النقد المُفتعل والطريق المسدود
تتعدد الإجابات على السؤال عن أسباب وصول ثورات ما يدعى بالربيع العربي إلى طريق مسدود. يرجع كثيرون هذا الفشل إلى عوامل سياسية واجتماعية متنوعة، منها طبيعة القوى والأحزاب التي قفزت إلى السلطة أو انتقام ما يدعى بالدولة العميقة (أي رجالات العهد القديم)، بينما يعزو البعض الآخر ذلك إلى المؤامرات الخارجية. غير أنه من اللافت للنظر أن هذه التفسيرات لم تعطِ اهتماما كافيا للسياسة الاقتصادية. لم ينتبه كثيرون إلى أن التغييرات الجذرية في النظام السياسي في تونس ومصر وغيرها لم تترافق مع إصلاحات مماثلة في النظام الاقتصادي. هنا يكمن بحسب تقديري أحد أهم الاختلافات مع تجربة انهيار الأنظمة الاشتراكية في دول شرق أوروبا بعد سقوط جدار برلين في خريف عام 1989. في تلك البلدان سارت عملية القضاء على حكم الحزب الواحد والانتقال نحو التعددية يداً بيد مع تبني نهج اقتصادي جديد يقوم على اقتصاد السوق وتفكيك هيمنة الدولة على الحياة الاقتصادية والانفتاح على الاقتصاد العالمي. ومن دون شك فإن شبه الإجماع الذي حظي به هذا التوجه وسط النخب السياسية الجديدة وعدم ظهور معارضة قوية له ساهما في نجاح تجربة هذه البلدان وفي امتصاص جزء كبير من الصدمات السلبية التي تظهر عادة أثناء عملية الانتقال العسيرة.
على العكس من ذلك تماما لم تبدِ القوى الجديدة بعد الإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي رغبة قوية في تنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية، بل وعمدت إلى إيقاف الخطوات الإصلاحية الحذرة التي شرعت بها الحكومات الاستبدادية السابقة. وبرّرت النخب الجديدة هذه السياسية الانكفائية بأن عدم العدالة في توزيع الفوائد الاقتصادية وحرمان “الجماهير” من ثمار التنمية يقف وراء اندلاع الثورات والاضطرابات العنيفة. صحيح أن سوء الإدارة والفساد ودولة المحسوبيات والتوزيع غير العادل للدخل ساهمت كلها في تأجيج الرأي العام، ولكن استغلال هذا الوضع لإيقاف عجلة الإصلاحات يعني عمليا التخلص من الحسنات بجريرة السيئات في تطبيق للمثل الألماني المعروف “رمي الطفل بعد الحمام مع ماء الغسيل”.
في حقيقة الأمر يعود هذه الموقف المعادي للإصلاحات لعاملين رئيسيين مترابطين فيما بينهما: الأول سياسي والثاني فكري. فمن جهة كانت القوى الفائزة، وفي مقدمتها أحزاب الإسلام السياسي، أحزاب سلطوية بامتياز، بمعنى أن همها الأول هو الاستيلاء على السلطة والتمسك بها مهما كان الثمن، وبالتالي فإنها لن تغامر بأيّ إجراءات، حتى لو كانت ضرورية وغير قابلة للتأجيل، طالما أنها تنطوي على خطر إثارة نقمة الشارع. من جانب آخر يستند الموقف المناهض للإصلاحات الاقتصادية إلى ثقافة ومنظومة فكرية سائدة في العالم العربي، عنوانها الأبرز معاداة الرأسمالية واقتصاد السوق والإيمان بالدولة الريعية، أو بالأحرى دولة الصدقة. هذه الصفة تشترك فيها تقريبا أهم التيارات اليسارية والقومية والإسلامية رغم حالة العداء والمنافسة بينها. ويتجلى هذا الموقف الفكري أيضا في التقليل من شأن الإصلاحات التدريجية، بل واحتقارها مقابل التغني بالتحولات الثورية الراديكالية. ضمن هذه العقلية تندرج مثلا أفكار مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق الذي روج منذ الأربعينات من القرن العشرين بأسلوبه الإنشائي المعروف لما دعاه بالنظرية الانقلابية والتنظيم الانقلابي. ورغم عداء عفلق للشيوعية إلا أنه استلهم هذه الأفكار من مفهوم الحزب الطليعي الثوري في الحركة الشيوعية. فأهم ما يميز هذا الحزب بحسب الأيديولوجية الماركسية-اللينينية السائدة لعقود هو رفض أي توجهات إصلاحية واعتبارها خيانة للقضية البروليتارية. لهذا قرن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان (فهد) الاشتراكية-الديمقراطية بالانتهازية، واعتبر في مقاله المعروف “حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية” أن من أهم واجبات الحزب الثوري هو “ضرورة الانفصال المطلق عن الإصلاحية وسياسة الوسط”.
