النسخة الرياضية للجمال
من بين أقدم العلوم التي عرفتها الحضارة البشرية على الإطلاق، هو علم الفلك. فالإنسانية لم تتوقف أبدًا عن النظر إلى السماء لاسيما الحضارة العربية الإسلامية التي كانت علاقتها وثيقة مع علم الفلك، حيث تضاريس السماء أكثر وضوحًا من تضاريس الصحراء، فكانت معرفة النجوم وسيلتهم الأولى للسفر والترحال، وكانت طقوسهم الدينية منضبطة على ساعة السماء، هكذا ورثنا عن هذه الحضارة أسماء ألمع النجوم. وعلى الرغم من تاريخه السحيق ومسيرته الطويلة، لا يتوقف علم الفلك عن مفاجأتنا بالاكتشافات الجديدة المذهلة التي لا زالت نبعا صافيا ينهل منه الخيال ويدفعه غلى الأمام في الوقت نفسه. وبفضل أحد هذه الاكتشافات الرائعة حصل عالم الفيزياء الفلكية الألماني راينهارد جينزل (Reinhard Genzel) على جائزة نوبل في عام 2020، مناصفةً مع عالمة الفيزياء الفلكية الأمريكية أندريا غيز (Andrea M. Ghez).
عندما وصلتُ في عام 2001، وأنا شابة حديثة التخرج في تخصص الفيزياء، إلى معهد ماكس بلانك للفيزياء خارج الأرض في جارشينج بألمانيا (Max-Planck-Institut für Physik)، لمتابعة برنامج الدكتوراه في مدرسة ماكس بلانك الدولية لأبحاث الفيزياء الفلكية الذي تم افتتاحه في ذلك العام، لم يكن من الممكن أن أتخيل أنني هناك سأستطيع معايشة مرحلة مما وصفه جينزل، في محاضرة نوبل التي ألقاها في شهر يناير الماضي، برحلة استمرت 40 عامًا.
كان جينزل، ولا يزال، أحد مديري معهد ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض، بالإضافة إلى كونه أستاذًا متفرغًا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. في Garching ألقى جينزل سلسلة من المحاضرات علينا نحن طلاب الدراسات العليا حول نتائج الأبحاث التي يقوم بها وفريقه البحثي، لكننا نحن العلماء المتدربين لم ندرك حقًا معنى تلك الأبحاث وإلى أين كان بإمكانها الوصول بالعلم الذي ندرسه.
من السهل، عندما تكون في بداية البحث، أن تغفل عن التصميم الأكبر الذي تمثل مساهمتك البحثية جزءًا صغيرًا منه. لكن جينزل لم يغب أبدًا عن بصيرته هذا التصميم الرائع الذي ربما لم نكن نحن الطلاب، في ذلك الوقت، قادرين على استيعابه بالكامل. لذلك لم ينجح أيّ منا في اجتياز امتحان جينزل، الذي كان لطيفًا للغاية ومتفهمًا معنا: لم يقدم لنا أيّ تقييم، وكاد يعتذر عن إعداده لامتحان يتجاوز قدرتنا، وتم إلغاء الامتحان. لم أكن أتخيل أبدًا أنني سألتقي جينزل، مرة أخرى، في لقاء ريميني بعد عشرين عامًا، وكنت قد تركت البحث في الفيزياء الفلكية منذ 15 عامًا، ليروي على الحضور رحلة البحث التي قادته أخيرًا إلى جائزة نوبل: اكتشاف ثقب أسود عظيم الكتلة في مركز المجرة التي نعيش فيها.
رحلة مديدة
بدأت هذه الرحلة بالفعل منذ أكثر من أربعين عامًا في ذهن عالم عظيم ومشهور جدًا هو ألبرت أينشتاين. في العلم، يمكن أن تحدث الاكتشافات العظيمة بطرق مختلفة، فإما أن يكون الواقع نفسه هو الذي يقدم لنا ظاهرة جديدة غير معروفة تمامًا يجب أن نشرحها باستخدام النظريات الموجودة أو من خلال تطوير نظريات جديدة، أو أن تولد الظاهرة الجديدة كفرضية نظرية يجب علينا بعد ذلك محاولة تأكيدها في الواقع. هذا الطريق الأخير هو الذي قاد جينزل إلى اكتشاف الثقب الأسود في مركز مجرتنا. ففي عام 1915، طور أينشتاين نظرية النسبية العامة، وهي إعادة صياغة لقوانين نيوتن للجاذبية الكونية التي غيرت بشكل عميق مفهومنا عن المكان والزمان. نشأت نظرية النسبية العامة من مبدأ معرفي بسيط، وهو مبدأ صحة وعمومية قوانين الفيزياء في جميع أنحاء الكون. فهي نشأت إذن من الحاجة المعرفية إلى الانسجام، وهو النسخة الرياضية للجمال. ولكن، للحفاظ على هذا الانسجام، كان علينا التخلي عن مفهومنا المشترك للمكان والزمان. نتجت عن ذلك سلسلة كاملة من التنبؤات النظرية، تم تأكيد بعضها بالفعل، بما في ذلك وجود تلك الأجسام الغريبة التي تسمى الثقوب السوداء.
