النسويّة العموميّة في روايات لطفيّة الدليمي

الأربعاء 2020/12/02
لوحة: ستار كاووش

النسويّة العموميّة مفهوم ثقافي لتصور جماعيّ عقلانيّ النزعة وموضوعيّ التصميم، فيه للنسويّة قطبان: الأول تمثله المرأة كمفرد والآخر تمثله النساء كمجموع. وباستقطاب أحدهما للآخر تأملاً وترقباً وتوازناً وجذباً تغدو النسويّة عموميّة حيث المجموع لا يحوز على مكانة الفرد، والكل لا يسود كنظام على حساب الجزء؛ بل المجموع يكمل واحده وهو المرأة المعبر عنها كينونة غير منفصلة عن هذا المجموع ولا مجتزأة سواء في امتلاك أفكارها التي تماشي طبيعتها أو في التعبير عن نفسها مستقلة في نزعاتها ونواياها ومؤثرات وعيها وبخيوط فكرية حركية ووجهات نظر جوهرية مشبعة وموسعة، فيها يغدو المجموع النسوي عاكسا المرأة في انفرادها وموطّدا انعكاس النساء في هذه المرأة أيضا. وحينها تكون مبرّرات توحّد الجزء بالكل هي نفسها مبررات استقلال الجزء عن الكل، ومن ثم لا تُشطَر النسوية العمومية ولا تُقطع ولا تتناقض؛ بل هي المرأة مفكّرة في نفسها لنفسها بانية ذاتها من خلال خصخصة شخصيتها متحصنة ومرئية غير متماهية ولا مغيبة. فهي ليست عابرة ولا مفرطة بلا نظام هارموني ينتمي لنظام نسوي هو دائم ومبجّل ومتوازن ومزدوج وواقعي، يعترف بالمرأة كيانا منه يتشكل الجوهر والتاريخ.

فالنسويّة العموميّة رؤية متبادلة لمجموع نسوي شمولي ذي قوى محورية ليس فيها نكران للذات المفردة التي هي في صيرورة مع الذوات التي تشبهها عاملة للحاضر ومستشرفة المستقبل مشكلة النظريّة والتطبيق، متجاوزة هفواتها ومعالجة شروخ كيانها، مصحّحة مسارها بما يلائم تجاربها ويماشي أغراضها وتطلعاتها، مقدمة المرأة لغة وهوية وانتماء وكيانا مستقلا ومتماهيا في فرديته بالكليّة النسويّة. وما بين الفرديّة والكليّة تتكامل النواقص وتستكمل الاحتياجات وتغدو النسويّة العموميّة مشروعا فكريا واستراتيجية عملية في داخلها وخارجها، وفي وسائلها وأغراضها الحسية منها والتجريدية، حاضرا ومستقبلا، تاريخا واجتماعا، تفصيلا وإجمالا. فتتوطد بالنسويّة العموميّة قواعد الفكر بدينامية الواحد في الكل والكل في الواحد.

وما من شيء يمنح المرأة توكيد ذاتها مثل أن يكون فكرها محوريا ومستقلا، به تدلل على وعيها وأهمية دورها وتأثيرها في ما حولها، ومن خلاله أيضا تثبت تمتعها بقابليات فكرية تنطوي على سمات متنوعة ومتجانسة فيها النسويّة هي الهيكل والتصميم وهي المادة والصيرورة.

ولولا الفكر المحوري ما كان لفرجينيا وولف أن تنتج أعمالا ابتكارية نسويّة، فيها أمسكت بزمام الإبداع سرداً وتأليفاً من دون أن تتركه ينفلت من يديها، مدلّلة على موهبتها من خلال فكرها الذي به نظمت شظايا وعيها، صانعة منها جوهرها الذي ينمّ عن فكرها النسوي معبرة عنه في رواياتها بجلاء وعقلانية على ما فيه من أشباح الغموض والإبهام.

وهو ما قد نجد بعضاً منه في روايات أسندَ فيها كتّابها الرجال إلى المرأة أدواراً بطوليةً كما في مدام بوفاري وآنا كارينيا انطلاقا مما لدى هذه المرأة من أحلام راودتها فجعلت منها صاحبة فكر محوري به أكدت رؤيتها للحياة كطبيعة وأحداث ومحصلات أخلاقية واجتماعية، متخذة قراراتها بمسؤولية وسائرة نحو نهايات نسوية منطقية في رؤية الحياة بأسرها أو جنونية رؤية الكارثة والاحتدام بها شخصياً.

ويخدم الفكر المحوري النسويّة العموميّة من ناحية تجسيده لأغراضها كفكر حرّ ذي علاقات مترابطة وخطوط متبادلة، به تدافع المرأة عن نفسها مثلما تدافع عن غيرها وتتكلم على غرار ما تكتب، وتتعاطف حين يقتضي منها الموقف التعاطف ولكن باستحكام، وتتقارب حين يستدعي منها الموقف التقارب لكن بحياد وتتوحّد في إبداعها حين تكون منابع قوتها نقيّة تشحذ أفكارها بالوعي النشط والمتوقد، مفصحة عن نشاطها المادي والروحي متمثلة مركزها رصينة ومتوازنة ومبالية وواثقة ومرتبة وذاتية لا تسيطر على الآخر ولا تقبل التبعية له، كي لا تستبعد التفكر فتتكئ مجددا على التنبؤ والتكهن وقوة المفاجأة.

من هنا يغدو الفكر محورياً وهو يمنح النسويّة العموميّة مساحة للمناظرة والإقناع ومعمارا من الجدال والحجاج بحياديّة وواقعيّة محتواة في الضرورة والحتميّة. فالفكر سلاح من أسلحة النسويّة في المقاومة لا الهجوم. وتكمن فاعليته في التجريد الذي به تُختبر الأشياء وتُجرّب بدأب وموهبة فتتجلى قوة فكر المرأة في سعة النسويّة وتنعكس في مرآة المرأة المستقلة مركزيّة النسويّة التي تجد تكاملها في الذكوريّة شمولاً وتحديداً.