مثل هذا الموقف الراديكالي ساد أيضا في الجانب الاقتصادي حيث تبنت معظم التيارات الفكرية والسياسية شعارات معاداة الرأسمالية عبر التركيز على فضح مظاهر الاستغلال الرأسمالي والإشارة إلى أزماتها الحقيقية والمفترضة، ليس بهدف إصلاح هذه النواقص، وإنما للترويج لنظام بديل جديد تحت عناوين مختلفة مثل الاقتصاد الاشتراكي أو نظام التخطيط المركزي أو الاشتراكية العربية أو الاقتصاد الإسلامي. بطبيعة الحال مثّل نقد ماركس الشامل للرأسمالية وتفسيرات “تلاميذه” معينا لا ينضب لكل هذه الأيديولوجيات المتباينة. لكن تجليات نقد الرأسمالية في العالم العربي كانت ولا تزال أبعد ما تكون عن نقد ماركس. من جهة عايش كارل ماركس ورفيقه فريدريك أنغلز أعلى مراحل تطور النظام الرأسمالي في تلك الفترة في ألمانيا وإنكلترا ورأيا بأم أعينهما أيضا مظاهر الاستغلال الفاحش للبروليتاريا الصناعية فيما يدعى برأسمالية مانشستر. من جانب آخر لم يكن ماركس يفهم نقد الرأسمالية بالمعنى السلبي الدارج، أي ذم هذا النظام وإظهار مساوئه، وإنما بالدرجة الأولى عرض تناقضاته. من هنا يمكن فهم سبب ميل ماركس لاستخدام مفردة “نقد” في عناوين معظم مؤلفاته، مقلدا بذلك رائد فلسفة التنوير إيمانويل كانط الذي يعود له الفضل في تطوير مفهوم النقد بمعناه الفلسفي.
حتى عندما كتب كارل ماركس قبل 150 عاما البيان الشيوعي كمنشور سياسي وليس كبحث اقتصادي أسهب الفيلسوف في تسليط الضوء على الدور الثوري للرأسمالية، التي هي نفسها “نتاج مسار تطور طويل وسلسلة تحولات في نمط الإنتاج والمواصلات” على حد تعبير ماركس. هنا يؤكد المفكر والثوري على أن “البرجوازية لا يمكن أن توجد بدون تثوير أدوات الإنتاج، أي علاقات الإنتاج، أي مجمل العلاقات الاجتماعية”. ولا يقتصر هذه الفعل الثوري على النطاق المحلي، وإنما يمتد عبر الحدود لأن “البرجوازية من خلال التحسين السريع لجميع أدوات الإنتاج تُقحم حتى أشد الأمم بربرية في الحضارة”، ولكن طبعا الحضارة بحسب مقياسها وعلى صورتها. وعلى الرغم من ترجمة البيان الشيوعي إلى العربية في مراحل مبكرة، إلاّ أن معظم ما تغلغل إلى المنطقة العربية من الأيديولوجية الماركسية يندرج ضمن صيغتها اللينينية والستالينية. فبدلا من التمعن في النظرية الماركسية عن الأزمة الدورية للإنتاج الرأسمالي والتي نظر إليها ماركس نفسه كتصحيح مؤلم للتناقض بين عمليتي الإنتاج والاستهلاك، سادت في العام العربي العقائد الجامدة عن “الأزمة العامة” للنظام الرأسمالي وعن الإمبريالية بصفتها “أعلى” مراحل الرأسمالية.
