الوقت لإنجاز معاملاته.
لكن للأسف فالكثير من الدراسات العربية أكدت أن الشعوب العربية في غالبية سكانها لا تحسن التعامل مع هذه التطبيقات أو إجادة تحميلها من متجر الموبايل بل تحرص كثيرا على إنزال تطبيقات الألعاب وتكتفي بتطبيقات التواصل الاجتماعي كواتسآب وتويتر وفيسبوك وسكايب.
ومن هنا يجيء اهتمامنا بهذه التطبيقات على استحياء، بل الكثير من الأفراد لا يزالون ينجزون معاملاتهم بشكل تقليدي بحجة أنهم لا يحبذون التعامل مع هذه التطبيقات أو ربما لعدم معرفتهم بها أو الخوف منها على اعتبار أنها تمثل دخيلا على ثقافتهم، وبالتالي فإن هذا الأمر قد يؤثر سلبا على تقاليدهم ومعتقداتهم.
كيف أثر استخدام الموبايل على سلوكنا إيجابا وسلبا؟
لا شك أن هناك تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية، وقد ذكرت آنفا جملة من الإيجابيات التي ينبغي للفرد أن يحرص على إتقانها لتسهيل أمور حياته تبعا لرتم الحياة ومتطلباتها، وهذا أمر هام جدا فتسهيل المعاملات كان ولا يزال مطلبا للكثير من الأفراد، وهذا الجهاز وفر ذلك بسهولة كبيرة جدا.
كما أنه يساعد على تطوير ثقافة الأفراد والمجتمعات ويجعلهم متواصلين مع أحداث العالم، أضف إلى ذلك أن الموبايل قد أتاح كثيرا من البرامج والتطبيقات التي تساعد الفرد على التعلم والرفع من قدراته الثقافية والطبية والاقتصادية، فأصبحنا نتلقى العلم عن طريق أيقونة أو رابط أو تطبيق. كما أننا نجري معاملاتنا المالية ونحن في البيت، أضف إلى أننا نستطيع علاج أمراضنا دون الذهاب إلى المستشفيات ومصارعة الزحام.
أما الجانب السلبي فقد يكون مزاحما للجانب الإيجابي لهذه التكنولوجيا، فلا نجامل أنفسنا كثيرا، فنحن ندرك خطورة ذلك، وخاصة على الناشئة، بل حتى على الكبار الذين كانوا في وقت ما منزعجين من سلوكيات أبنائهم أصبحوا الآن مرتبطين بالموبايل ارتباطا كبيرا، ويبدو أن انعدام الحوار بين الأفراد هو الخطورة العظمى من وجهة نظري، فالحوار بين الأبناء، وبين الأزواج، وبين المعلم وطالبه، وبين المؤسسات، وغيرها، قد قارب على الاختفاء من حياتنا بفعل هذا الموبايل، إلا ما ندر من أولئك الذين يتقنون آلية هذا الجهاز والوقت الذي يتم فيه استخدامه.
إن توليد ثقافة العنف والانتحار والجريمة من أبرز ما تعانيه المجتمعات، وأعني بتلك المجتمعات التي لا تعير العقوبات أي أهمية، وبالتالي يفسح لتلك العادات الطريق لممارستها والتفنن فيها، وندرك تماما أن ما تفرضه هذه الأجهزة من عزلة على الشباب بحكم الواقع الافتراضي الذي يعيشون فيه ينعكس سلبا على ممارسة الكثير من السلوكات الخاطئة، وما إلى ذلك من أمور سلبية يتركها الموبايل على الفرد بشكل خاص كالاتكالية والكسل وعدم الاهتمام بمذاكرته ومحدودية التفكير وسوء التعامل مع الأسرة وقطع العلاقات مع الأقارب والأصدقاء. والإدمان على هذا الموبايل له خطورة كبيرة قد تؤثر سلبا في سير العمل والنشاط الذي يمارسه الفرد.
باعتقادي أن المستخدم لا بد له من أن يتعامل مع الموبايل وفق حاجاته الضرورية حتى لا يفقد الصورة الإنسانية التي بناها آباؤنا، فأن يكون هذا المستخدم حبيسا لهذا الموبايل، فذاك يعني أن هناك خطأ في استخدامه وعدم استغلاله في ما يفيد. فالمشكلة إذن ليس في تقنية الموبايل بقدر ما هي مشكلة في المستخدم نفسه، وأعني بذلك حرصه على اغتنام وشغل وقته بما يفيد.
هناك خيارات ثقافية كثيرة أدخلها هذا الجهاز على مؤسساتنا الثقافية، وعلى الأفراد، وذلك في ما يخص النسق الثقافي المتبع والسائد، أذكر مثلا ما وفره الموبايل من حاجات ثقافية كثيرة، منها “مفهوم القراءة “، حيث وفر للقراء الآلاف من الكتب التي يستطيع الحصول عليها بضغطة زر.
الثقافة الإلكترونية باتت مطلبا أساسيا لتنمية المعرفة والاطلاع، كما أنها تقف بجانب الثقافة العامة، وهذا المزيج حتما سيوفر للمتلقي المزيد من الحقائق والمعارف والبيانات. وقد ساهمت كثيرا، أي تلك التطبيقات الذكية، في تأهيل الثقافة وقربها من المثقفين والمتعلمين.
إن التطور الذي نلاحظه في هذا العالم الذي يشهد ثورة معلوماتية كبيرة نتيجة لتلك التكنولوجيا التي ساهمت التكنولوجيا بشكل عام والأجهزة الذكية بشكل خاص في إرسائها وتنميتها وتسهيلها.
لقد اهتمت الشركات بتوفير عدد كبير من التطبيقات في هذه الأجهزة الذكية لمقاربة الفعل الثقافي وبناء ذاكرة ثقافية تستطيع أن تؤصل الثقافة بمفهوما الكبير في ذهنية المستخدمين وإيجاد حلول ناجعة لإبراز ذلك المفهوم في العقلية المقبلة على ثقافة مؤطرة بالموروث الثقافي الذي تمتلكه معظم الدول.
إنها الحياة الجديدة التي لاغنى عنها، فقد أصبح استخدام الموبايل ضرورة ملحة لمواكبة هذه الحياة ومسايرة متطلباتها الإلكترونية، على الرغم من بعض الأضرار التي يتركها هذا الجهاز على الإنسان وخاصة الأطفال، فقد أكدت الكثير من الأكاديميات والدراسات أن تأثير الهاتف الذكي قد يكون بمثابة “قنبلة موقوتة صحية” على عقول الناشئة بإصابتهم بأضرار العين وأمراض التوتر والصرع وما إلى ذلك من أمور قد ذكرنا بعضها في بداية المقال.
ندرك تماما حجم الفائدة الإيجابية من هذه الأجهزة، لكن علينا أن ننتبه ونقنن فترات استخدامنا لها. ففي استخدامها عدالة لعقل الفرد وصحته، وأن يكون هذا الاستخدام من منظور الحصول على المزيد من الثقافة والمعرفة، وأن يكون، أي هذا الاستخدام، نقلة نوعية لحضارتنا وبناء أحلامنا.