إذ من غير الممكن أن نتحدث عن فكر محوري ونحن نهمّش أو نتجاهل الذكوريّة التي لها فكرها أيضا. وبتعامد الفكرين كمحورين متكافئين ومتغايرين تكون الفلسفة عبارة عن قوة جدليّة اتحاديّة خفيّة بحتميّة موضوعيّة ووعيّ إنسانيّ يرى الواقع من خلال نشاط الإنسان بوصفه كياناً لغوياً ذا طبيعة حيوية، تتموضع في لغته أفكاره التي يظهرها حين يكون واعياً لها ومقتنعاً بها ومسموحاً له التدليل عليها.

ولأهمية الفكر بالنسبة إلى النسويّة العموميّة؛ فإن تجسده يظل رهناً بالكيان المؤنث وما يتصل به من قضايا داخلية صميمية كقضية الهوية والآخر والجندر والجسد والأنوثة والقوة والذاكرة والموضة إلى جانب قضايا خارجية لها صلة بأسلوب الكاتبة من الناحية اللغوية والتاريخية وتصنيف الخصائص الفردية للمضمون والشكل ونظريات التواصل والأسلوبية وغير ذلك ممّا له صلة بالعمليّة الإبداعيّة.

وطبيعي لأيّ فكر يوصف بأنه محوري أن يشكل المواقف والتقاليد التي ترسو كقواعد وترسخ كتقاليد. فإذا خصصنا الفكر بأنه نسوي بدا الأمر غير مؤكد لمن ينكرون على المرأة أن تكون مفكرة وفيلسوفة، لافتقارها إلى فلسفة ذات تقاليد واتجاهات. كأنّ النسويّة ليست نشاطا إنسانيا له جهازه الفكري الخاص كما له مفاهيمه التي يعمل بها ومواقفه التي يتبناها مضفياً على فعل المرأة ـ التي تكون في حالة انفراد تام وهي تفكر في ذاتها ـ تجريداً حسياً تتطور فيه الكلمات والدلالات والصياغات، وتغدو إفهامية وهي تريد توصيل أفكارها إلى الآخر، معبّرة عن مشاعرها وملقية بظلالها المؤنثة على الأشياء وطبيعة حركتها، معمقة مداركها ومكونة الآراء حول ذاتها أولاً والنساء آخراً، مبرهنة من خلال فكرها على ارتباطها العضوي بوعيها الإنساني في ظل عالم نسوي يعكس مظاهرها وأغراضها جميعا.

والوعي بأهمية هذا الفكر المحوري هو الذي يجعل المواقف والقرارات منسجمة ومترابطة ارتباطا وثيقا بطموحات المرأة الرامية إلى بناء أواصر التأثير والتعاون مع النظام الإنساني العام وفي مختلف مجالاته لغة وتاريخا وإثنوغرافيا.. الخ.

وعلى وفق الأحكام النظرية التي رسّختها بطريركية الفلسفة وجعلت للرجل الريادة والأولوية بوصفه صاحب العقل المتكامل؛ لا يغدو للفكر الفلسفي وجود إلا فاعله رجل. وهو ما تدحضه النسويّة العموميّة التي ترى أنّ التفكير أيّا كان فلسفيا أو فنيا أو دينيا أو علميا أو عسكريا هو عبارة عن ميكانيزمات نشاط إنساني واع وتجريدي. فالوعي هو أساس الفكر وليس الإحساس، ومن ثم لا تتحدّد فاعلية التفكير التوعوية بجنسانية من يقوم بالتفكر وإنما تتحدد بحسب محورية هذا الفكر عند كل جنس على حدة.

وبإسناد المحورية إلى فكر الرجل أو إلى فكر المرأة تكون الفلسفة هي التفكير الإنساني الذي فيه تتعادل كفتا الفعلين النسوي والذكوري. فالإنسان تحرّره الفلسفة التي عدها الأقدمون أم العلوم، وبها تتجلى صلته بالزمان وما “تواصل الجوهر المفكر سوى تواصل الجوهر الزماني” (جدلية الزمن، غاستون باشلار، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الأردن، ط3، 1992، ص15) وفي هذا الجوهر تتجلى أحقية النسوية في أن تكون عمومية من ناحية وأن تكون محورية في فاعلية فكرها من ناحية أخرى.

وفي حالة التفكير النسوي؛ فإن المرأة هي الفاعل الذي يجعل الفكر محوريا وهي الغاية وليست الأداة وهي المادة الأولية التي منها تتشكل الأدوار وتحتدم التصورات وتتراكم التنقيحات وتتولد المجازات. وهذا كله هو ما يعطي المرأة وجوداً صميما وحياتيا ضمن النسويّة العموميّة.

وفهم هذه النسوية من خلال محورية فكرها هو توكيد لسعة مدارك المرأة وعمق امتدادها الحياتي استقلالا وشمولا. ولا يخفى ما في الاستقلال والشمول داخل المجموع النسوي برمته من ازدواجية الداخل بالخارج والمعتاد بالجديد. فتكون المرأة نائية عن أيّ تبعية فكرية، مستبعدة أيّ استحواذ جندري أو ازدراء عقلي متمتعة بوعيها ومجذرة في الآن نفسه أسس النسوية العمومية.

ونستطيع أن نشبه هذا الدور الذي يؤدّيه الفكر المحوري للنسوية العمومية بالدور الذي أدّته الفلسفة للرواية الواقعية في مطلع العصر الحديث حتى “احتلت الرواية الفلسفية منزلة مهمة في تفكير ف. شليغل وغيره من منظري الرومانتيكية “(الأفكار والأسلوب، أ. ف. تشيتشرين، ترجمة حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، د. ت، ص65). وإذا لم تستطع الرواية الإنجليزية في القرن الثامن عشر كروايات فيلدنغ وسموليت وستيرن وغيرها توكيد قدرتها على التجذر التاريخي مع أنها تمكنت من تحليل الواقع تحليلا دقيقا؛ فإن قصص فولتير الفلسفية بحججها القوية استطاعت أن ترسّخ وجودها التاريخي.

