النظر في فراغ الموبايل
يعيش العالم الآن لحظة الذكاء الاصطناعي؛ هذه اللحظة الحضارية التي تكون فيها الأجهزة الذكية هي الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تحسين وتسريع وتوسيع نطاق حياته. ومن ضمن هذه الأجهزة الذكية يكون الهاتف متعدد الوسائط، والذي يتضمن تطبيقات متعددة ومتنوعة يمكن استخدامها للتواصل وللتفاعل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي أيضا. فهي نوافذ تتيح لاستيراد ولتصدير الأفكار والمهارات والأنشطة والسلوكيات. وهذه النوافذ المفتوحة متاحة لأي فرد يمتلك هاتفا ذكيا متعدد الوسائط باختلاف الأعمار والفئات.
أدى انتشار استخدام هذه الهواتف وتطبيقاتها إلى تفشي ظاهرة التواصل الافتراضي وظاهرة الفوضى المعرفية التي أصبح من السهل بث وتوصيل ما يتعارض مع العلم والتفكير الناقد والقراءة الإبداعية باعتباره حقائق.
هذه النوافذ لا تنفتح على ثقافة واحدة، وإنما على ثقافات متعددة. وهي تقوم بدورين قد يبدوان متناقضين وهما: التواصل والوصول، والاختراق؛ ومن هنا فإن التعامل الإيجابي مع هذه الأجهزة يفترض الوعي والمهارة والتحصين. فالوعي والمهارة يسهلان انسيابية التواصل مع الثقافات الأخرى أو مع الجماعات والنخب، ويسهلان الوصول إلى الأفكار والمعلومات ومصادرها وإلى الأسواق وأماكن السياحة…. إلخ، كما يسهلان التواصل مع الأهل والأصدقاء. وكذلك الوعي والمهارة يحسنان سبل التحصينات والوقاية ضد أي نوع من الاختراقات سواء الثقافية أو الاجتماعية أو حتى الخصوصية.
لكن هذا الوعي والمهارة في التعامل مع إمكانيات الهاتف الرقمي لا يمكن أن يكونا قويين عند كل مستخدميها، وخاصة الأطفال، وبالتالي يضعف التحصين وتضعف الاستفادة من فضاء النوافذ والبرمجيات المتنوعة في الفن والأدب والتعلّم… إلخ. وفي هذا السياق يمكن أن يكون هناك هدر فائض في الوقت وفي سوء الاستخدام أو تقصير في تحقيق الفوائد الممكنة من إمكانات الهاتف الرقمية.
ومن خلال الملاحظات العامة يظهر أن الكثيرين من مستخدمي هذه الهواتف يقصرون تعاملهم على برمجيات محددة وأنهم قد لا يستخدمون هذه البرمجيات وبما يتناسب وإمكاناتها أو إمكاناتهم هم أيضا.
قليلون هم من يوظفون برامج الهاتف لتطوير ولنشر وتصدير اهتماماتهم وأنشطتهم الفنية والثقافية من شعر وموسيقى وفنون تشكيلية، أو قدراتهم الثقافية والعلمية والفكرية، وقليلون أيضا من يتواصلون مع هذه الاهتمامات ومع ما هو موجود في هذا العالم من نتاج عالمي متطور ومتنوع.
أكثر النوافذ المستخدمة في مجتمعنا هي نافذة (الواتساب) والتي تنشغل بلا توقف في خلق شبكات تواصلية اجتماعية صامتة تتلقى وتصدر مشاركات أكثرها مسطحة أو مكررة دون أن تتناغى مع العقل العميق المفكر أو الناقد.
وهذا البرنامج الاجتماعي الذي عادة يكثر استخدامه لحظة الجلوس في المنازل مع الأسرة أو في المقاهي مع الأصدقاء يقوم بتفريغها من وظائفها الاجتماعية والثقافية فتصبح هذه المنازل والمقاهي ممتلئة بالصمت والوحدة وخالية من العلاقات الاجتماعية، وفارغة من التواصل الإنساني. وهذا البرنامج لا يشغل نطاقا كبيرا في الجغرافيا؛ فهو يعمل بقوة ربط الجماعات القريبة جغرافيا (منطقة، بلد، إقليم)، ويقوي بين جماعات القرابة، وبين من يحملون ذاكرة مشتركة كالطلبة أو الموظفين، أو الأدباء والفنانين، أو الرياضيين…إلخ.
واسترجاع هذه الروابط والشبكات يعتبر مؤشرا إيجابيا للواتساب. وعلى شاشة الواتساب تنزل وتتداول النوافذ الأخرى مثل التويتر والإنستغرام والفيسبوك واليوتيوب والسناب… إلخ؛ أي أن الواتساب عبارة عن بحيرة لكل هذه البرامج تسبح فيها دون توقّف ويختلط فيها الحقيقي بالمنتحل.
