النكبة والرواية وتبلور الهوية الوطنية الفلسطينية
اشتغل المتن الروائي العربي، والفلسطيني خاصةً، منذ احتلال فلسطين وقيام الدولة الصهيونية عام 1948، على إنجاز نص سردي متخيل ينطلق من نكبة فلسطين والأحداث المصاحبة لها، من عمليات تطهير عرقي وتهجير قسري وشتات دفع الفلسطينيين إلى جهات الأرض الأربع. وبغض النظر عن مستوى المدونة الروائية، الفلسطينية، وكذلك العربية، التي سعت إلى القبض على لحظة النكبة في الزمان والمكان، أو فيما يسميه ميخائيل باختين “الكرونوتوب الروائي”، فقد استطاعت الرواية العربية، وكذلك الروايات التي كتبها فلسطينيون بلغات أخرى غير العربية، أن تقدم رواية مختلفة عن الرواية الصهيونية لاحتلال فلسطين وقيام الدولة العبرية. صحيح أن الرواية ليست تاريخاً، لكنها سعت إلى تقديم رواية مغايرة، رواية قادرة على سرد الحكاية الحقيقية للاستعمار الصهيوني الكولونيالي الإحلالي. وبهذا المعنى تراكمت لدينا نصوص أساسية يمكن النظر إليها بوصفها المدونة السردية المتخيلة لاحتلال فلسطين ونكبتها التي يمر عليها الآن سبعون عاما.
إن غايتنا هي النظر في المدونة الروائية حول النكبة، لا بوصف تلك المدونة تاريخاً، فلدينا الكثير من المصادر التاريخية التي سعت إلى نقد المدونة التاريخية الصهيونية وتفكيكها، وإثبات زيفها وأغراضها الأيديولوجية الفاقعة والدعائية الكاذبة، بل من أجل تحليل اللحظة السردية التي استطاعت أن تقدم نصوصاً روائية متخيلة حول النكبة. فالأدب، والمدونة السردية بشكل خاص، يمكن أن يقوم بنفسه كرواية مضادة تدفع القارئ إلى اكتشاف ما سعت الرواية الصهيونية إلى ترسيخه في العقول، الأجنبية على الأخص، وقدرة هذه المدونة على تغيير النظرة السائدة حول النكبة. ودور الرواية لا يقل عما أحدثته الكتابات التاريخية الفلسطينية والعربية حول النكبة، والتي سبقت عمل المؤرخين الإسرائيليين الجدد في فضح الرواية الصهيونية للنكبة.
ما قبل النكبة: إعادة بناء فلسطين
تسعى الرواية الفلسطينية، والرواية العربية التي تدور حول القضية الفلسطينية، إلى استعادة فلسطين التي كانت وجرى تدميرها ومحوها عام 1948، وإحلال إسرائيل محلها، من خلال عملية التدمير والاقتلاع الممنهج. وتستخدم الكتابة الروائية المصادر التاريخية، وكتب الرحالة، والوثائق، والشهادات الشخصية للفلسطينيين الذين عاشوا قبل النكبة، والتجارب الشخصية للروائيين أنفسهم، من أجل بناء مادتها السردية التي تعمل من خلال التخييل وابتداع الشخصيات وتصوير الأحداث، على تركيب صور الحياة الفلسطينية التي انقطع تسلسلها وتدفّقها بفعل حدث النكبة. وتعود بعض الأعمال الروائية إلى الفترة التي امتد خلالها حكم العثمانيين للمنطقة العربية، وصولاً إلى فترة السفر برلك وتجنيد الفلسطينيين في الجيش العثماني للمشاركة في الحرب مع القوات التركية في الحرب العالمية الأولى، لتتولى، من خلال عملية التخييل واصطناع الأحداث، وصفَ الحياة الممتدة على أرض فلسطين. وهذا ما نعثر عليه بصفة خاصة في رواية “زمن الخيول البيضاء” لإبراهيم نصرالله التي تغطي مساحة واسعة من الزمن الفلسطيني وصولاً إلى لحظة السقوط وتفرق الفلسطينيين “أيدي سبأ” بتعبير إميل حبيبي. فغاية مشروع إبراهيم نصرالله الروائي في “زمن الخيول البيضاء” هو تقديم سردية مضادة للرواية الصهيونية، التاريخية والتخييلية، حول الوجود الفلسطيني. ولهذا تبدأ سردها من لحظة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث يربض الاحتلال التركي لفلسطين، والمشرق العربي عامة، ويعاني سكان قرية الهادية، التي تبدو في السرد موازيًا لفلسطين، من ظلم العثمانيين وقهرهم، لتنتقل الرواية بعدها إلى زمن الانتداب وصولاً إلى لحظة سقوط فلسطين التي دافع فيها أهالي الهادية عن قريتهم رغم خيانة الزعامات العربية وفشل الزعامات الفلسطينية التقليدية، ومساعدة الإنكليز اليهود للاستيلاء على فلسطين بعد انتهاء الانتداب (يعود نصرالله إلى لحظة سابقة في التاريخ الفلسطيني، إلى نهايات القرن السابع عشر ومعظم القرن الثامن عشر في “قناديل ملك الجليل”).
