النقد والحرية التمييز بين الحقيقي والزائف
تشير كلمة نقد إلى تقنية Technik أو فن Kunst و”تقنية الأخلاق” أي إلى نفس معنى الحكم أو إصدار قرار أخلاقي، وهو المعنى الذي انتقل إلى الفلسفة الأخلاقية. والحال أن الفلسفة منذ قرون هي نظام للعمل النقدي الذي ميزه بلوتارخ في نظريته: بين ما هو الجميل/الأصيل عن القبيح/المشين، وكذلك بين ما هو العادل وغير العادل. وبإيجاز شديد: يعني ما هو القصد، وما هو المخرج؟
أهمية النقد تكمن إذن في التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي، وبين ما هو جميل وقبيح عن طريق إصدار حكم عقلي يبين ما هو الأفضل والأجمل من الظواهر عامة.
وكان من الطبيعي أن يأتي دور العقل في المرتبة الثانية بعد الإيمان وبخاصة بعد توسع نفوذ الكنيسة وهيمنتها على المجتمع حيث أخذ مصطلح النقد يشير إلى عملية إصدار أحكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة النصوص القديمة، سواء كانت كلاسيكية أو مقدسة، واستخدم كسلاح ذو حدين من قبل الاتجاهات الدينية المختلفة آنذاك. فقد استخدمه الكاثوليك كمنهج لغوي للتدليل على أهمية ودور الكنيسة مثلما استخدمه البروتستانت في دعم أولوية الاعتماد على الكتاب المقدس ذاته. وقد أكد القديس أوغسطين على قاعدة أصولية مؤداها “ان سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الانساني”. وبعد تنامي الفلسفة المدرسية، أخذت هذه النظرة تتغير بالتدريج وذلك بفعل أفكار أريجين الفلسفية، الذي كان معاصرا للفيلسوف العربي أبو يوسف الكندي. كما كان أول فيلسوف أوروبي ربط بين سلطة العقل وموضوع الدين، وأكد بأن أيّ سلطة لا تقوم على العقل تعتبر سلطة كسيحة، وأول من أعطى لنفسه الحرية في تفسير النصوص الدينية تفسيرا عقلانيا، ولذلك نظرت الكنيسة إلى أفكاره بعين الرّيبة والحذر، وأمرت بحرق كتبه وطرده من الكنيسة. كما كان القديس أنسلم، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، أحد الدعاة إلى تحكيم العقل في أمور الدين.
وخلال القرن الثالث عشر ازدادت النزعة العقلية (النقدية) على إثر اتصال الأوروبيين بالعرب والمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وترجمة أمهات الكتب الفلسفية للمفكرين العرب إلى اللغة اللاتينية وبخاصة مؤلفات الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد. ومع بدايات القرن الرابع عشر، الذي جاء محمّلا برياح التغيير، تزعزعت الأبنية الفكرية القديمة وتفجرت الصراعات بين الأنظمة الملكية الجديدة وبين الكهانة وظهرت بدايات الفصل بين الدين والفلسفة. ويعتبر الفيلسوف أوكام (1349) أول من قام بحركة قوية لنقد الفلسفة الكهنوتية والمطالبة بالفصل بين السلطتين الدينية والمدنية.
والواقع بقي النقد في تلك الفترة لا يخرج عن كونه عملية إصدار أحكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة وتفسير النصوص القديمة سواء كانت دينية أو دنيوية.
المنهج النقدي
غير أن المنهج النقدي لم يحقّق نوعا من الاستقلالية إلا بعد أن حلّت الأفكار التأملية الرشيدة مكان المفاهيم والأفكار التقليدية القديمة، وبخاصة تلك التي ترتبط بالحق وبالمقدس. وبالتدريج أصبحت فكرة النقد تعني “الجدل العقلي” ثم النشاط المتميز للعقل باعتبارها أداة تحكيم عقلانية. ثم تطور مفهوم النقد ليصبح عملا من أعمال الفكر في شروط المعرفة الممكنة، أي القدرات التي تمكّن الإنسان من المعرفة والنظر في الأمور بحرية. لأن هدف النقد هو ألاّ يضيع الإنسان في واقع مزيف أو يستسلم لحقيقة كاذبة، أو يتوهّم بأنها أبدية ولا يمكن مسّها بالنقد والتجريح. كما أن هدف النقد هو إيقاظ الوعي الإنساني عن طريق القدرة على الرفض، الذي يلغي الحق في التفكير الحر، ورفع القدرة على الإبداع. ومن هنا تأتي أهمية النقد باعتباره عملية رفض وتحدّ وليس خضوعا واستسلاما.
