الناقد شاعر آخر يعيد كتابة القصيدة بلغته
الفوضى التي يعيشها الشعر راهنا هي فوضى في المفاهيم والتصورات حول الشعر قبل أن تكون فوضى في أشكال الكتابة والاستسهال والتعدي على هذا الفن الرفيع. والسؤال هل هذه الفوضى هي نتاج قصيدة النثر وما رافقها من تحرر القصيدة من الوزن وأشكال البلاغة السابقة، أم هي نتاج سياق ثقافي واجتماعي عولمي تحولت معه الثقافة والفنون إلى سلعة في السوق أكثر مما هي صناعة تستند إلى موهبة وتخييل مبدع باللغة ومع اللغة لاكتشاف طاقات تعبيرية بلاغية مخبوءة، في سياق الرؤية الجديدة للشاعر وهي تعيد بناء علاقة الذات الشعرية مع اللغة والعالم والأشياء.
لا شك أن قيم الاستهلاك التي دخلت إلى الثقافة كما دخلت إلى جوانب الحياة الأخرى أثّرت كثيرا في مفهوم الإبداع بصورة عامة والشعري بصورة خاصة. لقد منحت قصيدة النثر التي تحللت من قيم الوزن وحاولت أن تستعير من الفنون الأخرى وفي مقدمتها السرد بعض تقنياتها أسهمت في خلق مساحة واسعة من الحرية أمام الشاعر لتوسيع حدود رؤيته ورؤياه، لكن غياب الموهبة وضعف التجربة واستسهال الكتابة جعلت هذه التجارب تقع في فخ التوظيف المجاني عندما عجزت عن تطوير آلية استخدامها وفقا لما تمليه خصوصية الكتابة الشعرية كبنية وتخييل ولغة تتميز بالتكثيف الشديد والانزياح البلاغي والشعري ما جعل من الصعب التمييز بين القصيدة وشعرية اللغة السردية في هذه الكتابة أو بين الخاطرة والقصيدة.
إن هذا المشكل الذي نجده ماثلا كثيرا في ما ينشر اليوم هو أحد وجوه الفوضى الناجمة عن اختلاط التصوّرات والمفاهيم الأدبية لأسباب كثيرة أهمها غياب الخبرة اللغوية والوعي الشعري والجمالي الخاص بالكتابة الشعرية، خصوصا مع تراجع دور النقد والناقد لأسباب كثيرة يمكن أن نعد هذا الفوضى أحد أهم أسبابها كما هي أحد نتائجها. لذلك بات الشعر لا يغري الكثيرين بقراءته والناقد هو قارئ أيضا، ما أدى إلى تراجع الدوافع التي تجعل النقاد منخرطين في الحياة الشعرية قراءة ونقدا خاصة مع غياب علاقات الحوار والانفتاح بين الشاعر والناقد في ظل الاتهامات التي يسوقها الشاعر للناقد عندما لا يحابيه في نقده ويمارس دوره بعيدا عن أيّ موقف مسبق من الشاعر.
لكن قبل كل هذا لا بد من القول إن هناك سببا آخر أكثر وجاهة لتخلّي النقد عن وظيفته يتجلى في صعوبة قراءة الشعر ودراسته نظرا لطبيعة لغته المجازية المفتوحة على دلالات وتأويلات كثيرة، إضافة إلى غياب وحدة القصيدة ونزوعها إلى التجريب وتعدّد تقنيات كتابتها التي أدخلتها في علاقات تناص كثيرة مع أجناس أدبية وفنون أخرى. إن ناقد الشعر هو شاعر آخر يعيد تفكيك وتراكيب القصيدة من جديد في ضوء ما يمتلكه من أدوات وحساسية ووعي بخصوصية الكتابة الشعرية وأدواتها وطرق تشكيلها ودلالة كل هذا في إطار البنية الكلية للقصيدة. إن هذه الخصوصية في التعامل مع القصيدة نقديا هو نوع من المغامرة كما هو حال القصيدة تماما وهذه المغامرة تحتاج إلى علاقة تقوم على الخبرة والحوار العميق مع القصيدة. إن هذا الجهد الذي يبذله الناقد في مغامرته النقدية يحتاج إلى اعتراف به من قبل الشاعر على الأقل كما كان يحدث في الشعر العربي القديم. لكن المشكلة أن الشاعر أو من استبدل الناقد بعدد الإعجابات التي ينالها على أجهزة التواصل على الرغم من عمليات الخداع والتضليل التي تمارسها دون أن يحاول أن يمارس على قصيدته دور الناقد لأسباب أهمها ضعف الخبرة الشعرية قبل أي شيء آخر.