هكذا بدأ العالم العربي البحث عن بديل للرأسمالية حتى قبل أن تولد وتترعرع فيه وانتشرت التنبؤات بانهيار سريع للنظام الرأسمالي قبل أن تنضج علاقات الإنتاج الخاصة به، وقبل أن تبتلي الجماهير الكادحة بشروره أو تنعم بفوائده. صحيح أن بعض البلدان مثل لبنان وتونس قطعت بعض الأشواط على طريق إقامة اقتصاد سوق متطور، ولكن هذا التطور كان بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة، حيث تبنت معظم البلدان العربية مبدأ التدخل الواسع للدولة واعتمدت أسلوب إصدار الأوامر في إدارة الاقتصاد وحاولت جهدها الالتفاف على آلية السوق. ومع أن القطاع الخاص ظلّ يلعب دورا هاما في الإنتاج والتشغيل، إلاّ أن الجزء الأعظم من هذا النشاط كان يتحقق عبر مشاريع صغيرة عشوائية غير منظمة والتي بقيت بعيدة كل البعد عن الإنتاج الرأسمالي بمعناه الماركسي. ضمن هذه الأجواء السياسية والفكرية لجأت النخب الحاكمة لخنق البوادر الأولى لنشوء قطاع خاص متطور وسط تصفيق حاد من قبل معسكر مناهضي “الاستغلال الرأسمالي”. وتجلى ذلك في قرارات جمال عبدالناصر الاشتراكية في بداية الستينات من القرن العشرين التي قضت بتأميم البنوك والشركات والمصانع الكبرى. وسرعان ما امتدت عدوى التأميم إلى العراق حيث تولى خير الدين حسيب محافظ البنك المركزي والمتحمس للأفكار العروبية في عام 1964 نسخ التجربة المصرية من خلال استيلاء الدولة على المصارف وشركات التأمين ومؤسسات الصناعات التحويلية وتكريس احتكار الدولة للحياة الاقتصادية. مثل هذه التجارب لقيت أيضا تقليدا في دول أخرى مثل الجزائر وسوريا واليمن الجنوبي. ومن المؤكد أن هذه الشعبية الطاغية لنهج التأميم ومحاربة القطاع الخاص لم تأتِ نتيجة الإعجاب بنقد ماركس للرأسمالية، وإنما لقناعة النخب السياسية بأنه بدون هيمنة القطاع العام على الاقتصاد تبقى الدولة الشمولية عرجاء ومعرضة للخطر. ومن اللافت للنظر أن تجارب التأميم بقيت حتى الآن بمنأى من النقد، إلاّ ما ندر، على الرغم من أنها أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على صناعات وقطاعات وطنية مزدهرة كان يمكن أن تصبح لبنة أولية لتنمية لاحقة. في المقابل دُبجت مئات وربما آلاف الدراسات والمقالات والكتب وأًنتجت عشرات الأفلام في “نقد” سياسة الانفتاح لأنور السادات لأنه تجرأ وحاول ذبح البقرة المقدسة، القطاع العام.
لم يكن لسياسات مناهضة اقتصاد السوق أن تمر بسهولة وأن تستمر لفترة طويلة دون الخضوع لنقد حقيقي ولمراجعة جادة، لولا انتشار أجواء مشجعة لذلك ليس فقط على المستوى السياسي وإنما أيضا على المستوى الفكري. فقد تنافس الكتاب اليساريون والقوميون وحتى الإسلاميون في انتقاد مثالب الرأسمالية على المستوى العالمي وأشكال تطبيقاتها المحلية. إحدى النظريات التي لا تزال تجد مؤيدين لها هي العلاقة غير المتكافئة بين مراكز وأطراف النظام الرأسمالي والتي اعتبرت سببا رئيسيا لتخلف العالم الثالث. واستند هؤلاء في البداية إلى حقيقة أن البلدان النامية كانت متخصصة في تصدير السلع الغذائية والمواد الخام التي كانت أسعارها تخضع بالدرجة الأولى لنفوذ الشركات العابرة للحدود. غير أن هذه النظرية لم تتعرّض لنقد جدي حتى بعد أن أصبحت الكثير من البلدان النامية، وبما فيها دول عربية عديدة، تعتمد في تأمين أمنها الغذائي على استيراد الحبوب واللحوم والعلف من بلدان رأسمالية متقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها، ولم يتم التشكيك في صحتها حتى بعد أن لامس سعر النفط حاجز 150 دولارا للبرميل في عام 2008.