وتشترك رواية حسن حميد “أنين القصب” مع “زمن الخيول البيضاء” في تصوير الحياة الفلسطينية قبل النكبة، وفي زمن يبدو، رغم سرمديته، أقرب إلى الحياة الفلسطينية في جريانها قبل انفجار الصراع بين العرب واليهود خلال فترة الانتداب البريطاني. الأمر نفسه نعثر عليه في رواية عبدالله تايه “قمر في بيت دراس” التي تبدأ سردها من لحظة انهيار القوات العثمانية على مشارف مدينة غزة، وعودة أحد أبناء قرية بيت دراس، الذي كان جنديًّا في الجيش العثماني، إلى قريته مهزوماً حالماً بالذهاب إلى إسطنبول مع قائده التركي. ويفعل جمال ناجي الشيء نفسه في روايته “غريب النهر” التي تحكي عن عائلة هاجرت من قرية العباسية عام 1948 والتجأت إلى منطقة غور الأردن. لكن الرواية تعود بنا إلى زمن العثمانيين ساردةً حكاية أحد أبناء العائلة الذي ضاع في السفر برلك وعاد أبناؤه باحثين عن جذورهم ووطنهم. أما ليلى الأطرش فتعود في روايتها “ترانيم الغواية” إلى زمن الدولة العثمانية وظهور التوجهات القومية بين مواطني الخلافة العثمانية من العرب، وازدياد بطش القائد التركي جمال باشا السفاح، حيث تقدم صورة فلسطين ما قبل النكبة من خلال سرد تاريخ عائلة مسيحية مقدسية.
تسعى الأعمال الروائية الفلسطينية، التي تبدأ سردها من نقطة سابقة على زمن الانتداب البريطاني، إلى تصوير الحياة الفلسطينية، رغم متاعب الحياة اليومية والصراع مع الدولة العثمانية، في أواخر أيامها، إلى التهيئة لكتابة لحظة الخروج الكبير للفلسطينيين من بلادهم. وتحضر في المتن الروائي عناصر الطبيعة والحياة المستقرة وجريان العادات والتقاليد الممتدة، وارتهان الإنسان الفرد للجماعة، وسيادة نمط من الإقطاع الزراعي الذي يتفاوت وصفه في الروايات ما بين نمط الإقطاع الذي يمتلك أجساد الفلاحين وقوة عملهم، والإقطاع الذي يقوم على حيازة ملكية الأرض دون ظلم الفلاحين الذين يعملون عليها (كما يروي أنور حامد في روايته “يافا تعد قهوة الصباح”). وبغض النظر عن المواقف الأيديولوجية التي تتخذها الأعمال الروائية المكتوبة عن مرحلة ما قبل النكبة، أو التي تفتتح روايتها بوصف الزمن الممتد الواسع، أو القصير، الذي يسبقها، فقد حرصت على بناء مشهد فردوسي للحياة الفلسطينية، أو على الأقل مشهدٍ تجري فيه الحياة في زمن لا تقطعه سوى عثرات الحياة اليومية المعتادة.
الفردوس الفلسطيني
تشترك معظم السردية الروائية الفلسطينية في تقديم مشهد الحياة المستقرة، وحياة ما قبل العاصفة، أو الفردوس أو الجنة الفلسطينية، من خلال بناء عالم يُستقى بعضه من المادة التاريخية المتوافرة، بأشكالها المختلفة، من كتابات تاريخية ومذكرات الرحالة وسير الأفراد الفلسطينيين والأجانب الذين عاشوا في تلك الفترة، حيث يسعى الروائيون إلى تصوير مأساة الخروج والشتات والدفع العنيف باتجاه المنفى. هكذا تبدو الحياة، رغم متاعبها اليومية وصراعاتها وهزائمها الفردية، في نصوص تعيد بناء الحياة الفلسطينية قبل صدور وعد بلفور وحلول الانتداب البريطاني محل الدولة العثمانية الراحلة. إنها الحياة الطبيعية التي يحياها البشر في أوطانهم التي عاش فيها أجدادهم منذ مئات السنوات وزاولوا فيها أعمالهم اليومية التي قاموا بها على مدار الزمان. ولا يختلف الفلسطينيون، الذين اقتلعوا من أرضهم، عن غيرهم من البشر في هذا، ولهذا تسعى الكتابة الروائية إلى تأثيث معمارها الفني بالشخصيات والأحداث اليومية، بما ينسجم مع المادة التاريخية المكتوبة أو الشفوية المروية على لسان الفلسطينيين الذين عاشوا في تلك المراحل التاريخية التي سبقت النكبة. وقد استطاعت الرواية الفلسطينية، وبعض الروايات العربية المكتوبة عن فلسطين، أن تستعيد الحياة المتدفقة في مدن فلسطين وقراها، في سردية مضادة للمقولة الصهيونية التي تتحدث عن “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
ويمكن أن نعثر في هذه المرحلة على الحضور الكثيف لرمزية الخيل في عدد كبير من النصوص الروائية الفلسطينية، بدءاً من غسان كنفاني، في روايته غير المكتملة “العاشق”، وصولاً إلى روايات يحيى يخلف ورشاد أبوشاور وحسن حميد وإبراهيم نصر الله وسوزان أبوالهوى. ففي معظم هذه الروايات يفسح الروائيون حيزاً واسعاً للحديث عن الخيل وبناء علاقة حميمية بين الفرس وفارسها، لتصوير المشهد الفردوسي الذي ينقطع بشدة وقسوة عندما يموت الفارس أو تموت الفرس أو يتشرد الفارس وتبقى الفرس في الأرض المتروكة. فيحيى يخلف في روايته “بحيرة وراء الريح” يبني سرديته للنكبة ومشهد الخروج على الفرس وما تعنيه بالنسبة إلى فارسها الفلسطيني، كما أن موت الفرس قبل اندلاع القتال بين أهل سمخ والعصابات الصهيونية يمثل نذير شؤم في الرواية. وفي المقابل فإن لحاق الفرس بصاحبها بعد الرحيل يمثل إشارة لبزوغ المقاومة في صفوف الفلسطينيين المشردين في المستقبل. وقد عمل إبراهيم نصرالله في “زمن الخيول البيضاء” على وضع الفرس في بؤرة المشهد الروائي، بادئاً المشهد الأول من عمله بفرس مسروقة تعدو بسارقها وصولاً إلى قرية الهادية، وكأنها تستجير بسكان القرية من السارق. ويمكن أن يوحي اسم “الهادية” بالزمن الفردوسي قبل تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما أن مشهد الفرس الجريحة المسروقة وهي تعدو نحو القرية تمثل إلماعة إلى سرقة فلسطين في قادم الأيام.
