المونودراما في المسرح العربي
يبدو من المتعذر على الطارق أبواب الظاهرة المونودرامية وخلفياتها الفكرية في المسرح العربي قراءة ملامحها بشكل استبصاري عميق ودقيق لأسباب عدة منها ندرة المرجعيات أو المصادر النظرية التي تعنى بهذه الظاهرة من مكتباتنا ومن مراكز البحوث والدراسات العربية حد الغياب. وغياب البيانات التأسيسية التي تستجلي معطيات وآفاق هذه الظاهرة، ومحدودية المؤسسات المسرحية (فرق/مراكز/اتجاهات) التي تعنى بشكل خاص بفن المونودراما في أغلب أقطارنا العربية. واضطراب المنحى التراكمي لظاهرة المونودراما في مسرحنا العربي، الأمر الذي يتعذر معه إقرار وجود حقيقي وفاعل لهذه الظاهرة، وندرة بل غياب الورش المسرحية التي تعنى بفن المونودراما في مسرحنا العربي، ندرة الوقوف النقدي التطبيقي على أهم التجارب المونودرامية في مسرحنا العربي، الأمر الذي يتعذر معه تبيّن الرؤى الفلسفية أو الفكرية التي تنطلق منها هذه التجارب أو تتعضد بها، قلة المحافل (المهرجانات/الملتقيات/الأيام) التي تحتفي بفن المونودراما وتطلع جمهور المسرح على أهم التجارب المونودرامية وأهم آفاقها الفنية والفكرية، وإن كان هناك ثمة أمر يستحق التقدير فهو احتفاء هيئة الفجيرة للثقافة والفنون والمسرح بهذا الفن عبر مهرجانها الدولي السنوي للمونودراما، ولعله يكون أول محفل مسرحي يعنى بفن المونودراما يتسنى لي حضوره.
أجدني في غمرة هذه الكتابة كمن يستجدي البحث عن لون فني أزال تراثنا المسرحي العربي آخر ما تبقى له من أثر، وإن كان ثمة أمر “غريب” فيختزل في تجارب مونودرامية متباعدة غير حاضرة الفعل والروح والمدى، وربما غير مؤثرة وممتدة، تجارب كتجارب د. سعدي يونس في العراق ورفيق علي أحمد في لبنان وزيناتي قدسية وندى حمصي في سوريا وقاسم بياتلي في إيطاليا وعبدالحق الزروالي في المغرب وسامية زقمور في فلسطين، وعلى صعيد الكتابة أمين بكير وممدوح عدوان وكاتب السطور وغيرهم.
ولعلني أتبيّن أولى الإشكاليات في ملامح ظاهرة المونودراما ذاتها، حيث استفحل الخلط بين الراوي أو الشاهد على التجربة أو السارد في المسرح الجماعي وبين المونودراما كفن مسرحي يقتضي جهدا فنيا أدائيا تقنيا خاصا به، فنلحظ أن أغلب المؤدين لفن المونودراما يتوشحون بروح الراوي وإن تجسدوا في بنات أحداثه. إذ الراوي يظل هو المسيطر والأحداث لا تأتي إلا من قبيل العرض العارض أو في هيئة جملة اعتراضية أو هوامش استشهادية، وكان من المفترض أن تكون هي روح الفعل في الأداء ويكون الراوي هو المسيطر على فضاء العرض والتلقي ويكاد حضور الحدث يكون غائبا أو مغيبا أو متماهيا في شخص المؤدي لا في شخصيات العرض الذي تجسده.
وهنا يصبح المؤدي أشبه بجهاز التسجيل كما يكون أداؤه برانيا لا يصدر عن ذاكرة انفعالية ولا عن مخيلة قادرة على تحريك خلايا الأحداث الكامنة في النص المؤدى، وهنا نلحظ الكم الاستعاني الاستعاري الهائل الذي يلتاذ إليه المؤدي من أجل تدشين شخصيته، وكما لو أن الجسد عاجز عن الاضطلاع بمهمات هذا الكم، أو كما لو أن فن المونودراما لا يتحقق فعلا وروحا إلا بالالتياذ لهذا الكم الاستعاني الاستعاري.
