النظرة القاصرة

صورة المراهق في الرواية العراقية
الأحد 2018/07/01
لوحة: سامر طرابيشي

سيطرة الأفكار الأيديولوجية وهيمنتها على وعي الروائي العراقي في أزمان معينة، وخاصة في فترة الصراعات السياسية التي اجتاحت الوسط الثقافي العراقي، أثرت تأثيرا كبيرا على توجه هؤلاء الروائيين، وسيطرة الحس الأيديولوجي على مجمل كتاباتهم، التي أثرت أيضا على نظرتهم إلى الأدب بعامة، والهدف منه، مما جعل أعمالهم الروائية واقعة تحت هيمنة تلك المتبنيات الفكرية، لذلك كان التركيز على جعل الأدب والرواية خاصة في خدمة تلك التوجهات الأيديولوجية والفكرية ضمن مفهوم “الالتزام”، الذي شاع في أوساط المثقفين، مما انعكس على البناء الروائي وعناصره، حيث أصبح التركيز على أنواع معينة من الشخصيات مثلا، بينما انزوت أخرى، لأنها لا تخدم تلك الثيمات التي تبنتها تلك الأيديولوجيات أو الأفكار، ولم تعالج روائيا إلا بصور ضيقة وهامشية، ومن هذه الشخصيات شخصية “المراهق”، التي لم تتناول روائيا بصورة كبيرة، حيث لم تلاق بكل نوازعها الاجتماعية والنفسية اهتماما أو تركيزا، وإنما بقيت هامشا، أو ربما تعتبر مرحلة تمرّ بها الشخصيات سريعا دون التأنّي والوقوف عندها.

 وهذا الغياب عن معالجة هذه الشخصية، يرجع ربما إلى طبيعة هذه الشخصية التي لا تتواءم مع الثيمة التي تركز عليها هذه التوجهات التي أسلفنا ذكرها، لكن ورغم تخلص بعض هذه الروايات من هيمنة هذه التوجهات الفكرية والأيديولوجية وخاصة في فترة معينة من ستينات وسبعينات القرن العشرين، إلا أن التصورات العامة عن شخصية المراهق بقيت هي نفسها، ولم تخرج عن نطاق الهامشي، وحتى في بعض الروايات التي جربت الاتجاه النفسي بالكتابة، والتي ربما تمثل لها شخصية المراهق نموذجا نفسيا ثرّا، لم تعالج هذه الشخصية بصورة حقيقية، وإنما طغت عليها شخصية أخرى مقاربة لها وربما تشبهها في أوجه ما، وهي الشخصية الشبابية، التي حاولت الاتجاهات الأيديولوجية تكريسها وخاصة في فترة تصاعد المدّ الثوري والنضالي.

 وهناك أيضا تصوّر تجنيسي للرواية، يرى أن الرواية موجهة للفئات العمرية الكبيرة، وأن هناك روايات خاصة موجهة للمراهقين والصغار، والتي تتناول مواضيعهم وتعالج مشاكلهم، لذلك فتوظيف أيّ شخصية تنتمي عمريا إلى المراهقة تتم معالجتها باعتبارها شخصية ثانوية، تخدم الثيمة الروائية، وتعزز بناء الشخصية الرئيسية، التي عادة ما تكون كبيرة في العمر، لذلك تخضع الرواية إلى مهيمنة قسرية غير مبررة، بأنها رواية للكبار لذلك تستبعد باقي الفئات العمرية من اهتمامها، إلا ربما إن كتبت ضمن سياق توجيهي كرواية “تربوية”، لذلك تغيب شخصية المراهق باعتبارها شخصية روائية غنية، يمكن أن تبنى الرواية عليها، بعيدا عن التصورات السياقية التي تمارس تعسفا على هذه الشخصية، وقدرتها على النمو داخل الرواية وخارج السياقات النمطية القبلية.

يمكننا تقسيم صورة المراهق في الرواية العراقية إلى ثلاثة اقسام:

أولا: الصورة السياقية المتأثرة بالأفكار الاجتماعية والأيديولوجية.

ثانيا: الصورة النمطية الثابتة.

ثالثا: اللاشخصانية.

ولكن هذا التقسيم لا يرتبط باتجاه معين للرواية أو بجيل روائي ما، وإنما تظهر هذه التقسيمات الثلاثة وتختفي في روايات نفس الجيل الروائي، وربما في روايات نفس الكاتب، أي إنها لا تخضع لمحددات زمنية أو تاريخية، عدا الصورة السياقية ربما لأنها مرتبطة بأزمان معينة كانت فيها الأيديولوجيا هي المهيمنة، بمعنى أن الروايات العراقية تشترك في الرؤية العامة لشخصية المراهق وتختلف في زاوية النظر إليها، وتختلف درجة تركيز كل من هذه الصور، أو ظهورها تبعا لأسلوب ذلك الروائي أو الثيمة الموظفة.

الصورة السياقية

إن أحد الأسباب المهمة لغياب شخصية المراهق هو هيمنة الاتجاهات السياقية الأيديولوجية والاجتماعية والتاريخية، ونظرتها إلى صورة الشخصية الروائية التي -برأيها- يجب أن تتمتع بمواصفات معينة، تؤهلها لأن تحمل الأفكار الكبيرة، لذلك فإن بعض الروائيين عمدوا إلى التركيز على الشخصية الشابة لأنها تتمتع بصفات تؤهلها لأن تكون “ثورية”، تلك المواصفات التي ربما لا تمتلكها الشخصية المراهقة في تصوّر تلك الاتجاهات وزاوية نظرها إلى تلك الشخصية.