زمن الصراع مع الانتداب البريطاني
تسجل رواية النكبة زمن الصراع مع الانتداب بعد حلول القوات البريطانية محل العثمانيين في فلسطين. ونعثر في روايتي سحر خليفة “أصل وفصل” و”حبّي الأول” وإبراهيم نصرالله “زمن الخيول البيضاء” وعبدالله تايه “قمر على بيت دراس”، على سبيل المثال لا الحصر، على تصوير لفترة الانتقال من زمن احتلال إلى زمن احتلال آخر. لكن الصراع مع الانتداب البريطاني وتصوير الهبّات الفلسطينية بدءاً من عام 1917، الذي أصدر فيه اللورد بلفور وعده بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وكذلك ثورة 1936، وما بعدها من صدامات قامت بين الفلسطينيين من جهة والقوات البريطانية والعصابات الصهيونية من جهة أخرى، حاضرٌ بقوة في رواية النكبة، فهو العصب الرئيسي للمادة السردية في روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإبراهيم نصرالله وسحر خليفة ويحيى يخلف ورشاد أبوشاور وفيصل حوراني، من بين روائيين آخرين. فالصراع مع الانتداب هو في وجهه الآخر صراع مع المشروع الصهيوني الذي كان يتهيأ للاستيلاء على فلسطين وتهجير أهلها وإحلال المهاجرين اليهود من أوروبا ومناطق أخرى من العالم محل السكان الفلسطينيين الذين عاشوا على أرضهم منذ آلاف السنوات.
ويسعى المتن الروائي إلى استعادة الانتفاضات ضد الاحتلال البريطاني، وبصورة خاصة ثورة 1936، لإيجاد تسلسل وتفسير تاريخي لهزيمة 1948. ولتحقيق هذا الغرض تدرج تلك الروايات عدداً من الشخصيات التاريخية الواقعية في صلب نسيجها الروائي أحياناُ، أو أن شخوص تلك الروايات تشير في سردها وحواراتها إلى تلك الشخصيات التاريخية. فعبدالرحيم الحاج محمد والشيخ عزالدين القسام وفوزي القاوقجي والحاج أمين الحسيني وعبدالقادر الحسيني هم شخصيات روائية في الأعمال الروائية المكتوبة عن النكبة. إن سحر خليفة تكرس في روايتيها “أصل وفصل” و”حبي الأول” مساحة واسعة لثورة 1936 والنضال ضد قوات الانتداب والعصابات الصهيونية عام 1939، كما تروي معارك عبدالقادر الحسيني ضد الانتداب واليهود، مكرسةً مساحة واسعة في السرد لمعركة القسطل، واستشهاد القائد الفلسطيني، وسقوط الجزء الغربي من مدينة القدس.
وفي “موفيولا” لتيسير خلف يتابع الروائي رحلات الحاج أمين الحسيني إلى ألمانيا وإيطاليا طلباً للدعم من هتلر وموسوليني، ومن ثمَّ رحيله إلى القاهرة وليبيا بعد سقوط فلسطين، معتمداً في سرده على مواد وثائقية وأرشيفات شخصية وعامة. كما أننا نعثر على ذكر لتلك الشخصيات التاريخية في متن السرد الروائي في معظم الروايات الفلسطينية التي كتبت عن النكبة وسقوط فلسطين، كنوع من الربط الذي يجريه الروائي بين المادة التاريخية المتوافرة وسرده الروائي التخييلي. ويفرد الروائيون مساحة واسعة من السرد لتصوير مشهد ما قبل السقوط من خلال المعارك التي دارت بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية التي تميزت بالتنظيم والتخطيط الدقيقين وكثافة التسليح. إننا نعثر في روايات النكبة على وصف لمعارك حقيقية دارت بين الفلسطينيين والانتداب البريطاني والعصابات والتشكيلات العسكرية الصهيونية، كما في روايتي سحر خليفة “أصل وفصل”، التي تصور ثورة 1936، و”حبي الأول” التي تسجل المعارك التي دارت بين ثوار 1936 وكذلك معارك عبدالقادر الحسيني التي خاضها لمنع سقوط القدس في أيدي اليهود.
