النزول إلى بيروت
حتى في بيروت لا أتوانى عن النزول إلى بيروت
كأنها محطُّ قَدَم
من دون أن أصل!
والدي نزلَ إليها، قبلي،
لا جَدِّي،
فيما قَضَيْنا العمر معه، وبعده، نصعد وننزل
غافلين عن بحر، وعن سفن مُبحرة
من دون بُقَجِنا الأولى التي تلفتْ في عيوننا
قبل أن تختفي من محلات “برج حمود” أو “البرج.“….
ننزل إليها فتختلف هيئاتنا: في ما نلبس، في ما نحمل بأيدينا، في ما يُحرِّك خطواتنا بعد صياحِ ديك، فوق أرصفة، على أدراجٍ نتراكض فيها بخفةٍ ما خلناها أكيدةً في لَهْونا، أو في هلعِنا مِمّا فاتَنا من دون أن ندركه في ميعاده، كالوصول متأخرين إلى سينما “لوكس”، أو منتظرين موعد مرور “الترامواي” لكي نستقلَّه بدورنا إلى جانب سيدةٍ بقبعة مزركشة في فيلم بالأبيض والأسود…
نصل دومًا متأخرِين إلى بيروت، فلا وقت لكي نحصي ما سقط بين أقدامنا وأقدامهم، أو ما أمسكَ بنا عن طيران، أو ما يسبق أصابعنا في لهفتها وغمِّها وانجذابها… لكننا نستدرك ما فاتنا، ما دام أن لنا محرِّكاتٍ سريعة تتقاذفنا في شوارع، ولها أرصفة ومسارات، وعَمَارات تنادينا فيها ألبسةٌ مرفوعة فوق سطوحها بما يشبه صعودنا إليها للقاء بها، في غفلة عن أصحابها…
بتنا شركاء في ما لا نعرف، مع من يَسكنون معنا أو نسكن معهم، إذ سبقَنا إلى الشقة غيرنا مِمَّن نزلوا بدورهم إلى بناية اتسعت لتجمع في دواخلها ما كان لنا أن نحصيه ونوضّبه، أو نتخفف منه، ولنبدِّدَه في هواء، في لهاث حار، بين خطى متدافعِين خلف ظنونهم أو توقعاتهم… إذ بات لنا ولغيرنا ما يجمعُنا من دون أن نجتمع، ما يفرِّقنا من دون أن نتخاصم.
لهم ما يَطلبون من دون إبطاء، في مدى شارعٍ طويل يتراصف فيه بائع اللبَن مع ميكانيكي دواليبِ سيارات ودواليب هواء، مع إسكافي يرتقُ ثقوبَ راكضين في ممرّاتِ عمرِهم الخفية، ومع خزانة تستعيد ثياب من كبروا في أعمارهم فيما تضيق أجسادهم بها،
مع طناجرَ وملاعقَ وأدواتٍ أخرى يَقوى المجلِّخ وحده على تلميعها فتأتلقُ تحت أنوار شمسٍ من جديد، من دون رواسبها، لولائم العيد الكبير، إذ تَخرج من بين يدَيه كما لو أنها خرجت للتو من موقد صانعها بألقٍ نحاسي منير،
مع طفلٍ ينتقل بعينيه، من شرفته، فلا يسعه الانتظار، فتنقلُه معها زماميرُ سياراتٍ إلى حيث لن يصل، ويستعيد أمام أمّه أصوات باعةٍ وراء عجلاتهم، ويتلقف الجريدة لأبيه من بائعها من دون أن يقلبها، ويرتب ياقة قميصه لكي يندس في مواكب الماضين خلف توقهم قبل رزقهم:
ما أحلى أن تندسَّ بين مناكبهم، لكي تشقَّ ممرًا لك، معهم وبينهم، من دون أن تكون أي واحدٍ منهم ما دام أن بيروت تسعُ حاملي بقجِهم الأخيرة؛
مَن ينقلون أثاث شقَّتهم إلى شقة العطلة الصيفية ثم يعيدونه إليها من جديد؛ مَن يجد فيها محلَّ تصويرٍ فوتوغرافي لجواز سفره الموعود؛ مَن يواعد، فوق مقعد خشبي، أمام “الروشة”، من قد تخرج من موجة، أو من فتحة سيارة مباغتة!