تبنت معظم التيارات الفكرية والسياسية شعارات معاداة الرأسمالية عبر التركيز على فضح مظاهر الاستغلال الرأسمالي والإشارة إلى أزماتها الحقيقية والمفترضة، ليس بهدف إصلاح هذه النواقص، وإنما للترويج لنظام بديل جديد تحت عناوين مختلفة مثل الاقتصاد الاشتراكي أو نظام التخطيط المركزي أو الاشتراكية العربية أو الاقتصاد الإسلامي
في هذا المجال لمع اسم المفكر المصري سمير أمين الذي روج منذ الثمانينات من القرن الماضي لنظرية التطور اللامتكافئ، جاعلا منها حجر الأساس في تفسيره لما يحدث في مركز النظام الرأسمالي وأطرافه وللتنبؤ بطريقة تجاوزه. وبناء على هذه الفرضيات المجردة يتوصل أمين إلى أن “الطابع اللامتكافئ للتوسع الرأسمالي قد أنتج شروط انفجار ثوري في أطراف النظام المتخلفة (ومنها العالم العربي) والتي تعاني من حدة التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية” وفي كتابه “ما بعد الرأسمالية المتهالكة” الصادر عام 2003 يرفع أمين التناقض بين المراكز والأطراف إلى مصاف “التناقض الأساسي في النظام الرأسمالي العالمي القائم فعليا”. وبهذا أصبح المفكر اليساري، وبخلاف ماركس، يُعوّل على الأطراف المتخلفة في الانتقال إلى مرحلة “ما بعد الرأسمالية” لأن الطبقة العاملة في البلدان المتقدمة “تخلت عن رسالتها الثورية بعد أن نجح النظام الرأسمالي هناك في استيعاب تناقضاته”. غير أن أمين بقي أمينا لماركس في جانب معين. فكما كان ماركس شحيحا في توضيح سمات الاشتراكية البديل المنتظر للرأسمالية، يحيط أيضا الغموض التام بما يقصده سمير أمين بـ”ما بعد الرأسمالية”. كما أن نقده للنظام الرأسمالي الحالي يتصف بالتجريد والتعميم دون الاستناد إلى تحليل ملموس، فضلا عن بقايا الرومانسية الثورية التي يلجأ إليها عادة معظم نقاد الرأسمالية العرب. ومن الغريب حقا أن يبقى المفكر المصري متحمسا لمشروعه بفكّ الارتباط، أي الانعزال عن الاقتصاد العالمي، على الرغم من أن نجاحات التجربة الصينية، التي طالما مثلت الأساس لفرضياته، تقول عكس ذلك تماما.
من جانب آخر تتجلى أوهام النقد العربي للرأسمالية في المبالغة في التحذير من مخاطر النيوليبرالية في العالم العربي وبطريقة لا تمتّ للواقع بصلة. فأي دعوة للإصلاح ولتطوير اقتصاد السوق تواجه بهراوة “النيوليبرالية” وكأن البلدان العربية وصلت إلى مصاف الاقتصاد الأميركي وبدأت تعاني من الرأسمالية المنفلتة ومن عربدة الأسواق، بينما الواقع يشير إلى أن الاقتصادات العربية ترزح تحت وطأة الهياكل الجامدة وضعف الكفاءة وهيمنة الدولة. هنا يبدو نقد النيوليبرالية غير المطروحة أصلا للعالم العربي أشبه بالتحذير من المبالغة باستهلاك اللحوم في منطقة تعاني من المجاعة لأن الطب أثبت أنه يرفع مستوى الكولسترول.