وهذا ما يقودنا إلى أن ذلك التصور السياقي ينظر إلى الشخصية المراهقة بأنها قاصرة، ولا يمكن أن تمثل تلك الأفكار الأيديولوجية أو الاجتماعية أو التاريخية، لأن المراهقة تقدم دائما على أنها صورة للشخصية غير المكتملة الوعي، ولا تحمل جدية في التصرف، أو التوجه الحقيقي في الحياة، باعتبارها مرحلة تغيّر فسيولوجي وبيولوجي يمرّ بها الإنسان، بالإضافة إلى تغييرات سيكولوجية، ومنها اجترحت بعض المصطلحات التي استخدمت في حقول مجاورة، كـ”المراهقة السياسية” أو “الفكرية”.. وغيرهما، والتي تدل على عدم النضوج السياسي أو الفكري، والتخبط في المواقف، لذلك فالروايات الواقعة تحت هيمنة تلك الصورة السياقية تغيّب هذه الشخصية عن دائرة اهتمامها، إلا ربما بحضور ثانوي، وليس كشخصية مستقلة فاعلة لها دور رئيسي، معبرة عن صورة المراهق نفسيا واجتماعيا، وخاصة في بواكير الرواية العراقية، حيث نرى مثلا رواية “جلال خالد” للروائي العراقي محمود أحمد السيد، وإن كانت لا تمثل الرواية العراقية المكتملة، إذ أنها تقدم شخصية جلال خالد، الشخصية الرئيسية، كشخصية شابة ثورية ساعية نحو التغيير، وهكذا فعل ذو النون أيوب وعبدالحق فاضل وآخرون، وكذلك الروائيون الذين أتوا بعدهم وربما مثلوا الرواية العراقية الفنية المكتملة كفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وغيرهما، حيث مثلت مرحلة الشباب نموذجا ممتازا لطرح تلك الأفكار الأيديولوجية، فالمراهق نموذج سيء لحمل مثل هذه الأفكار، لذلك غابت هذه الشخصية عن تلك الروايات، ولم تقدمها إلا بوصفها حلقة فاصلة بين الطفولة والشباب، وإن كان يمكننا أن نرى ملامحها تتبدّى على بعض الشخصيات الشابة لأن الفروقات بين المرحلتين طفيفة جدا، ولكنهما بالمعالجة الروائية قد خضعتا إلى الصورة السياقية المكرسة.

الصورة النمطية

قدمت الرواية العراقية في أكثر الأحيان صورة نمطية لشخصية المراهق، وأحد هذه التصورات النمطية الشائعة، متعلق بالجنس والعادة السرية.. وغيرهما، حيث شكلت تصورا نمطيا لدى الكتّاب عن شخصية المراهق، وهذا لا يعني أن هناك اهتماما بها، وإنما هي مجرد إشارات بسيطة يستخدمها الروائي للإحالة إلى هذه الفئة العمرية، والتي تأتي عبر تصورات قبلية نمطية مكررة، فمثلا الشخصية الرئيسية توفيق في رواية “مسرات وأوجاع″ لفؤاد التكرلي؛ تمثل التصور النمطي لشخصية المراهق في الاقتباس التالي من الرواية “تعرّف وهو يدخل عامه السابع عشر، على بعض الأمور التي ما كانت لتسرّ والدته كثيرا، كانت عواطف الغريزة، مع انتفاضة المراهقة، شديدة لديه وفوّارة بشكل لا يطاق”، ولا ننسى أن هذا الكلام أو هذه الإشارة إلى مراهقة توفيق جاءت لتعزيز شخصيته الأخرى الأكبر سنا، لكن أسلوب التكرلي الذي اتبعه في هذه الرواية، وهو السياق الأفقي في تتبع حياة الشخصية الرئيسية، حتّم عليه أن يشير إلى هذه الفترة من حياته، وقد أوردها كما رأينا من خلال تصوّر نمطي لها من خلال الغرائز الجنسية، واكتشافه لها، وهذا ما يحدث في الكثير من الروايات الأخرى.

اللاشخصانية

اللاشخصانية هي عدم حضور الشخصية بصورتها الفعلية المشخصة، وإنما تظهر على الخلفية من دون معالجة فعلية أو إشارة حقيقية إليها، فربما يقتصر ظهورها على الإشارة العمرية فقط، والمحصورة بين الحادية عشرة والعشرين، أي المرور بها دون التطرق إلى مواصفات هذه الفترة العمرية أو كيفية تمثلها روائيا، أي عدم معالجتها كشخصية مراهقة لها أبعاد نفسية واجتماعية، وإنما اختزالها في الخطاب الروائي كنقطة عابرة في نمو الشخصية وتقدمها في العمر.

 تجنب الكثير من الروائيين استخدام شخصية المراهق، وذلك للنظرة القاصرة التي ينظرون بها إلى هذه الشخصية، من خلال كونها دلالة كرست ثقافيا بصورتها النمطية، والتي أصبحت معيارا يبنى وفقه مدلولها، والتي -حسب وجهة نظرهم- قاصرة على أن تحمل مضامين كبيرة، مما عزز غيابها عن التناول والوجود الفاعل داخل الروايات العراقية، إلا ما ندر وبصورة مقتضبة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.