إذن لا مناص من محورة الفكر من أجل تدعيم سمات النسوية العمومية. تلك السمات التي بها تتمكن من إعادة رسم خريطة مبادراتها فاسحة المجال لقوّتها أن تظهر في شكل نظري. وليس صعبا على النسويّة العموميّة أن تجسّد فكرها المحوري على الصعيد الفلسفي وذلك من خلال تعميق دلائل الوعي النسوي فيها وتمتين اشراقاته الفكرية. والأساس في ذلك كله وعيها الذي يتجلى بصور إبداعية ونزعات عقلانية وأهداف موضوعية وحتميات اجتماعية وتاريخية.

ولا شك أن دخول النسوية إلى معترك الفلسفة هو انقلاب على الذكورية وتسلّطها البطريركي الذي حرص الحرص كله على إبعاد المرأة عن الفلسفة وعن ميادين أخرى أرادها حكرا على الرجل. ومن يقرأ الفلسفة الكانطية والهيغلية سيجد أنّ إنسانية الرجل عموميّة بوصفه الكائن المعقول الذي فيه غاية نفسه كعقل خالص وعملي بديالكتيكية مادية جدلية وبقوانين ذاتية خاصة، تمثل المحور في كل ما له صلة بعالم الخليقة من أشياء ومقولات. أما المرأة فكيان عابر، لا تفهم إنسانيته فهما أخلاقيا إلا حين يتماهى المجموع النسوي في المجموع الذكوري.

إن أهمية الفلسفة للنسويّة هي كأهمية التكامل بين الكيانين المفكرين الرجل والمرأة بلا خداع ولا انغلاق ولا تقوقع. ولا احتمال أمام الفكر النسوي ليكون محوريا ما لم تتمظهر النسوية بالعمومية في لغة امرأة تفكر كفرد مرهف وخاص وهي تنظر للإنسان والمجتمع بحد واحد وفي الآن نفسه منغمسة وهي تتكلم عن دقائق حياتها في سلسلة متماسكة ومنتظمة تمتزج بها صور النساء جميعا.

وبهذا يكون الفكر المحوري قناعا ووجها مستعارا تتدارى فيه المرأة بالنساء وترتسم لا بمظهر متكلف ومتصنع ماكر؛ وإنما بمظهر حقيقي يناقض التصور البطريركي المرسوم لها الذي ما فهم وعيها، وكيف يفهم جدوى هذا الوعي وهو ينظر إليها من خلال تابعيتها له.

والتابعية تعني أن النسويّة وهي تعبر عن المجموع تتجاهل المرأة الفرد وأهمية تعبيرها عن نفسها. وهو أمر كثيرا ما توسم به الكتابة النسوية كنظرية وإجراء، ومن ثم تظل النسوية مساهمة في تضبيب الفكر النسوي جاعلة مسألة وحدته الفلسفية ضرباً من المحال.

فكيف تتمكن النسوية إذن من التملص من هذه التابعية التي ترسخت حدّ التجذر، محاولة بناء فكر محوري فيه المرأة لا تتدارى في تابعيتها للذكورية من جهة ولا تستكين أمام هضم حقها الفردي داخل النسوية نفسها من جهة أخرى؟

من أهمّ براهين إثبات الفكر المحوري التعبير الحر والواعي الذي فيه للكلمات وميض خاطف ومزاج نفسي يحتوي الوضع النسوي بالعموم والذي فيه تختلف كل امرأة عن الأخرى بغناء وظلال واستبطان وخبرة. ولأجل بلوغ هذا الفكر، تكرّس النسويّة العموميّة السرد كوسيلة ينكشف عبرها كيان المرأة فردا مستقلا عن الآخر.

وتعد الرواية ـ بدءا من أول رواية كتبتها امرأة وهي الأميرة دي كليف لمدام دي لافيت وانتهاء بآخر عمل روائي يكتب بقلم امرأة ـ أهم الوسائل التي من خلالها تبلور المرأة فكرها وفي إطار تتجلى فيه النسوية العمومية ومعها تتوضح خصوصية المرأة، كاتبة كانت أو شخصية فتتأكد حقيقتها واقعا ومجازا.

وعادة ما تتمتّع بطلات الروايات النسوية بوعي وفاعلية حياتية مفكرات في أنفسهن وجسامة ما تلقيه الذكورية على نسويتهن، متضادات مع ما كان قد رسم لهن من أدوار هامشية تريد للرجل أن يكون هو البطل وتريد للمرأة أن تظل منفصمة في فكرها ورؤاها تغايرا وتشتيتا.

ولا سبيل لصناعة فهم يشحذ إمكانيات الرواية النسوية ويحرك رواكدها مثل اعتماد الفكر محوراً يستغرق الشخصية النسوية متوغلا في مجاهيلها محررا إياها من ربقة ما هو نمطي وبسيط وعفوي وجاهز ومنمق. وهذا بالضبط ما تسعى النسويّة العموميّة إلى توطيد أساساته.

والروايات التي فيها يتمحور الفكر في أدوار نسوية ضمن أجواء فلسفية هي روايات فكرية فيها المرأة هي الكاتبة والساردة، المفكرة في واقعها والمتعايشة هارمونيا مع المتناقضات من حولها حرة ومقيدة مسيطرة ومنهارة سطحية وغامضة وعلى وفق قوانين الطبيعة. وبذلك تتمتع الشخصية برؤية فكرية ونزوع فلسفي ذي وشائج ميتافيزيقية. فكأنّ الرواية هي الخارج الذي يرجع صدى دواخل البطلة. هذه الدواخل التي تتسع ضمن مجال ذاتي حتى تتخذ شكل الوجود برمته.