طبعا لا بأس في أن يلجأ المؤدي لهذا الكم إذا كان قادرا على خلق حياة فاعلة وخلاقة في جنباتها وفي روحها، واستطاع أن يجعل منها شخصيات أخرى يجري معها حوارا وصراعا ويهيئ منها فضاء عاجا بالحيوية ومتسعا لبيئة خلقية تفاعلية بينه وبين مادة فضائه وبين فضاء التلقي، ولكن ما نطمح إليه -وهو ليس حكم قيمة- يكاد يكون غير متحقق، فالمساحة الجمالية التي ينبغي أن يستغل المؤدي فيها جسده كاملا يلتهمها حكي الراوي وتتجاهلها فترات التحول من شخصية إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر.
وهنا نلحظ التمزق النسيجي لفضاء الأداء المونودرامي والفراغ الذي يرهق روح فضاء العرض، وكما لو أن المؤدي يرسل أصواتا متناثرة متباعدة في أفضية مختلفة ومتعددة لا تنسجم في فضائها المقترح، ولا تحفر عميقا في منطقتها ولا تؤسس وتهيّئ لحضورها في الفضاء المعد لها، وإن حدث وأخلصت لصوت الراوي فهي قد وقعت في مأزق الأداء التقليدي السائد وهنا يكون الأداء وفضاء التلقي رهينين لحالة أفقية ليس بإمكانها أن تتجاوز منطقة التناثر والتباعد الصوتي للمؤدي.
وهنا نتبيّن الإشكال جليا في أسس تعاطي فن المونودراما في مسرحنا العربي، حيث التوجه إلى الراوي بوصفه مدخلا أدائيا أساسيا في فن المونودراما لا بوصفه مفردة مسرحية لها إمكانيات فنية متباينة كما للمفردات المسرحية الأخرى في النص والعرض.
فإذا كان التاريخ يشفع لثيسبيس الممثل الأول اضطلاعه بدور الراوي وذلك لعدم وجود ممثل مصاحب له آنذاك ولأسباب يغفرها التاريخ له، فما الذي يشفع لممثل مونودراما هذا العصر؟ أحاول أن أبحث عن شفاعة له، ولكني قطعا غير مقتنع بها.
أرى أن بعض الممثلين ضجروا من أسلوب أو أساليب مخرجيهم ومن سطوتهم عليهم فوجدوا ضالتهم في فن المونودراما، وبعضهم لم ينل فرصة كافية للتعبير عن طاقته الفنية فلجأ إلى فن المونودراما، وبعضهم توفر على تجربة وخبرة كافيتين في الأداء المسرحي فرأى أنه قادر على تحقيق ذاته عبر هذا الفن، ولكن هل يشفع لهؤلاء وقوفهم عند هذه الأسباب وإن حاولت البحث لهم عن شفاعة؟ هل يمكن لمن قضى ردحا طويلا من الزمن مؤديا في حيز فرقة مسرحية أن يكون بين ليلة وضحاها ممثلا مونودراميا؟ وهل تأسس في مسرحنا العربي مخرجون في فن المونودراما أم أن أغلب من خرجوا على فرقتهم المسرحية أو حاولوا من خلالها تجريب واختبار فن المونودراما هم من أخرجوا أعمالهم المونودرامية؟
ولعلني لاحظت تجارب في هذا الفن لم تنخلع من ثوب أدائها السابق مع فرقتها ولم تتمكن من تجاوز أداء ممثلها الأول وأعني به المخرج، بل إن أداءها حين كانت تعمل مع فرقتها أكثر تميزا وتألقا وحضورا، وقد بهتَ أداؤها حين خرجت من حيز هذه الفرقة.