والنقد هو “فن الحكم”، أي الفصل بين الأشياء والحقائق التي يختلف حولها ووضعها موضع التساؤل. وهو بهذا أحد أهم القابليات العقلية في الاختبار والحكم التي يمتلكها الإنسان والتي تجنبه الخطأ والضلال، وبخاصة ما يمس الشخص ذاته، مثلما يشير إلى القدرة على استخدام النقد، أي المعرفة والاستيعاب والقابلية على التصرف بحكمة للوصول إلى الهدف الأصل والقدرة على التمرّن على ممارسة النقد. فالنقد يشترط وجود قدرة وإمكانية لمعرفة مناحي القوة أو الضعف في الموضوع المنقود أو في كليهما، مثلما يشترط ألاّ يكون هجوما على الشخص ولا حتى الشعور بالهجوم، لأن أيّ تعامل خاص مع أيّ موضوع أو نص أو وجهة نظر تعتبر عموما حكما مسبقا يظهر خاصة بتأثير عاطفة أو نزوة أو مصلحة. وقابلية النقد هي جزء من قابلية الثقافة والجماعة واستعدادها على تقبّل النقد.
ويشكل النقد لولب الحراك الاجتماعي الذي ينتج عمليات التغير والتغيير والتطور والتقدم الاجتماعي. ولولاه لظل التفكير الاجتماعي ثابتا وجامدا. وهو جزء من الوعي الإنساني بالذات وبالآخر ومحركه، وهدفه إيقاظ الوعي الاجتماعي عن طريق القدرة على الرفض وعدم إلغاء الحق في التفكير والحرية في الرأي والقدرة على الإبداع. فهو عملية تحد وصمود وعدم الاستسلام أو الخضوع لقمع أيّ فكر تسلطي.
لا يكسب النقد شرعيته إلاّ بعد أن يستكشف الناقد ما يكمن داخل الخطاب-النص، من دلائل ورموز ومعان وإشارات، بل ويكشف عمّا هو غامض وسري ودفين فيه
تطور الفلسفة النقدية
النقد منذ البداية جزء من تاريخ الفكر والفلسفة، الذي انبثق عنها، لأنه قائم في سياق تاريخي واجتماعي وارتبط بالتغيرات الذاتية والموضوعية وكذلك بالمناخ الاجتماعي/الثقافي وبتاريخ الأفكار والنظم والفلسفات في العصر الحديث التي أثّرت بدورها على حركة النقد وأنواعه واتجاهاته، وبخاصة الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية.
وتعود الإرهاصات النقدية الأولى إلى الفكر والفلسفة الإغريقية التي مثّلت أوّل مغامرة فلسفية في الفكر الإنساني للبحث عن علل الأشياء وإدخال العقل إلى العالم لتفسير الطبيعة والكون والحياة على أسس عقلية وإعطاء النقد بعدا فلسفيا، حيث أخذ مفهوم النقد عند أفلاطون معنى فلسفيا تماما، ولكن ليس بالمعنى الشائع اليوم لكلمة “نقد” وإنما بمعنى مختلف وهو “الحكم”، إذ اعتبر أفلاطون النقد كقطيعة بين الروح والجسد وربطه بأسطورة الحكمة الإلهية لليوم الآخر. فالروح حين تخرج من الجسد في اليوم الآخر يكافأ الإنسان إما بالصعود إلى عالم السماء أو النّزول إلى عالم الجحيم والعذاب. وبصورة أو بأخرى فالإنسان يولد من جديد. أما عند سقراط فجاءت كلمة “نقد” أكثر تطورا حيث اعتبر النقد “التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو غير ذلك”. كما عرف عن أرسطو أنه أول ناقد لفلسفة أفلاطون وأوّل مهاجم لفكر السفسطة.
كمل لعب النقد دورا هاما في الفكر والفلسفة العربية الإسلامية من خلال الجدل في القضايا الإيمانية، كمشكلة خلق القرآن لدى المعتزلة وأفكارهم العقلانية، إلى جانب النقد الأدبي والعلمي الذي تطوّر مع ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط.
وخلال عصر النهضة تطور مفهوم النقد في أوروبا مع تطور العلوم والآداب والفنون وامتداد الثورة الصناعية في الدول الأوروبية وانفجار حركات الإصلاح الديني التي قوضت سلطة الكنيسة وهيأت لظهور عصر التنوير، الذي يعتبر بحق عصر النقد.
