النخبة‭ ‬الثقافية‬ والديمقراطية‭ ‬الغائبة‬

الأحد 2015/03/01
الفنان السوداني ياسر أبو الحرم

لعل أول تقرير في العصر الحديث، لتوطيد دعائم النخبوية كفكر يمارس من قبل بعض الأشخاص، جاء من خرافة كتبها فرنسيس بيكون في قصته الخيالية التي أطلق عليها «أطلانتس الجديدة» والتي نشرها عام 1627، تلك القصة التي تقول إن كارثة قد وقعت لمجموعة من راكبي سفينة عصفت بها الرياح العاتية نحو جزيرة تدعى بن سالم، وكان سكان هذه الجزيرة على قدر كبير من الحكمة والتسامح والعدل والكرم وأيضا الثقافة والعلم، وكان بهذه الجزيرة مؤسسة تدعى “بيت سليمان” كانت وظيفتها تقديم المعرفة التي بموجبها تستطيع هذه المؤسسة أن تسيطر على واقع الجزيرة‭.‬ كانت تمثل هذه المؤسسة النخبة الحاكمة في تلك الجزيرة، هذه النخبة لم تأت عن طريق تنافس حزبي أو صراع سياسي، أو أيّ شكل من أشكال الديمقراطية، بل تم فرضها قسرا على سكان الجزيرة‭.‬ لقد أعلنت هذه المؤسسة هدفها وعممته علي الجزيرة مدعية أن النخبة لديها الآليات التي تجعل حياة الإنسان أكثر سعادة‭.‬ ولهذا وضعت النخبة مجموعة من الأولويات والتفضيلات التي ينبغي على سكان الجزيرة السير وفقا لها كما وضعت، في الوقت ذاته، العقوبات التي تنال كل من يخرج على الخطوط التي وضعتها النخبة‭.‬‬‬‬‬

ولا يقتصر دور النخبة الثقافية والحاكمة في هذه الجزيرة على العمل المحلي، أي على واقع الجزيرة ذاته، بل هناك مهام أخرى تقوم بها، وهي أن هناك مجموعة منهم تكون مهمتهم الذهاب إلى بلدان أخرى بأسماء مستعارة للتجسس والعودة بالأدوات والعينات والنماذج والملاحظات والتجارب المختلفة للاستفادة منها في دولهم‭.‬ ومن ثمة يسود في هذه المؤسسة نوع من سرية المعلومات التي تملكها النخبة في هذه المؤسسة حتى تظل النخبة متحكمة في المعلومات التي تبثها لسكان الجزيرة بالقدر الذي تحدده والتوقيت الذي يناسبها وما يتفق مع توجهاتها المحددة مسبقا‭.‬ لقد أسس فرنسيس بيكون لنخبوية معرفية وثقافية أصبحت مصدر إلهام للعديد من المؤسسات الثقافية والسياسية في العصر الحديث، هذه النخبوية تسعي لممارسة نوع من تزييف وعي المواطنين عبر تشكيل نوع المعرفة السائدة في مجتمع ما من المجتمعات لتحقيق مصالحها الخاصة بغض النظر عن الصالح العام‭.‬‬‬‬

مثقفو التوك شو

وإذا حاولنا أن نكشف هذا الاتجاه النخبوي في واقعنا الثقافي العربي، فإننا يمكننا القول إن بعض المثقفين (النخبويين) في واقعنا العربي يبدي تكلفا مصطنعا، فهو يتحدث لغة غير مفهومة ويستخدمها في المناسبات وأمام شاشات القنوات الفضائية، يستخدم لغة التعميمات المبالغ فيها، ويحتمي وراء أقوال مأثورة تارة من حكيم، وتارة أخرى من فقيه، وتارة ثالثة من سياسي وهكذا، ويسلك سلوكا طقوسيا مملا في أحيان كثيرة، يظهر بوجه متجهم متعاليا على الواقع المعيش‭.‬ ولعل أخطر النتائج المترتبة على سيادة هذا التكلف المصطنع هو ما نجده اليوم من تناقض بين الفكر والواقع، بين اللغة التي يتحدث بها السياسي والمثقف والفقيه (النخبة) وبين الواقع الفعلي المعيش، بين الأفكار التي تطرحها النخبة السياسية والثقافية والدينية، وبين المشكلات التي يعاني منها الواقع الاجتماعي‭.‬ ففي كثير من الأحيان نلاحظ أن النخبة تقول ما هو مخالف للحقيقة، وهذا لا يكون اعتباطيا دون قصد، بل هو متعمد ومقصود لخداع الجماهير سواء كانوا مشاهدين أو مستمعين أو قراء، حيث يعتقد، من يعتبرون أنفسهم نخبة، أن الجماهير ليس لديها الوعي الكافي والنضج العقلي الذي يجعلها تميز بين التفكير الواعي والتفكير الزائف، وهذا ما يفسر رغبة النخبة في حضور حلقات برامج النقاش أو ما يسمي بـ”التوك شو” حتى يدافعواعن قضايا تتفق مع الاتجاه السياسي أو الديني المهيمن، أو ليدافعوا عن قضايا تتناقض مع هذا الاتجاه السياسي أو الديني، فيستخدمون عبارات تدغدغ مشاعر الجماهير لتحريف الوقائع حيث تخدم في النهاية مصالح هذه النخبة وسياساتها وفقا لتوجهاتها المختلفة، فيصبح الكذب وسيلة شرعية للمعارك السياسية والثقافية والدينية، وتغيب القضايا الحقيقية التي تهم الجماهير‭.‬‬‬‬