والنزعة الفلسفية في الرواية ـ التي فيها فكر المرأة هو المركز والنسوية هي الإطار ـ عادة ما تتّسم باختلاجات وتقلبات واستفهامات وإحساسات تجسد العمومية لا كمفهوم اجتماعي أو تاريخي وإنما كجوهر نسوي وفكرة فلسفية ذات مظهرية إنسانية.

روايات لطفية الدليمي

لوحة: ستار كاووش
لوحة: ستار كاووش

تنماز روايات لطفية الدليمي بدءا من روايتها (عالم النساء الوحيدات) 1986 ووصولا إلى روايتها (عشاق وفونوغراف وأزمنة) 2013 بانكبابها على الفكر برؤية نسوية فيها المرأة هي البطلة التي تتمحور في مأساتها مأساة النساء جميعا. والغاية من وراء مركزة المرأة سردياً هي أوسع من أن تكون غاية اجتماعية أو أخلاقية محددة كونها تتعدى الواقع الحاضر، محلقة ميتافيزيقيا نحو يوتوبيا مستقبلية وغائصة حلميا في التاريخ الرافديني متجاوزة السرد إلى ما وراءه عبر توظيف المخطوطة والرسالة والمدونة والكراسة ودفتر المذكرات.

وبالفكر المحوري تتبلور النسوية العمومية في هذه الروايات على وفق نهج خاص هو ليس كلاسيكيا ولا واقعيا ولا رمزيا ولا رومانسيا بل هو نهج ممهور بفكرنة السرد أو تسريد الفكر. وهو نهج نوعي بالقياس إلى كم كبير من الروايات التي وقع كتّابها تحت طائلة الحراسة الذكورية فما علموا على مركزة المرأة ولم يجربوا محورة الفكر النسوي ولم يضعوا المرأة المفكرة في حسبانهم. ومن صور النسوية العمومية في روايات لطفية الدليمي التي فيها نتلمس فكرا محوريا، ما يأتي:

الصورة الأولى: المؤلف ذو دور وظيفي

لا يمكن الحديث عن فكر محوري داخل خطاب روائي ما لم تكن للمؤلف نزعة ذاتية في إثبات وجوده حياً داخل نصه. وتتماشى فكرة المؤلف الحيّ مع مفهوم النسوية العمومية من ناحية المعنى والأهمية والقيمة والوظيفة والعلاقات.

وكانت المدرسة البنيوية قد دعت إلى إماتة المؤلف وإلغاء قيمته والاهتمام بدلا عنه بالنص وما فيه من محايثات، ثم طرأ على النقد الأدبي تحول منهجي مهم فاستعاد المؤلف بعض قيمته بقيام مدارس ما بعد بنيوية تشربت مبادئ انفتاح النص وتداخله. فكانت الدراسات الثقافية ومنها دراسات النسوية أهمّ مؤشر على التطور النظري الذي ساهم مساهمة فاعلة في أن يستعيد المؤلف بعض حضوره ولكن ليس كله، إذ ما زالت فكرة (موت المؤلف) لها حضورها النقدي الراسخ الذي ليس أمر خلخلته هيناً البتة.

وممن انتصر لفكرة المؤلف الحي ميشيل فوكو الذي اعتمد في أواخر سبعينات القرن العشرين استراتيجية نصية تنطلق من منظور ما بعد بنيوي في مقالته الموسومة (ما معنى المؤلف) 1979 منطلقا من حقيقة أن “المؤلف في النهاية مصدر خاص للتعبير يتجلى بأشكال تامة إلى حد ما وبجودة متساوية ومصداقية متشابهة في أعمال وصور ورسائل ومقطوعات وما إلى ذلك” (القصة الرواية المؤلف دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، تودوروف وآخرون، ترجمة خيري دومة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1997، ص207).

أما دليله على أن المؤلف حي فمقولتان هما (العمل) و(الكتابة) فيهما يحافظ المؤلف على جلالة وجوده نافياً فكرة موته ومؤكداً ملكيته الفكرية بسمات أمبريقية وعلاقات تعطي له كمؤلف وظيفة (Auther Function) داخل نصه بوصفه دالاً ومدلولاً. ومثال فوكو على هذه الوظيفة التي ليست لها قواعد أو حدود هي النصوص التأسيسية المقدسة والملحمية والمسرحية التي مؤلفها حاضر معها اسما علما.

وبفكرة المؤلف الحي تتقلص المسافة بين ذاتين هما ذات المؤلف وذات السارد ـ ذاتيا كان هذا السارد أو موضوعيا ـ وكلما كان السارد مهتما بالفكر والتفكير كان أكثر حاجة وتدليلا على مؤلفه الحي الذي يتمظهر فيه ويتخفى أيضا.

وإذ يفيد المؤلف/الرجل من هذه الفكرة الإحيائية؛ فإن تلك الفائدة مضاعفة بالنسبة إلى المؤلفة/المرأة لأنها تساهم في تعزيز النسوية داخل نصها جنوسيا أولا وتضفي معطيات مؤنثة جديدة على الشخصيات ثانيا. وهو ما تعتمده لطفية الدليمي في كل ما تكتبه (قصصا وروايات ومقالات).

وحضور المؤلفة في السرد مع السارد والمسرودات يعني أنها تمنتج وجودها الفردي بفاعلية منتمية له وسابقة عليه ومختفية فيه باستمرار وعلى وفق نظام تكترث بموجبه بالقيمة وتنخرط متسربلة بالأصالة.

ومن أساليب منتجة المؤلفة لحضورها داخل السرد التعالقات أو المتعاليات النصية أو التناصات التي ترتهن خارجيا مع بنى نصية سابقة أدبية وتراثية أو تتعالق داخليا مع نصوص معاصرة لمؤلفين آخرين أو نصوص المؤلفة نفسها مما كانت قد ألفته سابقا وتتفاعل معه مجددا داخل عملها.