ثمة بالطبع إدراج للوقائع التاريخية في المتن الروائي، واصطناع لمادة تخييلية حول أحداث النكبة. وتتبادل هاتان المادتان الحضور، أحياناً، والتلازم في أحيان أخرى. وهناك عدد من الروايات المبنية على مادة شفوية مروية، أو أنها مستلَّة من ذاكرة الروائي نفسه الذي عايش أحداث السقوط وما قبله. فإذا كانت روايتا “أصل وفصل” و”حبي الأول” تعتمدان مذكرات ويوميات كتبها أكرم زعيتر ومحمد عزت دروزة وخليل السكاكيني وقاسم الريماوي (وقد كان الأخير سكرتير “الجهاد المقدس” ورفيق عبدالقادر الحسيني في معاركه ضد الاحتلال البريطاني وفي المعارك التي خاضها ضد العصابات الصهيونية)، فإن الروايات الأخرى تستخدم المعايشة الشخصية والذكريات المكتوبة أو المروية حول المعارك التي حدثت، أو أنها تسعى إلى تقديم عالم تخييلي يحاكي المادة التاريخية لكنه يعيد بناء الأمكنة والأزمنة ويؤثثها بالشخصيات التي تخدم رؤيته ومنظوره للتراجيديا الفلسطينية، لكي نتعرَّف إلى الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.
الخروج من الفردوس: مشهد السقوط والذهاب إلى المنفى
تركز روايات النكبة على تصوير لحظة السقوط من خلال إعادة بناء مشهد الصراع الذي سبق سقوط فلسطين. ويسعى كل روائي من جانبه إلى تأثيث اللحظات الأخيرة من مشهد ما قبل السقوط بالشخصيات والأحداث، المأخوذة من السرد التاريخي وذكريات الأشخاص الذين عايشوا تلك اللحظة، بمن فيهم الروائيون أنفسهم، والتخييل الروائي واصطناع الشخصيات، لتقديم سرد متماسك حول لحظة السقوط وخروج مئات آلاف الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة التي تحيط بفلسطين. وتواصل أجيال من الروائيين الفلسطينيين كتابة حكايات جديدة للخروج الفلسطيني بوصفه اللحظة المؤسسة للوعي الذي بنيت عليه، فيما بعد، لحظة المقاومة وانبعاث الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ثمة سرد يصف المعارك التي دارت والبطولات الفردية والجماعية التي تحققت رغم ضعف التسليح وتخلي الإخوة والتآمر البريطاني وتنظيم العصابات الصهيونية التي تحولت قبل سنوات قليلة من النكبة إلى جيش كلاسيكي حديث استطاع إيقاع الهزيمة بالفلسطينيين الذين خدعتهم القيادات العربية، وقياداتهم الفلسطينية التقليدية المتصارعة وغير المنظمة، فأوقفت ثورتهم عام 1936 و1939، لتعبّد الطريق للسقوط الكبير عام 1948.
تبني روايات النكبة مشهد الخروج التراجيدي من فلسطين في مواضع ومواقع جغرافية مختلفة من فلسطين، وباتجاه بلدات ومدن فلسطينية من أرض فلسطين التاريخية، أو في اتجاه شرق الأردن أو سوريا أو لبنان، أو العراق، راسمةً حدود تفكك الحياة الفلسطينية وتبعثر المواطنين الفلسطينيين إلى جهات الأرض، واللجوء والشتات اللذين لم يعنيا فقط محو فلسطين عن الخريطة بل انهيار حيوات البشر، وموتهم، وتشردهم وفقدانهم أملاكهم، وانقطاع سلسلة حياتهم، واضطرارهم إلى العيش في خيام يتسولون لقمة عيشهم من وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، والمساعدات التي يقدمها المحسنون والدول والجمعيات الخيرية. فروايات جبرا إبراهيم جبرا “صيادون في شارع ضيق”، و”السفينة”، و”البحث عن وليد مسعود”، تستعيد في بعض فصولها ملامح الخروج من القدس الغربية، وروايتا يحيى يخلف “بحيرة وراء الريح” و”ماء السماء” تسجّلان الخروج من سمخ ومنطقة طبرية. أما رضوى عاشور في روايتها “الطنطورية” فتستعيد مذبحة الطنطورة والخروج من حيفا، ويسجل رشاد أبوشاور الخروج من قريتي ذكرين وتل الصافي في “أيام الحب والموت”، ويسجل عبدالله تايه في “قمر في بيت دراس” وسوزان أبو الهوى في “الأزرق بين السماء والماء” الخروج من بيت دراس واللجوء إلى غزة، وتستعيد سوزان أبوالهوى حكاية الخروج من قرية عين حوض وطرد سكانها في “بينما ينام العالم”، فيما تحكي ليلاس طه الخروج من القدس في روايتها “اللوز المر”، ويصف عاطف أبوسيف مشهد سقوط يافا في روايته “الحاجة كريستينا”، كما يحكي ربعي المدهون عن الرحيل الإشكالي لبطلته الفلسطينية الأرمنية من عكا، من بين أعمال أخرى كتبها فلسطينيون وعرب.