وكان في مقدمة الفلاسفة الكبار الذين أرسوا دعائم الفلسفة النقدية هو فردريك هيغل الذي سار في البداية على خطى نظرية كانت ثم تجاوزها إلى فضاء أرحب، إلى قضايا الدولة والسياسة والمجتمع، معتبرا أن الحرية تتجسد في تحقيق الروح في التاريخ، أو تحقيق الإنسان لذاته في المجتمع، وهذا لا يتحقق إلا بالجدل: الإثبات/النفي/التركيب.
وكان هيغل افتتح عام 1802 مجلة “النقد الأدبي” بمقالة عن “جوهر النقد الأدبي” ميّز فيها بين نوعين من النقد، الأول، نقد يمارس في وجه القوى الوضعية المزيفة للعصر للخروج من الأشكال المتصلبة وتوليد جديد لهذه الحياة المقهورة. ويعني بالقوى الوضعية الدين والدولة. وإذا لم يكن بوسع النقد أن يبرز العمل والفعل مثلما يبرز شكل الفكرة، فعليه أن يعترف بالجهد المبذول والاهتمام العلمي وما يقوم به من تحطيم القوقعة التي تعوق التوتر الداخلي. والثاني، نقد موجه نحو المثالية الذاتية لدى كانط وفيشته، إذ يصدر عن هذه المثالية الذاتية حقيقة أن فكرة الفلسفة معروفة بوضوح، ولكن الفلسفة الذاتية بذلت جهدها لاحتواء الفلسفة بالقدر المطلوب لخلاصها، فليس على الفلسفة أن تقول للعالم كيف يجب أن يكون، لأن مفاهيمها لا تعكس سوى الواقع كما هو. والنقد لا يمارس إذن ضد الواقع، وإنما ضد تجريدات ظلامية تتسلل بين الوعي الذاتي والعقل وقد صار موضوعيا.
غير أن الأب المؤسس للتراث النقدي التنويري يبقى عمانوئيل كانط الذي اتخذ النقد عنده مفهوما جديدا. فالنقد من الجانب الإيجابي محاولة لتقييم حدود العقل ومدى إمكانياته في نطاق التجربة الحسية. أما النقد من الجانب السلبي فيتضمن تقييماً نقدياً للعقل حينما يحاول تجاوز التجربة. وهو بهذا يعني تهافت الفلسفة الميتافيزيقية الكلاسيكية التي كانت تعتقد بإمكان معرفة ما وراء الظواهر المحسوسة، كما يعني ضرورة الانصراف إلى مشاكل الحياة والمجتمع التي يمكن معرفتها بعقولنا.
إن مهمة الفلسفة هي إذن مهمة نقدية تمثل لحظة نقدية للواقع الإنساني، وإن نقدها لما هو كائن يؤكد على عمق السؤال الفلسفي كونه يدخل في حوار ومساءلة مع الوجود كما هو أمامنا في الحياة والمجتمع. وبهذا يصبح النقد عند كانط هو محرك لكل خلق وإبداع، لأن الفكر عنده يتطلع دوماً إلى ما يجب أن يكون، وليس ما هو كائن.
هذا الإرث النقدي العظيم لكانط وهيغل انتقل إلى ثلاثة فلاسفة كبار أسسوا اللحظة النقدية للفكر المعاصر هم ماركس ونيتشة وفرويد الذي يربط بينهم عامل مشترك واحد هو البعد النقدي لفلسفاتهم.
بالرغم من أن جدلية هيغل هي أساس جميع الجدليات الفلسفية في التاريخ، غير أن ماركس قلب جدلية هيغل وأوقفها على رأسها وتجاوز صوفيتها بتطويره طريقة “الديالكتيك” التي تعبّر عن صيرورة العالم وحركته التي تنفي كل رؤية ثبوتية للعالم والكون وفي حركة تنمو وتتطور في الأشياء ذاتها فتنتج التناقض، لأن كل شيء يحوي في أحشائه عناصر متناقضة. إن مبدأ الحركة عند ماركس هو سيرورة (process) تجري وفق مخطط جدلي (dialektic)، فكل قضية (These) لها ما يناقضها (Antithese) وهذا التناقض يولّد بدوره قضية جديدة يدعوها بالتركيب (Synthese).