وقد اعتادت المؤلفة في أغلب رواياتها أن تتخذ من هذه المتعاليات النصية عتبات تفتتح بها الرواية ككل، فجعلت مثلا قول نوفاليس “لم يكن قد تعهدنا بشيء تجاه هذا العالم” عتبة لروايتها “عالم النساء الوحيدات” أو تجعل هذا المقطع المأخوذ من كتاب موقف التذكرة لعبد الجبار النفري “وقال لي لكل شيء شجر وشجر الحروف الأسماء فاذهب عن الأسماء تذهب عن المعاني وقال لي إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي” عتبة لروايتها “سيدات زحل”.

وتدلل كثرة التناصات في رواية (عشاق وفونوغراف وأزمنة) على انهمام المؤلفة بالفكر، من خلال ما توشّح به مطالع الفصول من أقوال فلسفية وصوفية وشعرية لشعراء وكتّاب محدثين ومعاصرين. هذا إلى جانب المتعاليات التي تستلها من رواياتها السابقة ففي رواية عشاق وفونوغراف وأزمنة تقتطع نصا من رواية “سيدات زحل” وتجعله مفتتحا لفصل من قصة صبحي الكتبخاني المضمنة في قصة نهى الإطارية.

وقد تصوغ المؤلفة متعالياتها في شكل عبارات فكرية مركزة ومرمّزة أو استفهامية تكتبها بخط غامق تمييزا لها عن السرد وتضعها في مستهل فصل أو فصول كمفاتيح ذات مؤديات ومقاصد معينة، كهذه الجملة التي بها توشح الفصل الثاني من رواية “حديقة حياة”، “كل شيء يسقط من الزمن، ولكن أين يسقط الزمن؟ من يجمع شتات الشهور الأيام والسنوات والدهور؟” (ص24).

وقد يكون المتعالي النصي عناوين فرعية تفتتح بها المؤلفة الفصول مثل فصل “هو الذي أتى” من رواية عالم النساء الوحيدات. أو توظف المذكرة والرسالة والمخطوطة كمتعاليات ميتاسردية تتماهى فيها المؤلفة بالشخصية، وهو ما يستفزّ القارئ ويدفعه إلى التفكير في التمييز بين السارد والشخصية من ناحية، والسارد والمؤلفة من ناحية ثانية كما في هذا المقطع “هذه القصة ليست سوى ‘قصة حب’ وما هي بالأسطورة أو الخرافة، وأنا إذ أرويها لكم لا أنتظر منكم أن تصدقوها، حسبي أنني عشتها، وبين يديَّ البينة المادية التي تثبت لي وللآخرين حقيقة حدوثها، والقصة بعد هذا لا تخص أحدا سواي ـ في الأقل على المستوى الشخصي ـ لأنها بهذا الاعتبار قصتي وحدي وأنا بطلتها وشاهدتها الحية” (ص83).

ولا تؤكد المؤلفة الحية بأدائها لهذه الوظيفة في رواياتها على فكرها المحوري حسب؛ بل هي تؤكد أيضا قدرتها على جعل القارئ منتجا وهو يتفكر في تأويل إشارات تلك المتعاليات والبحث في استعاراتها كعتبات واستهلالات.

الصورة الثانية: السارد ذو بعد نسوي

لوحة: ستار كاووش
لوحة: ستار كاووش

إن تماهي العملية الفكرية في خضمّ العملية السردية يعني أن السارد موضوعي وهو يحتدم بالتفكير مكترثا بما تمرّ به مسروداته، يتحين الفرص كي يقتحم السرد مفكراً بلسانها هنا أو هناك. واقتحامه لا يعني مزيدا من التسريد وإنما هو التفكير بعين مؤنثة في منغصات الواقع المعيش كفقدان العدالة الاجتماعية وبشاعة الحروب وعوائق الحب وغوائل التطرف والإرهاب ومتاهات الوجود وتزعزع الهويات والتباين الحضاري وغير ذلك كثير.

وتبنّي السارد صوت مسروداته يجعله مؤنثاً لا على مستوى الضمائر حسب؛ بل على مستوى وجهات النظر والثيمات، كما في رواية “عشاق وفونوغراف وأزمنة” التي فيها تفكر البطلة “نهى جابر الكتبخاني” في الظل الذي يبزغ لها بين الحين والحين منتقلا معها من زمان إلى آخر، فتتأمله تارة كطيف رجل وتارة ثانية كرؤية نورانية تمنحها حرية التحليق في العدم والوجود معا وتارة ثالثة كإشارات غريبة ليس لها أن تتخلص منها أو تتجاهلها، بل هي مرتهنة بتأثيرها أينما حلّت في المدن التي طافت فيها كذات مستقلة لا تتأقلم مع حضارة غربية ترى فيها جمودا إنسانيا بشعا فتنكفئ على نفسها، مداوية بالحزن المشبوب بالألم والفجيعة وهج السمو والأمل داخلها، والسارد يفكر بلسانها في معنى الحب “فما الحب إلا نبع انبثق من أغوار سحيقة مجهولة وتدفق عذبا سخيا ليروي عالمها القاحل.. بصفاء البصيرة ومنحها نضجا مباغتا وقوى لم تكن لتدرك امتلاكها” (ص393).

وتسترعي فكرة الحب أيضا اهتمام بطلة رواية “عالم النساء الوحيدات”، “الحب يتخذ أشكالا مختلفة في كل مرحلة من مراحله لكنه يبقى في جوهره حبا” (ص76). وليس هذا القول مونولوجا يكشف لنا عن تداع نفسي يخص دواخل المتكلمة وإنما هو فكرة محددة مفصولة عن أحداث السرد فيها المتكلم سارد موضوعي.