ما أحلى أن يسابق الطفل مواعيده المرجأة، فيجد في شارع أكثر من حقل ومرج زهور، وأكبر من فسحة في كتاب صلاة، وأغنى مما تفتحه نافذة في سماء!
ما أحلى أن تكون بيروت مشتهاة ومتمنعة إذ تقع دومًا أبعد من موعد، ومن انتظار: أملُ ما لا ينقطع في حياة مبعثرة!
في ما نتجه صوبه، أكثرُ من صورة بلغتْنا قبل أن نراها… لم يكن في مقدورنا النظر إلى العالي: لا إلى سماء، ولا إلى قمرٍ بين نجوم، إذ كان يشغلنا ما يصل إلينا في إشاعةٍ، في همسٍ، في فُتحاتٍ تتكشف أمامنا من تلقاء نفسها…
ما كان لنا أن نتدارك البقاء في عتمة، ونسارع للعودة إلى البيت، إذ رحنا نستعذب البقاء مكشوفين تحت أنوار عالية وقوية، ماشِين من دون أن نحصي خطواتنا؛ لا مقصدَ لنا غير المشي نفسه، فلا نوجِّه حديثنا إلى أحد، ولا يخاطبنا أحد، مشمولِين بدفءٍ وحنانٍ غريبَين، في وحشةٍ لا نُحسن تسمية أحوالها، ولا هيئاتها… ما كان لنا أن نندفع، أو نتباطأ، إذ كانت لنا أجنحة تحت إمرة سواعدنا الخافية مما يصلح لسفر، وأنتَ ساهمٌ في وردة منيرة فوق شرفتها، أو مما تتوقَّعَ حدوثُه بعد انعطافة حركة…
ينزلون، فيتبادلون تحياتٍ واجبةً، عند الوقوف في انتظار أرغفة خبز، أو عند التلاقي فوق درجات حجرية، فيما لا يجدون لزومًا لذلك إذ يلتقي هذا بجاره في “ساحة الشهداء” البعيدة، إذ إنه يكون شخصًا آخر ممن يَشخص إليهم في صورهم فوق إعلانات السينما الخشبية، أو ممن يرفلون بياقاتهم المنشّاة في مقهى “لاروندا”….
نزلَ من شجرة من دون أن يصعد إلى شقة، وقطفَ بأصابعه ما لم ينضج فوق غصنه، فاستبقَ ما يقع بعدَ خطوة أولى، بعدَ نظرة تلقائية، فغضبَ ودارَ في حُمّى… باتت له مواعيد من دون أن تكون مضروبة، وراح يتنقل بثقةِ من له ديون مستحقة عند غيره، فيطلب تحصيلَها من دون اتفاق مع مدينيها المفترَضين…
نزل من دون أن يصل، إذ وجد في التَّمشِّي، في البصبصة، درجات يتسلق عليها بخفةِ متسللٍ ليلي، واجدًا ممرًا لا يعرفه غيره، حتى أصحاب البيوت – ممرًا من دون أي عائق طبيعي، من لهاث محموم، وندى فوق أصابع، وتمتمات راجفة أمام من يصل إليها من دون عِلمها، فيرتبك فيما تنزل في بركة عينيه نزولًا أشدَّ وأرقَّ من طيران عصفور فوق صفحة نهر غير نهر بيروت.
صيّاد في وضح الليل من دون طريدة
ينزِّه نظره من دون بندقية
ولا طريدة تسقط في جعبته – لو تهيأتْ للسقوط
أخيلةُ ما يتراءى له أنه رآه، أو استدعاه، تتطاير في فضاء نظر: طرفُ ساقٍ من دون فستانها، وطرفُ ابتسامة من دون عينين راقصتَين، وطرفُ حديثٍ من دون موعد… طرفُ ما لا يَظهر، ولا يَكتمل، كما لو أنه رذاذٌ من حلم، أو أشلاءُ شهوة…
نزولُ ما تخفُّ حمولته في السَّير
ما يتصاعد في أنفاس حلم
ما تتحرَّى عنه القصيدة، فلا تجده…
إذ ما استبقى النزولُ
غيرَ ما نثرَه في قصيدة مفتوحة.
هكذا لا أتوانى عن النزول
من دون أن أتقدم
أتمشى فقط
من دون أن أتراجع…
أصعدً إلى عالي العمارة، وأصيح:
يا حياة، أتوق إليكِ
فتُجيبني: أتوق إليكَ.