الثقب الأسود
ما هو الثقب الأسود؟ تخيلْ أنك تأخذ نجمًا مثل الشمس وتبدأ في ضغط كل كتلته في حجم أصغر بشكل مستمر، حتى يتم إحاطة كل كتلته داخل نصف قطر معين، يسمى نصف قطر شوارزشيلد. عند هذه النقطة، لن تتمكن كتلة هذا النجم ولا ضوؤه من الهروب خارج هذا النصف قطر وأي جسم يقترب من هذا “النجم المضغوط”، على مسافة أقل من هذا النصف قطر، سيتم ابتلاعه إلى الأبد دون أي إمكانية للهروب منه.. يحدد نصف قطر شوارزشيلد ما يسمى بأفق الحدث. ونظرًا إلى أنه لا يمكن حتى للضوء الهروب منه، فلن يكون النجم المضغوط مرئيًا لمراقب خارج أفق الحدث، وبالتالي سيظهر كثقب أسود. كان عالم الفيزياء الفلكية البريطاني روجر بنروز، الفائز الثالث بجائزة نوبل عام 2020، هو من أثبت رياضيًا أن النسبية العامة تنبأت بوجود ثقوب سوداء. لذلك، فإن إثبات الوجود المادي للثقب الأسود سيكون أقوى تأكيد على صحة النسبية العامة.
لكن كيف يمكننا رؤية الثقب الأسود إذا كان أسود؟ بالتأكيد، الثقب الأسود غير مرئي، لكنه كبير وثقيل للغاية، وبفضل كتلته الهائلة، فهو قادر على تعطيل واضطراب كل شيء في البيئة المحيطة به. لهذا السبب، اعتقد العلماء أنهم قادرون على العثور عليه من خلال مراقبة وقياس الاضطراب الذي يخلقه، أي آثار وجوده على كل شيء من حوله.
من الفرضية إلى الدليل
في أوائل الستينات من القرن الماضي، تم اكتشاف مصدر راديو فلكي جديد شديد السطوع يسمى 3C 273. كان أول ممثل لفئة جديدة من الأجرام السماوية: الكوازارات، وهي أجسام ذات مظهر شبيه بالنقاط مثل النجوم، ولكنها ساطعة مثل آلاف المجرات التي تحتوي على مئات المليارات من النجوم، والكوازارات بعيدة جدًا عنا، على حافة الكون المعروف. ما الذي يمكن أن يكون قادرًا على إنتاج مثل هذه الطاقة التي لا يستطيع العقل البشري حتى تصوّرها؟ لقد فكر العلماء في الثقوب السوداء الفائقة الموجودة في مركز المجرات البعيدة في المكان والزمان (لأن النظر بعيدًا في الفضاء، عندما يتعلق الأمر بالكون، يعني أيضًا النظر بعيدًا في الماضي). تسقط المادة الموجودة حول هذه الثقوب السوداء فيها، تشدها قوتها الجاذبة التي لا تقاوم، وتصدر هذه المادة نوعًا معينًا من الإشعاع، يمكن قياسه على جميع الترددات، مما يجعلها شديدة السطوع. لذلك، الثقوب السوداء ليست سوداء جدًا… ومع ذلك، حتى لو كانت الفيزياء المعروفة قادرة على تفسير إشعاع الكوازارات، فقد كانت هذه مجرد فرضية في ذلك الوقت. كانت هناك حاجة إلى دليل قاطع لتأكيد ذلك، مثل ملاحظة مباشرة، لكن هذا كان مستحيلًا نظرًا لبعد الكوازارات.