ومثل ذلك نجده عند بطلة رواية “حديقة حياة” وهي تفكر في الأسرى العائدين من حرب ضروس “الحرب حشرتهم في آلة للمسخ وطحنتهم وأعادت تشكيلهم من بقايا ما تبقى منهم، يد مبتورة أو ذراع بلا معصم، قدم مهروسة وجذمة ساق. نصف وجه وعين لا ترى غير الذي يراد لها أن تراه لا شيء يرى غير الظلام. مسوخ تقوم من أضرحة الأسر تشق الأكفان واتفاقيات جنيف لتبادل الأسرى وتعود لا كما كانت بل كما شاءت  لها شرعة الحرب أن تعود مغسولة الذاكرة مثقوبة الروح كل ما يأتي يتساقط من ثقوب النفس. الجسد منخل لا يستبقي سوى الكلمات التي ترسبت في القعر كلمات عتيقة منسية لا معنى لها يجدون فيها راحة غير مشروطة وقد دفعوا الأثمان منذ ولادتهم الأولى وولادتهم الثانية وولادتهم الثالثة” (ص117).

وكذلك حين تفكر البطلة في الحياة والموت والحرية بطريقة مجازية تغدو فيها الحمائم معادلا موضوعيا لذاتها التي تطير منها محلقة كيفما تشاء متخذة أشكالا شتى مستغرقة في الشخصية نفسها (ينظر: ص122).

والفرق كبير بين التفكير والتداعي الحر، فالأول عملية خارجية بوجهة نظر نسوية لا تضيف للحبكة أية إضافة فنية على مستويات التأليف الأربعة: المستوى الأيديولوجي والمستوى الزمكاني والمستوى النفسي والمستوى التعبيري، بعكس التداعي الذي هو عملية تكشف عن جديد سردي على المستويين الأيديولوجي والنفسي فيدفعان بالحبكة نحو مزيد من التصعيد سواء أكان هذا التداعي في شكل حوار مونولوجي صامت أو كان في شكل استبطان داخلي مسرد أو محول.

ومن أمثلة الاحتدام الفكري ما نجده في رواية “عشاق وفونوغراف وأزمنة” وفيها يفكر السارد من داخل وعي نهى. والدليل على أن الذي يفكر هو نهى بينما السارد الموضوعي مجرد ناقل وسيط هو أنه بالتفكير يكون خارج وظيفته في كشف التطور النفسي لشخصيته. ولو أننا حذفنا المقطع الفكري لما أثّر في أدائه لوظيفته، كهذا المقطع وفيه يفكر السارد بصوت نهى وهي تتأمل مكابداتها في حب طيف لا حقيقة له “البشر جميعا وليستْ وحدها صهروا في بوتقة هائلة يسمونها الحب أو العشق أو الغرام وهي ليست سوى الرغبة في تلاحم الأعراق والأجساد خوف التلاشي في خديعة الموت. الكل ولدوا من مكيدة نشوة عارمة سرت في اللحم صعقة مكهربة عشقوا وتناسلوا وتخالطت أنسابهم وخانوا وتقاتلوا وأسسوا البيوت وأقواس النصر وميادين المدن والأسواق ومنازل البغاء والبنوك وأكل ملامحهم عفن الكراهية أو جذام الجشع ثم انشغلوا بتوسيع المدافن التي عززتها صراعاتهم والحروب” (ص14). ولا يعني ذلك التقليل من أهمية التداعيات الحرة والمونولوجات الداخلية التي تظل لها أهميتها في توضيح حجم الضغوط النفسية التي تضطرم بها المرأة وهي تفكر في حالها وما حولها.

وبمحورية نهى كذات مفردة ومفكرة ومركزية داخل الرواية يغدو الطيف معادلا موضوعيا لفكر الآخر الذي به تتوكد مآلات النسوية العمومية “إنهن نساء وحيدات في وحشة الأنوثة والشكل لا ابن له ولا رجل.. منعزلات ومنشغلات بأوجاعهن المتفاقمة الجسد يتوجع عندما تستسلم الروح لخساراتها” (ص447).

هذا إلى جانب المقاطع التي يسبقها السارد بعبارة “تفكر نهى:” أو “تتساءل نهى:” أو “فكرت نهى:” وفيها تظهر مقصدية السارد في جعل شخصيته مفكرة وبمسافة جمالية هي مسافة منح النص الحياة. وهو ما يعطي الشخصية غنى روحيا وصفاء داخليا، به تواجه بؤس عالمها الخارجي وما يعج به من تدهور أخلاقي وجمالي.

وحين ينقل السارد الموضوعي حال نهى وهي في محطة الأوديون تستمع لعازفي الموسيقى وتفكر في أبيها فإنه يستعمل اسمي الفعل “آه وياه” مع ضمير الغائبة الدال على المرأة المفكرة بعقلها لا بقلبها والمحلقة بعيدا عن مشاعرها والمقتربة كثيرا من عقلانية النظر الجدلي “آه لو كان والدها عاشق الموسيقى هنا يشاركها الإنصات إلى هذه الفرقة التي تعزف موسيقاها البدائية وكأنها تعيد تخليق مشهد الحياة ردا على فوضى المدينة وعفن حضارتها الخانقة لو انه معها الآن لأذهلته موسيقى المروج والغابات وسحرته الإيقاعات المثيرة والألحان الشجية وهي تفوح بأشذاء الأرض. ياه كم هي المسافة شاسعة بين الموسيقى المعلبة التي دأب على سماعها من أسطواناته الأثيرة على الفونوغراف العتيق وبين موسيقى ساخنة شهية تولد للتو من بين أيدي وأفواه العازفين” (ص ص 12 ـ 13) ولو كان السارد راغبا في التدخل والاقتحام وليس التفكير المحوري بعمومية نسوية لكان ذلك بعبارة وجيزة تعبر عن رأيه أو لاستعمل أسلوب المونولوج الحر غير المباشر تعبيرا عن التداعي النفسي ولما احتاج أن يكرر “آه” و”ياه” بل لقال “: فتأوهت… أو فقالت…).