هل السبب يكمن في غياب الحوار الخلاق الذي تتوفر عليه الفرقة؟ هل السبب يكمن في التعاطي الواحدي للتجربة، نصا وإخراجا وتمثيلا وسينوغرافيا؟ هل السبب يكمن في الانغماس الفاقع في الثرثرة الأدائية لفظا وإيماءات وجسدا؟ أم أنها المكابرة المجانية في محاولة البعض استنطاق لغة الحياة في زمن معيّن خاصة إذا ما استبطن النص شخصيات مركبة وإشكالية تعوزها طاقة أدائية غير عادية ومتمرسة في مجال فن المونودراما ومتأملة لأبعادها وتضاعيفها؟
هل السبب يكمن في سطوة الواقعي على المتخيل الذي يفسح مجالا جماليا فسيحا للمؤدي وللعرض وللمتلقي؟ إذ أن تولي مهمة أداء عرض بأكمله وعلى كاهل ممثل واحد ليس كالمهمة التي تقتضي أداء دور واحد في العرض، فالمهمة الأولى تتطلب جهدا مضاعفا ويصبح فيها المؤدي موزعا بين المؤدي والمخرج والمؤلف والسينوغرافي أحيانا، خاصة وأن وضع المونودراما في مسرحنا العربي الفني والموضوعي ليس كما هو في أوروبا التي تضاءل فيها دور المونودراما، حيث العمل موزع بين المؤلف والمخرج والممثل والسينوغرافي وكل يدرك المهمة المناطة إليه وبالتالي يكون المؤدي مفرغا لدوره فحسب لا شيء يشغله غير دوره، والحال هذه تتبلور وتتأسس الرؤية الفلسفية والفكرية الفنية للعمل، للفرقة، وتصبح ذات تأثير مهم في حيزها وفي الحيز المجتمعي أيضا، أما وحالنا هذه فكيف نخال الرؤية التي تتأسس على ضوئها تجاربنا المونودرامية؟ وإن نجت إحداها فهي بالتأكيد قد خضعت لمختبر فكري وفني غير عاديين والله أعلم بالتجربة التي سوف تليها.
مونودراما "تحت السماء" إخراج ماهر صليبي (سوريا)
وهنا حين نود أن نتحدث عن المرجعيات الفكرية لهذه التجارب نلحظ أن أغلبها انبثق عن فرق مسرحية ذات نهج فكري تقدمي رصين ومؤسس ومؤثر واشتغل مع مخرجين مسرحيين مبدعين، كجواد الأسدي وروجيه عساف وغيرهما، ولكن حين يجري الحديث عن هذه التجارب بعد اشتغالها في فن المونودراما يصعب الحديث عن تحقق وهج فكري يتجلى من خلالها، ولعلي أسلفت بعض الأسباب، بل إن أغلبها تحول إلى فن رسائلي مناسباتي مباشر، لا نشهده إلا في المهرجانات وبعدها يخبو، لا يراكم ولا يطور ولا يتأمل التجربة أو يعيد النظر في معطياتها أو في مفرداتها، وتكاد تكون هذه الخطابية الرسائلية المباشرة ملمحا من ملامح الظاهرة المونودرامية في مسرحنا العربي -إذا جاز الإقرار بها كظاهرة- ولذا نلحظ أن فن المونودراما في مسرحنا العربي لم يشكل له جمهور حقيقي يتابعه ويحاوره، لأنه – كما أسلفت – لم ينمِ تجاربه ولم يتحول إلى تظاهرة مسرحية لها ملامحها الفنية الخاصة بها ولها مرجعياتها العميقة والذاهبة بها نحو آفاق أكثر قدرة على التخلق والتأثير والامتداد، كما نلحظ أنه إذا أخلص إلى هذه الرسائلية تجاهل التقنيات الأدائية التي تعبر برؤيته الفكرية إلى فضاء الأداء المسرحي المتميز والمبدع، فنشهد مثلا المساحة الارتجالية التي يتعاطاها مؤدي المونودراما في أدائه أو في فضاء عرضه -وهي ملمح مونودرامي في مسرحنا العربي- أشبه ما تكون عامية عفوية التجسد، لا صادرة عن اتجاه أو مختبر مسرحي يعنى بفن الارتجال، وغالبا ما يكون هذا الملمح مربكا للتجربة بوجه عام، تارة يميل نحو الفارس أو الفودفيل وتارة يقترب نحو “الأوفيه” التجاري وتارة يربك الأداء الحركي للممثل وعلائقه بحيوات عرضه، وتارة يتماهى مع اللغة اليومية للحياة بمختلف مفرداتها اللفظية والإيمائية، وهنا يكون الارتجال معيقا للجسد الأدائي في المسرح، فبدلا من أن ينميه ويجليه ويضيئه يخمده ويقصيه، يصبح اللغة الموازية للحكي المسرف في سرده للأحداث، وغالبا ما يستوعب الارتجال على أنه جنس من أجناس الضحك والتهريج لا بوصفه فنا يستجلي إمكانيات الخلق والإبداع في جسد الممثل.
وهنا نلحظ أن مؤديي المونودراما يقتربون كثيرا في أدائهم من منطقة مهرج السيرك، لا مهرج المسرح، وهي إشكالية في الرؤية الفنية لدى المتصدين لفن المونودراما في المسرح العربي.