الكثير منا يرتاب مصداقية الأفكار والآراء الصادرة عن النخبة المثقفة، وذلك لطرح هذه النخبة أفكارها وقيمها في صورة معلبة جاهزة للتطبيق، فيحدث الانفصال بينها وبين الشارع، وبينها النشاط الإنساني الفعلي

المثقف النرجسي

إن الخطورة التي تنبع من المثقفين والمفكرين ورجال السياسة والدين (النخبة) المتحيزين لأفكارهم وآرائهم لدرجة تصل إلى الهوس، هي أنهم يعبّرون عن أفكارهم ومعتقداتهم في صورة تبدو منطقية وعقلانية وشرعية، كأن يسترشد المثقف أو السياسي، على سبيل المثال، ببعض الآيات من الكتاب المقدس الذي يؤمن به لتدعيم حجته، أو يسترشد بما يحدث في دول أخرى، أو يلجأ إلى التاريخ لينتقي منه الأحداث التي تدعم تحيزه وتستنكر على مخالفيه تحيزهم‭.‬ والمشكلة الحقيقية هي أن الكثير منا يرتاب في مصداقية الأفكار والآراء الصادرة عن النخبة المثقفة والأكاديمية، وذلك لطرح هذه النخبة أفكارها وقيمها في صورة معلّبة جاهزة للتطبيق، فيحدث الانفصال بينها وبين الشارع، أو بينها وبين النشاط الإنساني الفعلي، السياسي والاجتماعي والديني، ويتناسى الكثير من النخب المثقفة أن الأفكار ليست شعارات ترفع للدفاع عنها والموت في سبيلها، بل هي أداة لفهم الواقع أولا، ثم تغييره ثانيا، ومن ثمة عندما تتغير أفكارنا يتغير الواقع من حولنا، ولكن الأزمة التي نعاني منها الآن أن الأفكار المطروحة من خلال مشاريع النهضة العربية والإسلامية أصبحت مجرد معلومات تطرح بشكل متعال ونرجسية فوقية بعيدة عن الواقع الفعلي الحي والمعيش، لذا ترددت كثيرا مقولات أن المثقف العربي أصبح عاجزا عن القيام بدوره الأساسي وهو تنوير الناس، لأنه ببساطة يحتاج إلى تنوير، أو إلى تربية عقله تربية نقدية تؤهله إلى قراءة واقعه قراءة صحيحة‭.‬‬‬

النخبة المستبدة

كما يرتاب الكثير منا أيضا في مصداقية النخبة دعاة الاستبداد السياسي والديني الذين يرغبون في بقاء الأوضاع كما هي عليه والرضا بالأمر الواقع، فيلجأون إلى تزييف وعينا وتنويم عقولنا حتى يمارسوا استبدادهم دون إزعاج من عقل يطرح تساؤلات تمهيدا لمساءلة النخبة الثقافية والسياسية والدينية‭.‬ لذا نسمع دعوات كثيرة لا تنقطع من النخبة دعاة الاستبداد السياسي والديني بعدم الإسراف في استعمال العقل أو طرح التساؤلات أو التناول التحليلي النقدي للأفكار والآراء، زاعمين أن العقل له حدود لا ينبغي تخطيها أو التعدي عليها، ومن ثمة ينبغي التصديق والتسليم بكل ما يقوله دعاة الاستبداد الثقافي والسياسي والديني‭.‬ إن من يرغبون في توطيد دعائم الاستبداد السياسي والديني في بلادنا العربية والإسلامية ينزعون من الدين ما يخدم فكرتهم المسبقة في عدم التسامح وقبول الآخر المختلف في العقيدة والمذهب والنوع، وتفريغ أجهزة الدولة الإدارية من كفاءات الكوادر البشرية واختيار من لهم ولاء وانصياع لينفذوا الأوامر والتعليمات دون النظر فيها أو طرح سؤال، ويوهمونهم بأن كثرة السؤال تؤدي إلى المهالك، وتدخل في باب البدع التي قد تؤدي بالمتسائل إلى النار، لذا يوجه دعاة الاستبداد السياسي والديني أفكارهم وآراءهم إلى البسطاء من الناس الذين لم يطلعوا على أي تجارب إنسانية أخرى في العالم، فيصورون لهم أن تجربتهم السياسية أو الدينية هي الحق وما دون الحق هو الباطل، وأن أي خروج عن هذا الحق المزعوم يعد كفرا وفسوقا وعصيانا وخروجا على الطريق المستقيم‭.‬‬‬‬