لكن هذه الروايات لا تقفل المشهد على الخروج والشتات الأبدي، اللذين لا يمكن عكسهما، بل تفتح المشهد على أمل العودة والمقاومة، لأنها، في معظمها، مكتوبة انطلاقاً من رؤية أيديولوجية مقاومة، وفي زمن ينتمي بصورة عامة إلى ولادة المشروع الوطني، أي زمن ولادة الهوية الفلسطينية المعاصرة من خلال تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965. من رحم هذه المرحلة التاريخية ولدت معظم الروايات الفلسطينية، وكتبت بدءاً من تلك اللحظة كنوع من مراجعة سردية لما حدث. وبغض النظر عن المعالجات المختلفة للنكبة وسقوط فلسطين، فإن صورة النكبة هي الوجه الآخر لصورة تبلور الهوية الفلسطينية، فالنكبة، كما تتمرأى في السرد، وفي الإبداع الفلسطيني عامة، هي الوجه الآخر لولادة فلسطين أخرى، لا فلسطين العثمانية، أو الانتدابية، بل فلسطين بوصفها هوية وطنية مقاومة. نعثر على هذه الرؤية في روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإلياس خوري ورضوى عاشور ويحيى يخلف ورشاد أبوشاور وفيصل حوراني وحسن حميد ونبيل خوري وسحر خليفة وإبراهيم نصرالله، من بين روائيين آخرين.
الرد على سؤال النكبة
1- غسان كنفاني وبناء الهوية الوطنية الفلسطينية
تكشف أعمال غسان كنفاني الروائية عن رؤيته للهوية الفلسطينية، وكيفية ابتعاث هذه الهوية مجدداً، وبنائها كهوية حديثة معاصرة قادرة على مواجهة الهوية الأخرى (أقصد الهوية الصهيونية) التي استطاعت، من خلال الانتماء إلى أزمنة الحداثة الأوروبية، الحلول محل الهوية الفلسطينية. ينظر غسان إلى الهوية الفلسطينية بوصفها هوية قادرة على تقديم نفسها كمثال للمقاومة الإنسانية رفيعة المستوى.
إن سؤال الوجود والهوية يُشكّل قلب عمل غسان كنفاني الروائي. رواياته، بما تتمتع به من طاقة تجريبية لافتة وبحث في الغنى النوعي للأشكال وقدرة على تجسيد الأفكار والتجارب، تعدُّ تعبيراً خلاقاً عن الحلم الفلسطيني وابتكار الهوية. ويستطيع القارئ أن يلاحظ كيف أن تجربة غسان الروائية مرت بتحولات جذرية خلال الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها، وكيف أن هذه التجربة، المدهشة في غزارة الإنتاج والتنويع على الأدوات والتقنيات والأشكال، استطاعت أن ترسم التحولات التاريخية في التجربة الفلسطينية والطموحات والأتواق التي انطوى عليها الأفراد الفلسطينيون الذين رسمهم غسان في أعماله بريشة قلقة.
يركز غسان، منذ “رجال في الشمس” (1963)، على الإشكاليات المصيرية التي صنعت معنى الوجود الفلسطيني، على ما يقيم في جوهر تجربة الفلسطينيين. لقد تنبه إلى رسم المشهد الفلسطيني الواسع من خلال اختيار الشخصيات وإخضاعها لعملية تَفَحُّص تفضي في النهاية إلى تشكيل المعنى الذي يحاول الروائي إيصاله إلى القارئ: أي القول إن التجارب الفردية للفلسطينيين محكومةٌ مسبقا بواقع الفلسطينيين كشعب استؤصل من أرضه وأصبح مستحيلاً على أفراده أن يعيشوا وتتطور حياتهم بمعزل عن اختراق التجربة العامة وتأثيرها المسبق على لحظات عيشهم. ويمكن أن نلحظ التنوع الشكلي في روايات غسان وتطور تجربته من الشكل، الذي تأثر برواية “الصخب والعنف” للروائي الأميركي الجنوبي وليم فوكنر، في “ما تبقى لكم” (1966)، عبر تعدد الرواة وجعل الأرض شخصيةً محورية من شخصيات الرواية، إلى رواية الفكرة التي تستخدم الشخصيات بوصفها وسائلَ سردية لإيصال فكرة محورية معينة.
على أرضية هذا الفهم تلتقي “رجال في الشمس” مع مجمل أعماله القصصية والمسرحية حيث يكشف الفلسطيني عن وجهه الإنساني ويعيد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية على نفسه: أسئلة الولادة والموت، والعلاقة بالأرض، والرحلة والمصير المُعلَّق على “جسر الأبد” (عنوان واحدة من مسرحياته). إن رواياته تهتم بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت. ولعل انشغال غسان بالعثور على أجوبة لأسئلته المؤرّقة حول فلسطين دفعه إلى تعميق أسئلته لتصبح سؤال الإنسان المقتلع المنفي المغترب عن شرطه الوجودي، ما جعل عدداً من رواياته صالحة لتكون ذات صبغة إنسانية خالصة، كونية الهوية بسبب الشُحنة الوجودية العميقة التي تنطوي عليها الشخصيات والأحداث. يعود ذلك إلى كون غسان، مثله مثل محمود درويش، يدرك أن الحكاية الفلسطينية هي من بين الحكايات الكبرى والتراجيديات المعقدة التي تصلح أن نفسر على خلفيتها معنى صراع البشر على الأرض والتاريخ. لقد عمل على كتابة هذه الحكاية بصورة تضعها في سُدَّة هذه الحكايات الكبرى. ومن هنا تبدو روايته، التي تهز قارئها من الداخل، أعني “رجال في الشمس”، بمثابة جَدْلٍ مركَّب للأسئلة الفلسطينية والأسئلة الوجودية، ذات الأعماق الإغريقية، التي تتعلَّق بلا جدوى الفعل البشري وسخرية القدر في اللحظات المصيرية المعقدة. إن غسان يكتب واحداً من أعماله الرئيسية الأساسية وهو يرى حركة التحرر الوطني الفلسطينية وقد بدأت تتراءى في الأفق، ولذلك يسأل أبوالخيزران “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟”. لكنه يبني عمله الروائي بطريقة تضع هذا السؤال المُدوّي، الذي يحمل نبرة اتهام قصوى للذات والآخرين، في تقاطع مع ثقل المصير، وضغط المأساة، وحضورها القوي الذي يلغي مفاعيل السؤال الذي سأله أبوالخيزران. لم يكن غسان، بحدسه القوي وذكائه النادر ككاتب ومثقف، راغباً في التبشير فقط ببزوغ الحركة الوطنية الفلسطينية من رحم التاريخ ثانيةً، بل كان يهدف من “رجال في الشمس” إلى كتابة التراجيديا الفلسطينية بصورة تجعلها قادرةً على الالتحام مع تراجيديات أخرى في التاريخ يتراءى فيها المصير المعقد للأفراد والشعوب.