ومن الإشكاليات الملامحية لفن المونودراما في مسرحنا العربي، الفوتوغرافيا الفاقعة في بعض العروض والشروحية المستفيضة لها، فإذا دلف بعضهم إلى حديث عن مدينة أو قرية أو واقعة، أطنب في كل تفاصيلها وراح يشرح ويفسر ويزيد دون أن يتيح ولو بعض مجال لإمكاناته التخيلية أو لإمكانياته الصورية أو البصرية أو الإيمائية.
وفي الوقت الذي تطور فيه فن الفوتوغرافيا لا يزال البعض مصرا على تجسيده في إطاره التقليدي التسجيلي السائد، ونلحظ أن هذه الحالة الفوتوغرافية تباعد بين المؤدي ومادته الأدائية، ونكون أمام عارض للمادة لا مؤد لها، أمام مادة تكتسب حيويتها في صورتها الجامدة لا من أداء مصورها وروحه وطاقته، فإذا كان الفن عاكسا للحياة فما أهميته إذن؟ ما أهمية ذات المؤدي إذا كانت مغيّبة عن فنه؟ فإذا كان يشفع للمؤدي هذا أنه خرج على مخرجه لأنه وأد ذاته وراح يبحث عن ذاته من خلال ذاته وحده فحسب، فما أهمية هذه الذات إذا كانت روحها جامدة في الصورة الفوتوغرافية التي صورتها؟
لا أخال ممثلا حلم ذات يوم بأنه يؤدي المونولوج الكوني الرائع لهاملت شكسبير “أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال” أو خطاب أنطونيو المدهش والمؤثر في يوليوس قيصر لشكسبير أيضا “أن يرتكن لهكذا موات وهو الذي أخذ بهكذا حلم وقرر مصيره الفني من خلاله، لا أخال من تسنى له تجسيد ذلك الحلم أن يؤول إلى ما آل إليه من موات”.
وإذا كانت الفوتوغرافيا ملمحا من ملامح فن المونودراما لمسرحنا العربي -كما أسلفنا- فإنه أيضا فن استعادي، وهو ملمح آخر يطغى على أغلب عروض فن المونودراما في مسرحنا العربي يذهب لما حدث، لا لما يحدث أو يحاور ما حدث في راهنه، أسير ماض أو عزلة أو سجن أو وحدة، وهذا الملمح نلحظه في أغلب عروض المونودراما في مسرحنا العربي، فن لا يدع مجالا للذاكرة بأن تتنفس في راهنها أو تتمكن من قراءة مستقبلها، وكما لو أن فن المونودراما تشكل بهذا الشكل والخارج على هذا الشكل خائن لفن المونودراما، ولعل هذه الإشكالية أساسها فكري، وهنا ينبغي بالضرورة وبصرامة مراجعة مرجعياتنا الفكرية وخلق وهج فكري قادر على استيعاب ما يحدث في الحياة وفي الفكر وفي المسرح وهذا لن يتحقق إلا بإمطار الأسئلة الشاخصة على تجربتنا المسرحية في فن المونودراما.
وتظل هناك بعض الأسئلة لا زالت عالقة في رأسي، هل فن المونودراما يعني بالضرورة فن الممثل الواحد؟ وماذا يعني الممثل الواحد في المسرح؟ وماذا يضير لو تعضد الممثل الواحد بممثلين آخرين بتجربته؟ ألا نستطيع أن نطلق عليه فن الممثل الواحد إذا كان هو صاحب الدور والحضور الأساسيين بين من يصاحبه دوره في التجربة؟ ولماذا يظل فن المونودراما في مسرحنا العربي رهين السرد والكلمة؟ لماذا لا يذهب للبحث عن لغة أخرى معضدة للكلمة أو مستقلة عنها؟ لماذا لا يكون فن الكوروغرافيا حاضرا في تجاربنا المونودرامية؟ لماذا لا ينعكس مسرح الصورة بتجلياته الجمالية عليها؟ ألم نسأل أنفسنا بعد لماذا يكاد يكون فن المونودراما مهمشا وغريبا عن وعلى الجمهور؟ لماذا لا تتأسس مراكز وورش مسرحية عربية تعنى بفن المونودراما في مسرحنا؟ لماذا لم يتخلق حتى الآن اتجاه واضح وفاعل في فن المونودراما في مسرحنا العربي؟ إنها أسئلة تتوخى البحث عن ملمح آخر مغاير وجديد في فن المونودراما أو فن الممثل الواحد بمسرحنا العربي.