حتى ممثلو الإسلام السياسي تبنوا دون نقاش مسلمات النقد المُبتذل للرأسمالية السائد في العالم العربي على غرار التبسيط الفج للينين الذي قسّم الماركسية إلى ثلاثة أقسام (الاقتصاد السياسي والفلسفة المادية والاشتراكية العلمية) وأصدر المفكر الإسلامي المعروف والمرجع الفكري لحزب الدعوة الإسلامية الحاكم حاليا في العراق محمد باقر الصدر في ستينيات القرن الماضي مؤلفين، الأول بعنوان “اقتصادنا” والثاني “فلسفتنا”. وفيما رأى الصدر حينها أن الاقتصاد الإسلامي جزء من كل هو الصيغة الإسلامية العامة (المجتمع الإسلامي) وأنه يختلف بالتالي عن الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء، اعتبر الاقتصاد الإسلامي بمثابة القطب الثالث، أي البديل للاثنين.
منذ صدور كتاب المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون “الإسلام والرأسمالية ” في عام 1966 أصبح من المسلّم به تقريبا القول بأن لا تعارض مبدئيا بين الدين الإسلامي وأسلوب الإنتاج الرأسمالي. وكان من الواضح أن عنوان كتاب رودنسون يوحي بأنه يحاول أن يسير على خطى رائد علم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي عرض في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” الصادر في عام 1904 نظريته عن دور أخلاق العمل اللوثرية والكالفينية في نشوء الرأسمالية الحديثة في الغرب تحديدا، بينما عجزت الحضارات الأخرى ومنها الإسلام عن تحقيق هذا الإنجاز.
من دون شك يتضمن القرآن الكثير من التعاليم التي تشجع على التجارة والعمل وتحقيق الأرباح وتحض على الوفاء بالعقود والالتزام بالمعايير الأخلاقية في التعاملات الاقتصادية وتذم الاحتكار. ولكن هل يكفي ذلك للقول بأن الإسلام بصيغتيه المحافظة والراديكالية السائدتين حاليا يمكن أن يوفر الأرضية الثقافية المناسبة لسلوك اقتصادي يتسم بالعقلانية ويضمن الكفاءة في استخدام الموارد الاقتصادية؟ تلعب هنا عملية التراكم دورا حاسما بحسب ماكس فيبر الذي رفع من شأن الادخار واستثمار الأرباح في توسيع المشاريع والمنشآت الإنتاجية تمهيدا لقيام مؤسسات كبيرة تُدار بطريقة عصرية والتي يعتبرها شرطا لتطور اقتصاد السوق وسمة أساسية للرأسمالية الحديثة. لذا يؤكد فيبر بأن الدافع الشخصي للكسب ولتحقيق الأرباح موجود في كل الحضارات بما فيها الإسلام، ولكن القضية بالنسبة إليه “تتعلق بالظروف التي تجعل من هذا الدافع شرعيا وعقلانيا بحيث يخلق كيانات عقلانية كالتي نراها في المشاريع الرأسمالية”.
من الواضح أن التفسير السائد للإسلام حاليا يتخذ موقفا متحفظا من ذلك، وهو ما يتجلى أيضا في تعميم تحريم الربا على الفائدة وذم الادخار (الاكتناز). وهو موقف لا يمكن التهوين من شأنه لأنه ينطوي على رفض الحداثة بحسب رأي فيبر الذي وصف الفائدة بأنها “أرقي شكل للعقلانية الإنسانية”.