في سبعينات القرن الماضي، بدأ الاعتقاد بأنه إذا كانت الكوازارات عبارة عن ثقوب سوداء فائقة الكتلة في مركز المجرات الأبعد، وبالتالي في مركز المجرات الأولى التي تشكلت في الكون، فربما توجد ثقوب سوداء فائقة الكتلة أيضًا في مركز المجرّات القريبة منا، حتى لو كانت “مطفأة” قليلاً، فهي أقل سطوعًا، ربما بسبب التطور الزمني للكون وتشكيل المجرات. وإذن، لماذا لا ننظر أيضًا في مركز مجرتنا؟ هذا هو المكان الذي بدأت فيه المرحلة الأولى من رحلة جينزل ومعاونيه.
نحو كوكبة القوس
كانت الفكرة رائعة، لكن قولها أسهل من تنفيذها. في الواقع، تقع الأرض على أطراف المجرة ولرؤية مركزها، يجب أن تخترق رؤيتنا عدة طبقات من الغاز والنجوم. ولا تقدر على ذلك حتى أقوى التلسكوبات التي تعمل على ترددات الضوء المرئي، الذي تكون أعيننا حساسة تجاهه. كان من الضروري النزول إلى الترددات الراديوية والأشعة تحت الحمراء، أو الصعود إلى ترددات الأشعة السينية، وهنا جاءت التقنية التي توفر الأجهزة المناسبة للإنقاذ.
من خلال توجيه التلسكوبات الراديوية في اتجاه كوكبة القوس، حيث يقع مركز المجرة، تمكن علماء الفلك من تحديد مصدر راديو مضغوط للغاية كان يسمى Sgr A *. بالقرب من هذا المصدر المضغوط، تم أيضًا اكتشاف انبعاث الراديو لسُحب غازية كبيرة تدور حوله. في هذه المرحلة، دخلت إلى المشهد مجموعة من علماء الفيزياء الفلكية بقيادة تشارلز تاونز (Charles H. Townes) عالم الفيزياء الفلكية الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1964 ومعلم جينزل. حيث كان تاونز قد طور نسخة ميكروويف من الليزر.
خلال حوار أجراه معنا في معهد ماكس بلانك، أخبرنا كيف أن زملاءه البارزين مثل نيلز بور (Niels Bohr، الفيزيائي الذي تصور نموذجًا للذرة لا يزال يدرس حتى الآن في المدارس)، نصحوه بتكريس نفسه لشيء آخر، لكنه لم يستمع إليهم وحصل في النهاية على جائزة نوبل. حسنًا، تمكن تاونز وفريقه من قياس حركة السحب الغازية حول مصدر الراديو Sgr A *. من السرعة المدارية للغاز تمكنوا من قياس الكتلة المركزية التي تبين أنها تتراوح بين 2 و5 ملايين مرة من كتلة الشمس. كانت هذه الكتلة أكبر بكثير من مجموع كتل النجوم الموجودة في تلك المنطقة. كانت الكتلة الكبيرة جنبًا إلى جنب مع الانضغاط الشديد لمصدر الراديو المركزي، والتي تساوي حجم عملة يورو واحدة موضوعة على القمر، أول مؤشر ملموس لصالح وجود ثقب أسود هائل في مركز مجرتنا.
تكنولوجيا جديدة
وصلنا إلى عام 1992، وهو العام الذي تبدأ فيه المرحلة الثانية من رحلة جنزيل. قررت مجموعتان من علماء الفلك، بما في ذلك جينزل، الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة التي تم توفيرها في ذلك الوقت، والاقتراب أكثر من مركز المجرة لمحاولة مراقبة حركة النجوم حول المصدر المضغوط. في الواقع، منذ زمن كبلر، نعلم أن جسمًا يدور حول كتلة أكبر، مثل كوكب يدور حول نجم أو نجم حول ثقب أسود فائق الكتلة، يتحرك بسرعة أكبر كلما كانت المسافة أصغر بينهما.
أكدت ملاحظات جينزل وزملاؤه صحة قوانين كبلر أيضًا في هذه الحالة، وجعلت من الممكن حساب الكتلة المركزية التي تبين أنها من ثلاثة ملايين كتلة شمسية، متوافقة مع القياس الذي تم الحصول عليه من خلال قياس حركة الغاز. إذا ظلت الكتلة ثابتة عن طريق تقليل نصف قطر منطقة القياس، فيجب أن تكون كتلة مضغوطة حقًا.