وقد انتقل ماركس من نقد الفلسفة إلى نقد المجتمع وتحوّل من النقد الديني إلى النقد الاجتماعي متخطيا أراء فيورباخ في نقد الدين إلى نقد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، منتقدا بوجه خاص كل سلطة تستغل الإنسان وترى في نفسها الحقيقة. وقد ارتبط نقد ماركس قبل كل شيء بالطبقات المستغَلة باعتبارها الصوت المعبّر عن النفي حيث يتم الانتقال من الأفكار إلى ممارستها في الواقع، ومن الفكر النظري إلى الثورة بهدف استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية من حيث هي وسيلة لإعادة تنظيم المجتمع. ولا يكتفي ماركس بنقد سلبيات الواقع، وإنما كل أشكال الاغتراب المادي والمعنوي.
النقد خطاب جمالي ذو منطلق علمي تتحدد قيمته بمدى الحرية المفتوحة أمامه، ومدى الوعي بهذه الحرية واستخدامها، وكذلك التمكن من استخدام أدواته النقدية وذائقته الجمالية
أما نيتشة فكان فيلسوفا وعالم نفس وشاعر رفيع وجه نقده إلى العالم وإلى نفسه، مثلما انتقد الفلسفة الغربية واعتبر أن وظيفتها الحقيقية هي إنقاذ الفلسفة، مركزا في الأخير على نقد قيم الحداثة التي تعيد نفسها اليوم في كتابات ما بعد الحداثة في شكل أو آخر، جعلت منه أول من قدم حججاً نقدية صارمة ضدها، مركزا هجومه على فكرة الذات وعلى أفكار ومبادئ عصر التنوير في العقلانية والتقدم الاجتماعي.
وقد ظهر بوضوح نقد نيتشة للحداثة والعقلانية الغربية على لسان زرادشت الذي هزأ بهذا الصنم المسمّى “العقل” مثلما هزأ الغرب بمسيحيّته. كما وقف ضد عبودية الأخلاق عامة والأخلاق المسيحية خاصة وتحول إلى متمرد وكافر ليعلن “موت الإله”، ويعني بذلك تحرر الإنسانية الكامل من أيّ سيطرة لمرجعيات عقلية.
في نقده للعقلانية يقف سيغموند فرويد بالضد من المفاهيم الفلسفية التي تقول بطبيعة الإنسان العاقلة. فهو يقدم فلسفة مغايرة تقول بأن السلوك البشري ليس موجها بالعقل، وإنما بما هو أقوى من العقل ويقصد بها الدوافع أو الغرائز وهي بطبيعتها لا عقلانية ويعبّر عنها بالرغبات والاحتياج والتوق. وإذا أراد البشر فهم الفعل فعليهم فهم الدوافع التي تختفي وراءها. وعادة ما تكون الدوافع واضحة حيث يشير الفعل إلى حدوثها، ولكن غالبا ما تكون دوافع الفعل مبهمة وغير واعية. وارتباط الدوافع باللاوعي معناه وجود مخزون من الدوافع المكبوتة التي تفسّر الأفعال وتجعل لها معنى. وقد أرجع فرويد جميع الدوافع إلى غريزتين أساسيّتين هما غريزة الحياة-الحب (Eros) وهي الغريزة الجنسية التي تحافظ على الذات والنوع، وغريزة الموت-الهدم (Tod) وهي غريزة العدوان والتدمير. ويرى فرويد، بأن السلوك البشري هو نتيجة للصراع بين هاتين الغريزتين أو التعاون بينهما، فغريزة الحياة والتعاون تنزع إلى البقاء، أما غريزة الموت والعدوان فتنزع إلى الهدم والتدمير ووظيفة المجتمع هي التغلب على السلوك المدمّر وتقديم السلوك الذي يبني ويهذّب.
إن إرث عصر التنوير والفلسفة النقدية بإشكالاته المتعددة انتقل في منتصف القرن الماضي إلى مدرسة فرانكفورت النقدية التي سبقت غيرها في إثارة كثير من التساؤلات المعرفية التي تدعو إلى الشك في الفكر الاجتماعي والفلسفي التقليدي والانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسساته في محاولة لصياغة نظرية نقدية جادة مثلما جاء به عصر التنوير للوقوف أمام التيارات الفكرية التي مارست وتمارس أنواعا من السلطة والتسلط والتشديد على أهمية العقل والعقلانية والتنوير ونقدها من خلال تبني منهج بحث نقدي-جدلي يربط بين النظرية والممارسة العملية.