يحوّل غسان كنفاني رواياته إلى أُمثولات، إلى حكايات رمزية تضيء نفسها فيما هي قادرة على إضاءة حكايات الآخرين. بهذا المعنى فإن في الإمكان النظر إلى رواية “ما تبقى لكم” لا بوصفها روايةً عن مصير الفلسطيني ورحلته التي قرر فيها أن يأخذ مصيره بيديه ويجابه عدوه فقط، بل بوصفها روايةَ تحدي الإنسان للشروط المُذِلّة المفروضة عليه. وهو يواصل في “أم سعد” (1969) و”عائد إلى حيفا” (1969)، والروايات غير المكتملة مثل “العاشق” و”الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”، تحت ضغط الشرط التاريخي، بحث سؤال الوجود الفلسطيني في ضوء الشروط الإبداعية نفسها: وضع فلسطين تحت مجهر الوجود الإنساني المعقد، وعدم الانزلاق إلى التعبير المبسَّط الشِعاريّ عن قضيتها الكبرى.
في “عائد إلى حيفا” ثمَّة بحث في معنى الهوية والمصير والانتماء، وأثر شروط العيش اليومي في تشكيل القناعات وقرارات البشر في أن يكونوا أو لا يكونوا. تقول “عائد إلى حيفا”: ليس الدم هو الرابط الوحيد بين الفلسطينيين بل الفعل والانتماء إلى الأسئلة المصيرية نفسها. إن غسان يستشرف أسئلة التحرر الوطني الفلسطيني ويعيد تركيب الهوية الفلسطينية من خلال المواجهة التي تقوم بين الأب الفلسطيني والابن الذي أصبح يهودياً بالتربية والتبني. هكذا يواجه الفلسطيني صورته المنقسمة، بل المشروخة، في مرآة الصراع المعقدة، ويقرر في النهاية أن يقاوم دون المضيّ في مفاوضة عقيمة.
2- إلياس خوري في “باب الشمس”: العودة الرمزية إلى فلسطين
تقوم رواية “باب الشمس” على واحدة من حكايات المتسللين الفلسطينيين، الذين كانوا يحاولون العودة إلى فلسطين بعد ضياعها عام 1948. فقد شاعت في بداية الخمسينات ظاهرة العائدين خفية إلى وطنهم بعد الطرد الأول. أعداد كبيرة ممن سئموا أيام المنفى الأولى كانوا يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة وخطر الموت لكي يعودوا إلى قراهم المهدمة وبيوتهم التي سكنها آخرون، يهود وعرب، ليعودوا ويطردوا مرة أخرى أو يقتلوا على الحدود بين “إسرائيل” والدول العربية المحيطة. لكن حكاية رجل المقاومة المتسلل يونس الأسدي تتحول في الرواية إلى حكاية عشق ورمز صمود، وشكل من أشكال المقاومة الديموغرافية للوجود الصهيوني. وهكذا وعلى مدار ثلاثين عاما، وأكثر، يذرع الأسدي الجبال والوديان بين لبنان والجليل الفلسطيني ليلتقي زوجته نبيلة في مغارة سماها “باب الشمس” وينجب من زوجته عددا كبيرا من الأولاد والبنات، مبقياً صلة الوصل بين الفلسطيني اللاجئ والباقين على أرضهم. وإذ يحول إلياس خوري حكاية المتسلل إلى نموذج تاريخي، ثم يقوم بتصعيد هذه الحكاية لتكون مثالا ورمزا، تحضر الحكايات الأخرى التي يرويها الراوي (د. خليل) عن جدته وأبيه وأمه وعشيقته شمس، أو يرويها على لسان الآخرين ممن صادفهم أو سمع عنهم من الفلسطينيين، لتعود الحكاية الرمزية من ثمّ إلى أرضها الواقعية وزمانها الراهن.