عنقود نجمي
ومع ذلك، لا يزال من الممكن أن تكون هناك فرضيات أخرى إلى جانب الثقب الأسود، على سبيل المثال نظرية عنقود نجمي مضغوط. كان من الضروري الاقتراب منه، ولكن كيف؟
حدث ذلك في عام 2002 والسنوات التي كنت فيها طالبة دكتوراه في معهد ماكس بلانك. ركز جينزل ومعاونوه، بالإضافة إلى مجموعة منافسيهم، كل جهودهم على تحدٍّ جديد وهو الاقتراب من مركز المجرة ومراقبة الحركة المدارية الكاملة للنجم. لكن المشكلة تكمن في أن الأزمنة الفلكية أطول بكثير من الأوقات البشرية. يبدو أن السماء والكون، باستثناء الكواكب السريعة المعروفة منذ العصور القديمة، تظل ثابتة على مدى عمر الإنسان. لهذا تحدث أرسطو عن سماء النجوم الثابتة. لم يُفهم إلا لاحقًا أنه لا يوجد شيء ثابت وغير قابل للتغيير في السماء! لكن مع وجود الثقوب السوداء، فإن الأمور مختلفة. كتلها الضخمة قادرة على وضع كل شيء من حولهم في حركة سريعة، يمكن تقديره حتى في سياق الحياة البشرية المحدودة. لذلك، تمكن جينزل ومعاونوه بين عامي 2002 و2017 من مراقبة الحركة المدارية الكاملة لعدة النجوم والتأكيد، مرة أخرى، على وجود كتلة مركزية مركزة تساوي حوالي أربعة ملايين كتلة شمسية. كان هذا ممكنا بفضل قفزة تكنولوجية جديدة، تتكون من تطوير البصريات التكيفية التي جعلت من الممكن الحصول على صور عالية الاستبانة في نطاق الأشعة تحت الحمراء.
في هذه المرحلة، كان هناك عدد قليل من الفرضيات البديلة عن وجود ثقب أسود فائق الضخامة في مركز المجرة، لكنها جميعًا غريبة جدًا، وحتى أكثر غرابة من فرضية الثقب الأسود نفسه، لكن العلماء لم يتوقفوا عند هذا الحد.
قال جينزل إن مركز المجرة أصبح الآن نوعًا من معمل الفيزياء. لا يستطيع علماء الفلك التعامل مع الأشياء التي يدرسونها كما يفعل علماء الأحياء أو الكيميائيون، على سبيل المثال، لذلك يتعين عليهم استخدام الإبداع والابتكار لإجراء “تجاربهم” التي هي عبارة أساسًا عن ملاحظات دقيقة وصريحة. أصبح مركز المجرة، بفضل تطور الأجهزة أيضًا، المختبر المثالي لاختبار النسبية العامة لأينشتاين بشكل نهائي، في بيئة غريبة تمامًا عن بيئتنا الطبيعية، والتي لم يتم اختبارها فيها أبدًا.
أينشتاين على صواب
انتقل جينزل وزملاؤه، في عام 2017، إلى المرحلة الرابعة من هذه الرحلة المثيرة التي استمرت 40 عامًا: قياس الانزياح نحو الأحمر بفعل الجاذبية لضوء النجوم التي تدور حول مركز المجرة. الانزياح الأحمر الجذبوي هو ظاهرة تنبأت بها نظرية النسبية العامة، حيث يتحول الضوء القادم من نجم، عندما يمر قريبًا جدًا من ثقب أسود فائق الكتلة، كما فعلت النجوم التي درسها جينزل، إلى اللون الأحمر، لأنه في محاولة للهروب من قوة الجاذبية الشديدة للثقب الأسود، فإنه يفقد الطاقة. ولكن، لإجراء هذا القياس، كانت الأداة المناسبة مفقودة. بينما النجم الذي تم اختياره للقياس كان يدور حول الثقب الأسود المزعوم، ابتكر جينزل وزملاؤه، بمساعدة المرصد الأوروبي الجنوبي (ESO)، أداة جديدة مناسبة لهذا الغرض: مقياس تداخل قادر على الجمع بين الضوء الذي تم جمعه بواسطة أربعة تلسكوبات قطرها 8 أمتار تشغلها ESO في تشيلي، لتعادل تلسكوبًا واحدًا قطره 100 متر. زادت هذه الأداة الجديدة من دقة الصور المجمعة بمقدار 10 مرات، مما سمح بالدقة اللازمة للقياس الذي كان يدور في ذهن جينزل وفريقه. عندما كان النجم المختار على وشك الانتهاء من مداره، واقترب من الثقب الأسود المركزي مرة أخرى، كان العلماء ينتظرونه بالأداة الجديدة. أكد قياس انزياح جاذبيته إلى الأحمر تمامًا أن أينشتاين كان على صواب مع نسبيته العامة قبل أكثر من مئة عام. ليس ذلك فحسب، بل كان من الممكن أيضًا التحقق من تنبؤ آخر لنظرية أينشتاين، مبادرة شوازشيلد. وبالتالي، فإن النسبية العامة تظل صحيحة حتى في هذه البيئة القاسية. بفضل هذه القياسات، تم تحديد كتلة الثقب الأسود في مركز المجرة بدقة 1 في المئة، مما يؤكد قيمة أربعة ملايين كتلة شمسية.