ضمن السجال الدائر حول الرأسمالية في العالم العربي يلعب الجدل بخصوص تدخل الدولة في الاقتصاد دورا حاسما. من البديهي أن لا أحد ينفي بأن نجاح عملية التنمية المستدامة يتطلب دولة قوية، بمعنى دولة غير فاشلة وغير فاسدة وقادرة على فرض القانون في كل المجالات وعلى الحد من التشوهات والاختلالات الاجتماعية والبيئية الناجمة عن مظاهر الجشع في جني الأرباح التي يفرزها اقتصاد السوق الحر في أحيان كثيرة. وهذا ما لخصه الاقتصادي المصري المعروف حازم الببلاوي في كتابه “النظام الرأسمالي ومستقبله” الصادر في عام 2011، أي في فترة “الربيع العربي”، عندما قال “اﻗﺘﺼﺎﺩ ﺍﻟﺴﻮﻕ ﺩﻭﻥ ﺩﻭﻟﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﻗﺎﺩﺭﺓ ﻭكفؤة ﻫﻮ ﻛﺴﻴﺎﺭﺓ ﺑﻼ ﻛﻮﺍﺑﺢ في ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻼ ﻋﻼﻣﺎﺕ ﺃﻭ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﻟﻠﻤﺮﻭﺭ”. لكن معظم ناقدي الرأسمالية العرب ما زالوا يرفعون لواء الدفاع عن الدولة بمعناها الشمولي، أي الدولة التي تتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة وتلعب دور رب العمل الأكبر عبر توفير فرص العمل لجيش جرّار من الموظفين الضروريين والوهميين وتحتكر المشاريع الصناعية الكبيرة وتدعم أسعار الوقود والغذاء وغيرها. ومن اللافت للنظر أن هذا الموقف ينسحب أيضا على الدولة الريعية. صحيح أنه هناك إجماع على انتقاد الدولة الريعية منذ أن قام حازم الببلاوي في التسعينات بتطوير هذا المفهوم، إلا أن تجلّيات هذا النقد تختلف كثيرا. فالكثير من الكتّاب اليساريين والقوميين يركّزون على الاعتماد الوحيد الجانب للاقتصاد وميزانية الدولة على مصدر دخل رئيسي يتمثّل في الأغلب في تصدير ثروات طبيعية إلى الخارج ولا ينتجه سوى عدد محدود من المنتجين. وبناء على ذلك فإن القضاء على الظاهرة الريعية يتطلّب بحسب وجهة نظرهم قيام الدولة بتطوير قطاعات إنتاجية أخرى وخاصة الصناعة، الأمر الذي يعني عمليا البقاء في حلقة مفرغة وإعادة إنتاج الدولة الشمولية. في المقابل لا يحظى جانب الإنفاق الحكومي باهتمام كبير على الرغم من أن ظاهرة الدولة الريعية تعني أيضا أن الدولة ليست في حاجة للاعتماد على المواطنين وضرائبهم الأمر الذي لا يمنح الدولة الفرصة للطغيان سياسيا واجتماعيا فحسب، وإنما أيضا القدرة على شراء تأييد فئات واسعة. من الواضح أنّ هذه الدوامة يستحيل الفكاك منها دون اعتماد استراتيجية واضحة لتطوير اقتصاد السوق وبما يسمح أيضا بنشوء طبقة وسطى متنوّرة قادرة على لجم الدولة. بدون ذلك تبقى الديمقراطية حلما بعيد المنال.
بعد نحو سبع سنوات على زلزال الربيع العربي تجد الكثير من الدول العربية نفسها مضطرة للإقدام على سلسلة إصلاحات جدية وغير مسبوقة. غير أن هذا التحول لا يبدو طوعيا، وإن كان ذلك لا يقلل من أهميته. ففي تونس ومصر على سبيل المثال، ورغم التباين الشديد بينهما، أوشك الوضع الجديد على الإفلاس الأمر الذي أجبر النخب الجديدة على مراجعة أسعار الصرف وسياسات دعم الأسعار وقوانين الضرائب والاستثمار وإعادة هيكلية القطاع العام وغيرها من القضايا التي كانت تعتبر على مدى عقود بمثابة أبقار مقدسة لا يجوز المساس بها حتى لو كانت تأكل الأخضر واليابس. تطور مماثل ولكن لأسباب أخرى يُلاحظ أيضا في معظم الدول النفطية ومنها مثلا السعودية والكويت والعراق والجزائر حيث تدفع أسعار النفط المتدنية منذ منتصف عام 2014 نحو تبنّي إصلاحات اقتصادية جديدة.
يصعب حاليا التنبؤ بنتائج التحولات الجارية في المجال الاقتصادي في العالم العربي بعد الخسائر الفادحة الناجمة عن الصراعات العنيفة والانتكاسات التي رافقت “الربيع العربي” ونهاية الفورة النفطية الثالثة، ولكن من المؤكد أن العملية ستسير بسلاسة أكبر لو تم التخلّي عن بعض أوهام النقد المُفتعل للرأسمالية التي لا تزال تجد مناصرين لها من مختلف التيارات السياسية والفكرية. بطبيعة الحال لا يعني ذلك تحريم نقد الرأسمالية، لأنه بدون النقد، وكما أكد ماركس نفسه، لا يوجد تنوير.