واختزل السارد الموضوعي في افتتاح رواية “حديقة حياة” قصة البطلتين بجملة فكرية عرضها من وجهة نظر نسوية “تعرف المرأتان أن لا سبيل للتراجع فقد قالت الحياة حكمتها ورضخ القلب ولا مجال للتراجع. فمهما يحدث للإنسان لا بد له أن يمضي قدما سواء نحو حتفه أو نحو نجاته لا بد له أن يمضي قدما” (ص6). وهذا التفكير في حال المرأتين غير مؤثر في التحبيك السردي، إذ يمكن الاستغناء عنه.. لكنه مهم في تدليل السارد العليم على فكر شخصيته.

أما إذا كان السارد ذاتيا؛ فإن التفكير داخل السرد سيكون متحققا ومتاحا بحرية متى شاء بوصفه هو نفسه المرأة البطلة، فيغدو التسريد والتفكير مؤنث الكينونة ومؤنث الحضور. والترهين على نسوية السارد الذاتي يعني تمرير التفكير النسوي داخل التخييل السردي على شكل لحظات مقتطعة من زمن السرد، وفيها تنشغل الساردة البطلة بالتأمل والنظر خارج الأحداث التي ستتوقف عن التقدم لبرهة أو هنيهة لا تؤثر على سير الزمان لكنها تعمّق شروخ الذات المفكرة بذاكرة مشوشة ووعي حائر ومضطرب “هل ثمة أمل؟ لا أدري لا أعلم الآن أي شيء حتى أنني أشك بوجودي في هذا العالم المتهاوي، أين أنا؟ بلدي في قبضة السقم وأنا أحاول النجاة بنفسي. كل منا يعمل على خلاصه الفردي. ما عاد هناك تعاضد بين البشر” (ص44).

وعادة ما يكون السارد الذاتي عند لطفية الدليمي شهرزاديا وهو يشطر ذاته المؤنثة إلى شطرين وبمستويين سرديين: المستوى الإطاري وتمثله القصة الأصلية وفيها يكون السارد أما موضوعيا أو ذاتيا والمستوى الضمني وتمثله القصة المثلية وفيها يكون السارد ذاتيا. والغاية التدليل على الشرخ الروحي الذي يعتري البطلة التي توقعها صدف الحياة القاسية على مخطوطة هي أما دفتر مذكرات أو كراسة يوميات أو أوراق سيرية أو رسائل بريدية والكترونية تغدو بسببها مسؤولة عن كتابة تاريخ النساء.

ففي مذكرات الآنسة “م” وهي القصة الضمنية في رواية “عالم النساء الوحيدات” تفكر البطلة في حالها هائمة في ملكوت خاص بها وحيدة منعزلة وقد كرهت نفسها مسترجعة حياة عاشتها بمرارة والسبب جسدها “شيء لا يخصّني دثرته ودفأته وخرجت منه إلى أحلامي اخترعت أحداثا ووجوها وأصواتا وابتدعت مشاهد نابضة تختلج أمامي في عتمة الغرفة التي أسدلت ستائرها غبت في حلم كبير وتركت الجسد وحيدا داخل القوقعة الباردة” (الرواية، ص29).

وبينما تكون الآنسة ميم والبطلة ذاتين ما أن تسترجع إحداهما حكايتها حتى تظهر الأخرى فجأة ويتحول ضمير المتكلم إلى متكلمين كإشارة رمزية إلى ما أصاب فكر الذاتين من انفصام وشرخ “آه لكم تبدو الأمور منطقية عندما يسقط كل منطق.. لكنه حبنا الذي صار ابنا جميلا لأيامنا صار معبودنا وشمسنا.. أصبحنا ننسى أنفسنا.. ونجلس لنتعبد أمام حبنا كأنما هو شيء يقع خارج حدود روحينا وجسدينا مثل نهر يجري في حقل نملكه.. ونقسم أن نحميه من حماقاتنا وأنانيتنا وجنوننا ونبكي من اجله عندما نكون في منأى عنه” (ص76).

وتتماهى النساء جميعا في البطلة حياة البابلي في رواية “سيدات زحل” وهي تفكر بضمير المتكلمين بأشياء كثيرة حولها. ومنها شجرة السدر التي يتكرر استحضارها في أكثر من رواية من روايات لطفية الدليمي. ويعكس هذا التوزع بين ساردتين بطلتين فكر النسوية العمومية التي فيها المرأة تنشطر عن ذاتها إلى كيانين بينما تتلاقى مع ذوات أخرى حيرى مثلها، استلهاما لحكايات ألف ليلة وليلة التي فيها شهرزاد هي الساردة حين يكون المجموع نسويا، وهي البطلة حين تكون أناها منفردة ككيان نصي يتعدد بتعدد الضمائر والأزمنة والأمكنة والأفعال.

الصورة الثالثة: الساردة والمسرودة استفهاميتان

لوحة: ستار كاووش
لوحة: ستار كاووش

لا شك أن التساؤل دال من دوال التفكير، وفيه دليل على وعي الشخصية بنفسها وغيرها وهي تتحير وتشكك وتتردد. وهدفها بلوغ الحقائق ومعرفة كنه الأسرار التي تحيط بها.

وإذا كان التفكير يجعل المؤلفة حية ويحول السارد إلى مؤنث توحدا وتعددا؛ فإن تفكير المسرودات في حالها يجعلها كيانات متسائلة بنزعة سردية تتسم بالتناقض والتعارض والمعاندة.