في عام 2018، وصل علماء الفلك إلى حدود أفق الحدث من خلال قياس حركة النقاط الساخنة الناتجة عن إشعاع الإلكترونات المتسارعة التي تدور حول الثقب الأسود. أظهرت هذه القياسات أن هناك حقلا مغناطيسيًا قويًا في تلك المنطقة، ستكون خصائصه مثيرة للدراسة. ومع ذلك، لن يكون من الممكن المضي قدمًا، لأنه سيعبر أفق الحدث وينتهي في الثقب الأسود.
الكأس المقدسة للفيزياء
ولكن الرحلة بالتأكيد لن تنتهي عند هذا الحد. قال جينزل نفسه، في عرضه التقديمي في لقاء ريميني، إنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به في العشرين سنة القادمة. يمكننا محاولة البحث عن ثقوب سوداء أخرى في مركز المجرات الأقرب منا، مثل مجرة المرأة المسلسلة. سيكون من الضروري فهم دور هذه الثقوب السوداء الهائلة في تكوين المجرات وتطوراتها، وبالتالي في الكون بأكمله، حيث يبدو الآن واضحًا أن هناك علاقة تكافلية بين الثقوب السوداء والمجرات. ربما تؤدي دراسة هذه الثقوب السوداء أيضًا إلى تحديث النسبية العامة لدمج نظرية الكم أيضًا في نظرية واحدة، وهو طموح يمثل نوعًا من الكأس المقدسة للفيزياء.
إن ألغاز الكون لا حصر لها، ولدى جينزل الكثير من الإيمان بفضول الإنسان. واصفًا تجربته الشخصية مع البحث العلمي، قال إنه يشبه دخول غابة غير مستكشفة، حيث يمكنك رؤية أزهار جميلة. وبالتالي، يتم طرح المزيد والمزيد من الأسئلة، ويتم تطوير نظريات جديدة تولد أسئلة أخرى وبهذه الطريقة تستمر مسيرة الفيزياء والعلوم.
قصة رحلة جينزل لاكتشاف الثقب الأسود في مركز المجرة هي رمز لمسار العلم كله، والذي يتم تتبعه دائمًا من خلال التقاطع المستمر بين التخمين العقلاني والخيال، والمواجهة المستمرة مع الواقع، والبحث الإبداعي عن أدوات للتفاعل مع هذا الواقع، حتى تتمكن من “التحدث إلينا”. تمثل قصة هذه الرحلة أيضًا رمزًا لمدى أهمية التعاون بين الأجيال لنقل المعرفة المكتسبة لبعضهم البعض، من خلال التحلي بالصبر وإضافة كل قطعة خاصة بهم إلى فسيفساء قد لا يرونها مكتملة أبدًا.
أعتقد أن عالم الفيزياء الفلكية الإيطالي ماركو بيرسانيلي عبر عن مشاعر الجميع عندما تحدث، في تعليقه على قصة جينزل في لقاء ريميني، عن الدهشة التي تغمرنا بالنظر إلى أننا بشر، على الرغم من كوننا مجرد نقطة مجهرية في الكون، يمكننا فهمه.
قال أينشتاين، كما ذكر بيرسانيلي، إن أكثر الأشياء التي لا يمكن فهمها في الكون هي أنه قابل للفهم. وخلص بيرسانيلي إلى أن قصة جينزل تظهر أن الدراسة الدقيقة لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع الجمال. في الواقع، إنها قادرة على جلب جمال جديد في أفقنا يثري الـ”أنا”. لهذا السبب أعتقد أن البشرية لن تتوقف أبدًا عن النظر إلى السماء وطرح الأسئلة على نفسها.