أما التويتر فهو برنامج يلف الكرة الأرضية، وقد لعب منذ ظهوره تأثيرا واضحا في مسارات الأحداث السياسية التي مر بها العالم، وهذا البرنامج يعتبر نافذة للرؤساء وللمسؤولين ولمؤسسات حكومية ولمنظمات حقوقية وثقافية واحتماعية مختلفة، يبثون من خلالها ما يريدون التعريف به. كما أنه يتيح للأفراد نشر أفكارهم وآرائهم وثقافاتهم واهتماماتهم. ولهذا يمكن لأي شخص ناشط في أي مجال أن يكون مؤسسة إعلامية أو إعلانية أو حزبا سياسيا من خلال عدد الأفراد والمؤسسات التي تتابعه على التويتر؛ فتويتر جعل الفرد مؤسسة، وجعل المؤسسة فردا يمكن تتبع نشاطه.
ومع هذا التأثير المتعدد للتويتر يسهل الاختراق الثقافي الاجتماعي والسياسي والشخصي؛ حيث أنه تتوالد وتتكاثر عليه حسابات صحيحة أو وهمية تنشط في ذلك وتبث الخداع والتدليس وصناعة الجهل. وكشف تويتر فداحة الشروخات والانكسارات الطائفية وثقل العنف والتشنج المشحونة بها مجتمعاتنا عموديا وأفقيا، وأصبح شاشة لحروب وتصفيات فكرية ودينية وسياسية، وربما شخصية أيضا.
والفيسبوك من النوافذ التي يتيحها الهاتف. ونرى أن هذه النافذة أو هذا الجدار الرقمي يمنح خيارات متعددة من أجل استثماره ثقافيا وأدبيا وفنيا واجتماعيا، والتشارك في تصفحه على مستوى العالم. ويظهر تصفح الفيسبوك بأن هناك استثمارا أفضل له ضمن التواصل الثقافي والفني والاجتماعي، ويعطي مساحة واسعة وعمقا أكبر من على هذه الشبكات التواصلية والتفاعلية، لكنه مع ذلك يوفر بيئة أيضا لهجومات ولاختراقات من قبل الألسن التي تتغذى على التناحرات والعنف والترهيب، ومن قبل الذين يتلاعبون بالعقول والمشاعر والقيم والأخلاقيات.
ومن البرامج المفيدة التي يضعها الهاتف في تناولنا برنامج إنستغرام؛ وهو برنامج يمكن أن يستثمر بطريقة إيجابية في تداولية الصور والكتابة، وينتظر من الفنانين والأدباء أن يوظفوه لأنشطتهم ونتاجاتهم، لكن نلاحظ أن الكثير من هؤلاء المثقفين والفنانين والأدباء يقتصر توظيفهم على إغراقه بالصور الشخصية أو العائلية أو بصور الطعام أو بما هو بعيد عن الثقافة والفن، أي يغلقونه على أنشطة بعيدة عن أنشطتهم النخبوية؛ وبالتالي يضعف كنافذة ثقافية وفنية.
ومن إيجابيات الهواتف الذكية أنها توفر خاصيات متعددة للمعرفة والبحث والتعلم، وهناك الكثيرون يستخدمونها في ذلك، لكن الانشغال اليومي المتواصل في تصفح وملء هذه النوافذ بالمشاركات يجعل الفرد في دوّامة متواصلة معها ومع مادتها باعتبارها ثقافة أو تواصلا ثقافيا واجتماعيا، ويسلب منه قدراته ووقته في التعامل مع الثقافة الأعمق والتي تحتاج إلى التفكير والتأمل والجهد والصبر والمثابرة؛ ويبقى الكائن متنقلا بين هذه النوافذ ليشحنها ببعضها البعض، ويغرف منها معارفه ويبدد فيها وقته وجهده.
لقد استطاعت ثقافة الهواتف النقالة المسطحة، من خلال برمجياتها، أن تضعنا أمام واقعنا الهزيل والهش والممزق، وأمام مستوى الرغبة الدفينة في دواخلنا للتناحر بأي طريقة، ومقدار حاجتنا لتفريغ كمية الكبت الهائل والنقص الفادح من الحرية، كما أظهرت مساحات سوء استخدامنا لها وإمكاناتها؛ فهناك نقص في الوعي بها، بسبب أننا لم ننتجها بل نحن مستهلكون لها ومبذرون لإمكاناتها وخصائصها، فأصبحت حياتنا مخترقة بها ومدارة من خلالها.
في النتيجة تقودنا ثقافة الذكاء الاصطناعي المقتضبة والسريعة التي نمارسها ونتداولها إلى التشوش والتساهل مع الفكر ومع مشكلاته، ونصبح انتقائيين خاضعين لتأثيرات التداول السريع غير الخاضع للفحص النقدي وتساؤلاته، ومن هنا يحدث الاختراق الذي يجعل عقولنا مستهلكة في القراءة والكتابة السطحية تعويضا عن الصمت الذي ينمو ويتسع في حياتنا.