*****
في تاريخ الشعرية العربية القديم كانت الموهبة هي التي تصنع الشاعر، وفي مراحل لاحقة أصبح الشعراء يذهبون إلى أكثر الشخصيات معرفة بالشعر وتذوقا له يلقون أمامه قصائدهم لكي يحكم أيهما أكثر شاعرية من الآخر وكان الحكم يتحول إلى معيار قيمة حقيقي، وعندما بدأ عصر التصنيف والمعاجم كان الشعراء يتم تصنيفهم في طبقات على أساس القيمة الشعرية لكل شاعر. حيث كان الشعراء الفحول أو الأكثر شاعرية يأتون في صدارة هذه الطبقات. لم يكن في ذلك الزمن نظريات ودراسات في الشعر. لكن الشعر الذي كان يعتمد على السليقة ثم تطور في مراحل لاحقة إلى صناعة كما هو الحال في مصطلح صناعة الشعر الذي كان يطلقه نقاد الشعر القدامى على العملية الإبداعية، ولعل حوليات الشاعر زهير بن أبي سلمى هي التجسيد الحقيقي لهذا المفهوم، حيث كان يبقى عاما كاملا ينقح قصيدته حتى يرضى عنها ويشيعها بين الناس.
إن تطور الشعرية العربية والمراحل التي مر فيها هذا التطور لم يكن ليحدث لولا وجود شعراء كانوا على قدر كبير من الموهبة والثقافة الشعرية وتمثل القيم الجمالية التي كانت تفرضها الحياة الجديدة عليهم. إن هذا التداخل والتكامل بين عناصر التجربة الشعرية هي التي تدلنا من أين يأتي الشعر وكيف ينمو ويتطور. فالشعر العباسي هو غير الشعر الأندلسي وغير الشعر الجاهلي وكذلك الشعر الرومانسي وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر. إن هذا التحول والتطور الذي كانت تشهده الشعرية ما كان ليحدث لولا توفر العناصر الموضوعية والذاتية التي تتكامل داخل الذات الشعرية. كذلك لولا الجهد الخاص الذي كان يبذله الشاعر في تطوير تجربته ورفدها بروافد شعرية ومعرفية كثيرة. إن وجود تجارب مختلفة تمتلك فرادتها هي التي صنعت تحولات هذه الشعرية وفتحت أمامها آفاقا جديدة. والسؤال أيّ تميز وفرادة في هذا المشهد الذي تتداخل فيه الأصوات إلى درجة الاستنساخ والبلبلة الشعرية حتى أصبح عدد الشعراء والشاعرات أكثر من عدد قرائه.
إن هذه الخصوصية هي في جانب هام وأساسي منها تتعلق بموضوع اللغة وبلاغتها ومعرفة أسرارها وطاقاتها المخبوءة التي تحتاج إلى طاقة تخييل كبيرة قادرة على أن تحلق بها. إن العلاقة مع اللغة والتخييل الشعري هما جناحا القصيدة التي تكسبها الخبرة خفة في التحليق بعيدا. إن اللغة بوصفها الحامل الأساس وأداة التشكيل والتعبير ووعاء التجربة تتطلب الحفر في طبقات هذه اللغة وإعادة بنائها على نحو مبدع بعيدا عن التهويم أو التداعيات الوجدانية والإنشاء، لأن هذه اللغة تحتاج إلى أن تتفوق على نفسها وأن تطير بأجنحة الخيال خارج أقفاصها ومواضعاتها السائدة. إن قصيدة لا تمتلك القدرة على الإدهاش والخصوصية في بنائها وطرائق تعبيرها ورؤاها الجمالية لا يمكن أن تجتذب القارئ إليها.