تتجاذب رواية إلياس خوري قوتان: قوة الترميز التاريخي من خلال حكاية أبي سالم الأسدي وزوجته نبيلة، وقوة الحكايات اليومية الأخرى التي تشدنا إلى فجائعية الواقع ومأساته وعنف التاريخ الذي كتب حكاية الفلسطينيين بحروف من دم. ومن هنا يتجادل التاريخي مع اليومي في عمل روائي يكثر من ذكر كلمة التاريخ على لسان الراوي الذي تتصفى من خلاله كل الحكايات.
* “الوهم يعطينا شعوراً بأن الحي يرث حيوات كل الآخرين. لذلك اخترعوا التاريخ. أنا لست مثقفاً، لكني أعرف أن التاريخ خدعة كي يتوهم الإنسان أنه عاش منذ البداية، وأنه وريث الموتى” (ص: 25).
* “هذا هو التاريخ، ستقول لي. لكني لم أعد معنيّاً بالتاريخ، حكايتي معك يا سيدي ليست محاولة لاستعادة التاريخ” (ص: 310).
يحاول الراوي، الذي يستخدم دواء الحكاية ليوقظ يونس الأسدي من نومه الذاهب في اتجاه أرض الموت، أرض “الأبدية البيضاء” بتعبير محمود درويش في قصيدته “جدارية”، أن يسائل مفهوم التاريخ عن تراجيديا الفلسطينيين المستمرة بسرد قصص لا تحصى عن الخروج الكبير عام 1948، وعن حكايات اللاجئين خارج أرضهم، وعن ضحايا المجازر أثناء الخروج وبعده. وهكذا تطلع الحكايات المأساوية بعضها من بعض في عمل روائي يهدف إلى إخبارنا عن عسف التاريخ وقسوته وعنفه وتنكيله بضحاياه. وعلى الرغم من تشديد الراوي على وهم التاريخ فإن الوقائع التي يسردها، والقصص الصغيرة التي يضمّنها حكاية يونس الأسدي، وتتوزع فصولها بين قصص الآخرين، تعيدنا على الدوام إلى ملموسية التاريخ وحضوره الضاغط في رواية “باب الشمس”. إنها إذن رواية عن التاريخ، عن استعادته ومحاولة قراءته من خلال سرد القصص التي تحتشد في هذا العمل لتفيض من بين ثنايا الكلمات، وتعيدنا إلى كتاب التاريخ نفسه الذي استعان به إلياس خوري كثيرا لكتابة “باب الشمس”.
لقد وظف الكاتب الوقائع التي أوردتها كتب التاريخ والوثائق والحكايات التي سمعها من أفواه الفلسطينيين، الذين كانوا ضحايا التاريخ، ليدعم حكايته الرئيسية عن يونس الأسدي، العائد الذي عاد إلى فلسطين ولم يعد، ولكنه استطاع أن يحضر من خلال زوجته وأبنائه الذين أنجبهم منها في رحلاته من لبنان إلى مغارة باب الشمس. وبهذا المعنى تتحول حكاية يونس الأسدي، التي لا تعدو أن تكون مجرد حكاية من بين حكايات كثيرة عن المتسللين الفلسطينيين، إلى حكاية رمزية عن البقاء والصمود رغم المجازر والمذابح التي ارتكبتها الصهيونية بحق الفلسطينيين. إنها تعبير رمزي، محايث للتاريخ ومتجاوز له في آن، عن بقاء أكثر من ربع مليون فلسطيني بعد نكبة 1948 على أرضهم، وتناسلهم ليصبحوا مليونا وأكثر بعد ما يزيد على نصف قرن من الزمان. فهل قصد إلياس خوري إلى التشديد على الصراع التاريخي، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي يرتكز بصورة أساسية على المسألة الديموغرافية؟
لا تحاول الرواية، في مادتها السردية الكثيفة، أن تقدم إجابات على سؤال التاريخ ونهاياته، ولا تسعى إلى فتح صفحتها الأخيرة على أفق المستقبل الذي يبدو غائما ملبداً بالشكوك زمن كتابة الرواية، بل إنها تسعى، على النقيض من ذلك، إلى تذويب سؤال التاريخ في ثنايا الحكايات. إنها مشغولة بفهم التاريخ، بإيجاد تفسير لما حدث من قبل، ويحدث الآن، عبر استعادة الحكايات، جميع أنواع الحكايات التي يسردها الراوي على مسامع يونس الذي لا يسمع في غيبوبته التي طالت وقادته إلى أرض الموت في نهاية الحكاية. لكن هذه الحكايات لا تسعف الراوي في إدراك ما حدث والتوصل إلى أسبابه. بهذا المعنى تبقى الحكايات مجرد بقع على جسد التاريخ لا تفسّره ولا تجعل الراوي يدرك معنى الهزائم، وتراجيديا عيش الفلسطينيين المستمرة. ويمكن أن نؤول كلامه التالي الموجه إلى يونس، الغارق في غيبوبته، في هذا السياق:
“أنا لم أكن مهتمّاً بالحكاية، أنت تعتقد أنني بحثت وسألت كي أجمع حكايات الغابسية، وهذا غير صحيح يا سيدي، الحكايات جاءتني دون أن أسعى إليها، جدتي كانت تغرقني بالحكايات، كأنها لم تكن تفعل شيئاً سوى الكلام. وأنا معها أتثاءب وأنام، والحكايات تطمرني. أشعر الآن أنني أزيح الحكايات من حولي كي أرى، فلا أرى سوى البقع، كأن حكايات تلك المرأة تشبه البقع الملونة التي تطفو حولي. لا أعرف قصة كاملة” (ص: 348).