إن استئثار مجتمع النخبة باتخاذ القرارات نيابة عن الجماهير يجعلهم ينجرفون بعيدا عن هذه الاحتياجات. لهذا كان من الضروري نبذ النخبوية المسيطرة على مؤسساتنا ومجتمعاتنا الثقافية والعلمية

عملية التجديد

إن تهميش دور المواطنين في أيّ مجتمع في تحديد ما هو جدير بالاعتبار والاتباع هو أمر ضد الديمقراطية التي ننشدها، وإذا كان هدف بعض المؤسسات الثقافية هو تحقيق أكبر قدر ممكن من السيطرة على عقول مواطنيها ليسهل عليها إدارة مصالحها الخاصة، فإن هذا يعوق ممارسة الديمقراطية التي تقوم على مشاركة المواطنين في تحديد أولوياتهم المعرفية‭.‬ إن أيّ شكل من أشكال الديمقراطية يسعى في الأساس إلى خدمة الصالح العام‭.‬ بعبارة أخرى، إن ترك الأمر في أيدي النخبة ومدراء المؤسسات الثقافية والمختصة بالبحث العلمي لاتخاذ قرارات بشأن نوعية المعرفة السائدة وأولويات البحث العلمي وخاصة ما يتعلق بصحة الإنسان، من شأنه أن يقف في وجه الاحتياجات الفعلية للقاعدة الجماهيرية، وأن استئثار مجتمع النخبة باتخاذ القرارات نيابة عن الجماهير يجعلهم ينجرفون بعيدا عن هذه الاحتياجات‭.‬ إن دور المؤسسات هو توفير أفضل السبل لتحقيق تلك الاحتياجات، لهذا كان من الضروري نبذ النخبوية المسيطرة على مؤسساتنا ومجتمعاتنا الثقافية والعلمية، تلك النخبوية التي تبرر ما يخدم مصالح رؤسائهم ومتخذي القرار السياسي‭.‬‬‬‬‬

والتعليم هو البوابة الرئيسية للديمقراطية المستنيرة، فقد ورد في كتاب جون ديوي “الديمقراطية والتعليم” الذي نشره في العام 1916 أن التقدم في الحياة يأتي عن طريق التجديد المستمر‭.‬ بعبارة أخرى، فإن الحياة هي عملية تجديد مستمر للذات، وهذا التجديد يتم عن طريق التعليم‭.‬ فإذا كانت الذات تتجدد فسيولوجيا عن طريق التغذية والتكاثر والنمو، فإنها تتجدد اجتماعيا عن طريق التعليم، فضلا عن أن التعليم يحدث عن طريق الاتصال المتبادل بين الخبرات المختلفة للتمكن من العيش المشترك، فالتعليم يغير من نوعية الحياة التي يعيشها المجتمع‭.‬‬‬‬

إن السعي إلى تطوير استراتيجيات وأساليب جديدة في التعليم يجعل هذا الأخير مسؤولية اجتماعية يسعى لتحقيق الصالح العام وبالتالي يكون أكثر ديمقراطية مما هو عليه، لذا فإن الديمقراطية اللانخبوية المنشودة أوسع بكثير من المعني المتداول لها في السياسة والذي يذهب إلى تطبيق القوانين من قبل الحكومات وإجراء اقتراع شعبي لمجموعة من الناخبين الذين يمثلون دوائر انتخابية ما، بل الديمقراطية اللانخبوية وسيلة لتحقيق غايات تقوم علي نطاق أوسع من العلاقات الإنسانية، فضلا عن دور الديمقراطية اللانخبوية في تنمية الشخصية الإنسانية عن طريق المشاركة في الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها المتعددة‭.‬ إن جعل الديمقراطية أسلوب حياة ومصدرا لتشكيل قيم المجتمع، يعني نبذ ممارسات النخبة، وأن فكرة الاقتراع العام الذي تمارسه السياسة تحت مسمى تطبيق الديمقراطية إنما هي فكرة ساذجة للغاية وتستخف بالعقل الإنساني‭.‬ ففكرة وجود شخص أو مجموعة من الأشخاص المنتخبين عن طريق الاقتراع تكون لديهم القدرة على اتخاذ القرارات دون موافقة القاعدة الشعبية العريضة في المجتمع هي فكرة ديكتاتورية في الأساس‭.‬ إن استبعاد السواد الأعظم من الشعب في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تخص المجتمع هو نوع من القمع الذي تمارسه المؤسسة السياسية القائمة على النخبوية الثقافية والسياسية والدينية، هذا القمع يمنع إعطاء الفرصة لاتخاذ القرارات بشأن ما هو جيد بالنسبة إلى الشعب ذاته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.