لقد كان يقال للشاعر المبتدئ قديما عليك أن تحفظ آلاف الأبيات الشعرية ثم عليك نسيانها لكي تكتمل حتى تصبح شاعرا. اليوم ونحن نطالع عشرات الأسماء لشعراء وشاعرات نسأل كم قرؤوا من الشعر العربي أو كم شاعرا يعرفون من أعلام الشعرية العربية وتحولات هذه الشعرية حتى يمتلك الثقافة الشعرية اللازمة والخبرة بهذه الصنعة لكي ينطلق من هذا الوعي في تطوير تجربته. لقد حاول البعض أن يستخدم مصطلحات التمرد على الموروث الشعري والبلاغي وقتل الأب لإعفاء نفسه من عناء هذا العمل الذي لا يجب أن يتوقف ما دامت القصيدة تحاول أن تتجاوز ذاتها كما تحاول أن تتجاوز حدود الكتابة الشائعة ومرجعياتها التي تأسست من خلالها. لذلك ما من شاعر يبدأ إلا ويحمل ملامح شاعر أو أكثر ما، لكنه سرعان ما ينطلق بعيدا عن هذه المؤثرات ويبدأ في تشكيل هويته الشعرية الجديدة. إن الشعر قائم على علاقات اتصال وانفصال في آن معا وهنا تجد الذات الشعرية ذاتها داخل قصيدتها دون أن تتوقف عن توسيع حدود فضاءاتها وتطويرها لأدواتها ورؤاها.
ولكي نكون أكثر انصافا في نقدنا للممارسة النقدية العربية الحديثة لا بدّ من الاعتراف أن النقد العربي الحديث لم يكن فاعلا بالصورة المطلوبة في حواره مع الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة بسبب تداخل المعرفي والنقدي مع السياسي في كثير من الأحيان ولعل محاولة استنساخ التجربة النقدية الشيوعية عن النقد والأيديولوجيا في سوريا ومصر هو مثال على خضوع النقد لسلطة الأيديولوجيا، وبالتالي فقدان الشعر لفضاء الحرية الذي يحتاجه كما هو الحال بالنسبة إلى النقد الذي تحول من وظيفته كأداة كشف واكتشاف إلى سلطة رقابة وتقييم وفق مرجعيات فكرية وسياسية مسبقة. لكن تراجع هذا الدور مع تراجع حضور قصيدة التفعيلة جعل التجربة النقدية تعود من جديد للبحث عن مرجعيات معرفية ونقدية تبني على أساسها رؤيتها ومنظومة مفاهيمها النظرية والمنهجية الجديدة، في وقت كان فيه الانتقال من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر يتم دون مرجعيات نظرية وجمالية باستثناء بعض المفاهيم العامة التي تم نقلها عن مرجعيات غربية معروفة. لذلك نشأت أغلب التجارب الشعرية في البداية متأثرة بتيارات شعرية غربية مثل قصيدة اليومي وقصيدة التفاصيل والرمزية.
إن الذات الشعرية بحدسها وبما تمتلكه من طاقات تخييل وثراء لغوي ومعرفة بأسرارها وحساسية كبيرة لجمالياتها هي التي تصنع الشعر وتقوده في مغامرة الكتابة التي تظل بلا ضفاف بحثا عن قصيدتها المرجأة لأن كل قصيدة تكتب هي مشروع للوصول إلى تلك القصيدة التي تظل تراوغ الشاعر وهو يطارها.