وقد تأثر رواد ما بعد الحداثة وخاصة في فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي بأفكار نيتشة النقدية مثل دولوز وفوكو في التحليل والتفكيك والنقد ومناهضة العقل الغربي. ولم يكن “بيان ما بعد الحداثة” الذي أصدره فوكو هو الأول، وإنما كانت أفكار نيتشة ونقده لقيم الحداثة والتنوير. إذ أعلن بأن انتصار الوعي هو اغتراب الطاقة الإنسانية المنفصلة عن نفسها والتي تعادي ذاتها بتماهيها مع قوة غير إنسانية تفرض على الإنسان الخضوع لها، وهو ما قاد إلى العدمية التي تعني استنفاد الإنسان الذي انتقلت قدراته إلى العالم الإلهي بواسطة المسيحية التي ليس لها من سمة تخصها سوى الضعف، ما أدى إلى انحطاطها. كما أن قلب القيم يعني رفض هذا الاغتراب واستعادة الإنسان وجوده الطبيعي وطاقاته الحيوية وإرادته في القوة. كما ينطلق في نقده للحداثة في تماهيها مع النفعية، ومع إخضاع الفرد لها يخضع العالم لمصلحة التنظيم الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البرجوازي.
النقد والحرية
إن الصعوبة في عملية النقد تأتي من خضوعه لاختبار حر ومفتوح، لأن العامل الأساسي الفاصل في ذلك هو تقديم الدلالات والبراهين الكافية لبيان مناطق القوة والضعف، مثلما ترتبط قابلية النقد بقابلية تقديم الحجج المقنعة. وإذا كان النقد عادلا، فيعني ذلك وجود من له قابلية على النقد واستعداده للاعتراف بنقاط الضعف في الموضوع المنقود.
وتساعد حرية النقد على تنمية التفكير وتحريكه والتخلص من عقدة الخوف والوجل والتردد من قول الحقيقة، وتوليد أفكار ورؤى جديدة، ولذلك فهو عملية ضرورية للتخلص من الطاعة العمياء والخضوع والانقياد للقدر الأعمى، وعدم طرح الآراء والأفكار من دون تأمل، كما يرتبط سؤال النقد بالحرية، لأن نقد الفكر من الداخل غالبا ما يكون محكوما بقيم وقواعد وأعراف وشروط إنتاج المعرفة في المجتمع.
النقد والإبداع
اعتبر أفلاطون الإبداع لغزا محيّرا لا يمكن تفسيره إلا بالإلهام، ونسبه إلى الآلهة والقوى السماوية. أما أرسطو فقد اعتبر الطبيعة مصدر الإلهام والإبداع وهو تفسير عقلاني يتجاوز رأي أفلاطون بإرجاعه إلى عوامل سحرية وما ورائية. وكان أكثر وضوحا من غيره حين شدد على أن جوهر النقد هو الحرية وجوهر الإبداع هو خلق وابتكار ما هو غير موجود وليس تقليدا ومحاكاة محضة لما في الطبيعة، وميّز بين الخلق والإبداع وعزا الخلق إلى العبقرية، وقرن الإبداع الحقيقي بالفن وليس بالعلم. فالإبداع عنده هو النتيجة الطبيعية للتفاعل المتبادل بين التصور والإدراك. ورسالة النقد ذات أبعاد متعددة، فهو آلية من آليات الخلق والإبداع، التي تفكّك الخطاب وتحلله وتؤوله، بعد أن تستشرف فضاءاته وآفاقه وأبعاده ودواخله وتسبر جوهره لتعيد إنتاجه بخطاب جديد يقوم عليه. ولهذا أصبح النقد شرط الإبداع، والإبداع شرط التطور والتقدم.
ولا يكسب النقد شرعيته إلاّ بعد أن يستكشف الناقد ما يكمن داخل الخطاب-النص، من دلائل ورموز ومعان وإشارات، بل ويكشف عمّا هو غامض وسري ودفين فيه.
وإذا كان النقد إبداعا، فهو يشترط ذائقة نقدية، مثلما يشترط امتلاك أدواته النقدية، وكذلك ذائقة جمالية، لأن النقد خطاب جمالي ذو منطلق علمي تتحدد قيمته بمدى الحرية المفتوحة أمامه، ومدى الوعي بهذه الحرية واستخدامها، وكذلك التمكن من استخدام أدواته النقدية وذائقته الجمالية ومخزونه المعرفي، الذي ينبغي أن يستجيب للتعديل والتحوير والتطوير ليكون إبداعا وابتكارا وأصالة. وهكذا فالنقد منهج مفتوح على المعرفة العلمية وعلى وعي جديد يكشف عن المعلوم والمجهول في الفكر متطابقا معه أو مخالفا له، ليؤسس لفكر جديد.