وبسبب وضوح سمة التساؤل على ساردات ومسرودات لطفية الدليمي يغدو الفكر النسوي محاذيا خط التسريد. ومن ثم فإن السارد وهو يسترجع الأحداث بكرونوتبية بانيا وجهات النظر وموظفا المشاهد الدرامية والمقاطع والحوارات والمفارقات الفنية، لا بد له من أن يترك مساحة للفكر دوما.

وقد عُرف نجيب محفوظ في رواياته الرمزية بتوظيف التساؤلات الديالكتيكية التي تجعل السارد مفكرا. وفي “رحلة ابن فطومة” يفتتح السارد عمله بالأسئلة مخاطبا مسروده ابن فطومة أو قنديل محمد العنابي، مستبقا التسريد بالتفكير متسائلا “عمّ تبحث أيها الرحالة؟ أي العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف توسوس غرائزك وشطحاتك؟..” (رحلة ابن فطومة، نجيب محفوظ، دار الشروق للنشر، القاهرة، ط2، 2007، ص7)، ويختم السارد الرحلة بالفكر أيضا مستفهما عن قادم يظل مجهولا “هل واصل رحلته أو هلك في الطريق؟ هل دخل دار الجبل وأيّ حظ صادفه فيها؟ وهل أقام بها لآخر عمره أو عاد إلى وطنه كما نوى؟ علم ذلك كله عند عالم الغيب والشهادة” (ص126).

إن مبالاة السارد بالفكر هي التي تجعله يعطي للتساؤلات أهمية، مغايرا بالأسئلة التي يضعها على لسان مسروداته نمطية السرد الاسترجاعي أو الاستباقي. والبغية الوقوف على إجابات توضح مستغلقا أو تكشف جديدا أو تقود إلى حقيقة غائبة. وفي رواية “عشاق وفونوغراف وأزمنة” يتساءل السارد بلسان البطلة وهي تفكر في الحب عندما يكون حبا ؟ وبعد عديد الأسئلة المماثلة يصل بها إلى الإجابة “لا شك أنه العمى العاطفي الذي عاشته في برهة جنون ولعله جنوح العقل في وحشة الغربة أو ظمأ القلب للحنان وهو في حقيقته فقدان للتبصر تحت ضغوط الوحدة ومسؤولية مواجهة قسوة العالم دونما عون أو سند” (ص394).

وعادة ما يستجلب التساؤل في موضوع ما أفكارا تستثار بها مخيلة الساردة فتدفع بالأحداث نحو مزيد من التصعيد. من ذلك هذا التساؤل الذي تطرحه البطلة وهي تفكر في الناس وهم يسجلون مذكراتهم. ويقودها التفكير إلى أن ليس مهمّا عندها التذكر وإنما المهم التساؤل “فماذا يرون في من يغتال يومه؟ يغتال ما هو حي وساخن ليوصل ما بين الخرائب الماضية والحلم الآتي؟ مثل هؤلاء البشر لا يملكون أسئلة بل مسلمات جاهزة لا يتساءلون بل يستسلمون.. أنا أثابر على صنع الأسئلة واكتشاف البشر والحياة” (ص9) وكثيرة هي التساؤلات من هذا القبيل.

وإذا كان التساؤل يأتي تارة بضمير المرأة المتكلمة وتارة أخرى بضمير المجموع النسوي المتكلم؛ فإن فيه تدليلا فكريا على نسوية عمومية فيها الفكر النسوي فرداني وهو يعبّر عن الكل، وجماعي وهو يعبر عن الفرد “هل يعرف الآخرون من نكون حين نجهل ذواتنا؟ أيمكن أن يعرفنا الآخرون أفضل مما نعرف أنفسنا؟ قد يكون هذا ممكنا في الحب أما في الحرب فنحن محض نكرات.. هل كانت أحداث حياتنا وحروبنا ومدينتنا ذات منطق وسياق.. في عالم مضطرب لا منطق لأحداثه ؟ ؟” (سيدات زحل، ص ص 17 ـ 18).

ومعتاد أن تتساءل الشخصية بضمير الأنا وهي تفكر في نفسها؛ أما التساؤل بضمير الغائب فذلك يعني أن السارد الموضوعي يستظهر ـ ولا يستبطن ـ عقل مسرودته فيعرضها لنا ذاتا متسائلة مفكرة تبتغي الحقيقة “هي لا تريد أن تعرف ما جدوى أن تعرف؟ سلالة الكتبخاني تكتنفها أسرار لا يتحدث عنها أحد فلتعش حاضرها حسب”. (عشاق وفونوغراف وأزمنة، ص13).

أما لماذا نعد الأسئلة استظهارية وليست استبطانية لدواخل الشخصية، فلأن بالإمكان حذف الأسئلة كاستراتيجية كتابية فيها الفكر يحاذي السرد ويماشيه. فيكون السرد مفكرنا والفكر مسردنا لكن من دون أن يخلخل التساؤل الحبكة الفنية أو يستطرد بها بعيدا.

ختاما.. إن للفكر أهمية كبيرة في النسويّة العموميّة، به تدلل على حقيقة مفهومها. ويحتل الفكر في الروايات النسوية مكاناً محورياً، فيه يكون المجموع النسوي هو المهيمن بينما المرأة هي الذات المفكرة التي من مجموع فاعليتها التفكرية تعبر عن النسويّة العموميّة ممحورة وعيها في أناها بفردانية تتشابك فتنبجس في عقلها مجموعاّ نسوياّ استناداّ إلى تقليد شهرزادي، فيه النساء كلهن إطار إبداعي، وفي داخله تتمثل المرأة فكرياً. وتعد روايات الكاتبة العراقية الكبيرة لطفية الدليمي في المقدمة وهي تداوم على جعل الفكر محورياّ بوجهة نظر نسوية للعالم، تتبناها فواعل العملية السردية( المؤلف ـ السارد ـ المسرود ) ولكل فاعل سردي ميكانيزماته الإجرائية التي تعزز في الشخصية النسوية فاعليتها الفكرية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.