يمثّل الكلام السابق تعبيراً مختزلاً شديد الإيجاز عن الرواية كلها. إنها في الحقيقة طوفان من الحكايات التي تتقاطع فيما بينها لتقدم صورة غير مباشرة لتاريخ الفلسطينيين بعد النكبة. صحيح أن إلياس خوري يختار أبناء الجليل ليقدم حكاياتهم، لقرب الجليل الفلسطيني من لبنان وتشابه اللهجات فيما بين أهل الجليل والشعب اللبناني، إلا أن سلسلة الحكايات التي يرويها الراوي، على لسانه أو من خلال إتاحته الفرصة لعدد من الشخصيات الثانوية لتروي قصصها الشخصية، هي عينات تمثيلية من الحكاية الكبرى للفلسطينيين. هكذا سقطت فلسطين وتشرد أهلها، تقول “باب الشمس” من خلال قصص يرويها الراوي وشخصياته التي يروي عنها ولها، وهذه هي التراجيديا الفلسطينية التي يمثلها اللاعبون الفعليون على أرض المأساة وفي زمانها الواقعي. ومن هنا يبدو التاريخ، الذي يصفه الراوي خليل بأنه مجرد وهم، أكثر ملموسية وخشونة. إن الحكايات هي التاريخ الفعلي، وحاصل جمع هذه الحكايات الصغيرة يساوي الحكاية الكبرى للجوء والهزيمة والموت.
ثمة موت كثير في رواية إلياس خوري ما يطبعها بسوداوية غامرة يصعب نسيانها. ومن هنا عظمتها وقدرتها على إعادة النظر في تاريخ المأساة الفلسطينية من وجهة نظر الحاضر الملعون المفتوح على زمان غامض ومجهول. وقد ساق الكاتب وصفا لعمليات الإعدام الجماعي التي نفذتها العصابات الصهيونية عام 1948 بحق أهالي بعض القرى الجليلية، ليصل إلى الموت التراجيدي لآلاف الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا على أيدي الجيش الإسرائيلي وقوات الكتائب. إن “باب الشمس”، على قدر ما هي رواية الحياة والصمود في وجه الموت، هي رواية الموت المجسد الذي يزلزل كيان القارئ ويدفعه إلى استذكار الطقس العنيف للموت الفلسطيني. ثمة موت يذكّر بالموت، ومجازر تتبعها مجازر، رغم الأمل الذي يمثله إصرار يونس الأسدي على نهب المسافات وعبور الخطر للوصول إلى زوجته نهيلة وإنجاب عدد كبير من الأبناء والبنات، لتحقيق طقس التواصل بين الفلسطينيين على أرضهم وفي شتاتهم. لكن إلياس خوري، إذ يشدد على أسطورية علاقة يونس بنهيلة وطقسية التواصل الروحي والجسدي بينهما، يخلّص روايته من لغة الشعار السياسي. إن نبرة “باب الشمس” خفيضة ومنكسرة، فهي تحكي عن الهزيمة وانسداد الأفق، عن صعود المشروع الصهيوني ودخول المشروع الفلسطيني في نوبة من السبات؛ ولهذا فهي تنتهي، رغم إصرار خليل على انتشال يونس من غيبوبته، بالموت.
3- إميل حبيبي: الفلسطيني وحيلة العيش تحت علم الدولة الجديدة
يعمل إميل حبيبي على توجيه القارئ إلى أصل الحكاية، إلى معنى التراجيديا الفلسطينية وصراع البقاء الذي خاضته الأقلية الفلسطينية التي بقيت متشبثة بالأرض والوطن بعد كارثة 1948. ويوفر شكل نصه الروائي المبعثر المشتت، الذي يفتقد مركزا وبؤرة محددين، متسعاً لسرد حكايات كثيرة. وتعيد هذه الحكايات، التي يتناسل بعضها من بعض، تأويل الحكاية الفلسطينية مرة بعد مرة في نوع من السرد العنقودي الذي يتراكب بعضه فوق بعضٍ طبقات.
في “سداسية الأيام الستة” يحكي الراوي ست حكايات تدور جميعها حول عودة الفلسطيني إلى بعض من أهله من خلال واقعة الهزيمة عام 1967. إنها عودة معكوسة تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة وتعليقاً موارباً على التراجيكوميديا الفلسطينية. وتمثل حكاية الطفل مسعود، الذي كان والده من العرب الباقين وأعمامه من العرب المشردين، الحكاية المفتاح التي تكشف عن عمق هذه المفارقة الساخرة. إن الطفل الذي يظن، هو وأبناء حارته، أنه مقطوع من شجرة بلا أعمام أو أخوال، يكتشف بعد الهزيمة أن له أعماماً وأبناء أعمام، فيتيه على أقرانه بعمه وأبناء عمه الذين اكتشف وجودهم بعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية. لقد أضفى هذا الاكتشاف على حياته معنى جديداً، ولكنه وضعه في الوقت نفسه في مأزق لن يجد له حلاً؛ إذ أنه يؤمن، بتأثير الأفكار السياسية التي تحملها أخته، بضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها، ولكن ذلك سيعيده إلى حالته الأولى: مقطوعاً من شجرة لا عمّ ولا ابن عم.
ينسج إميل حبيبي على بؤرة هذه الحكاية، التي تبدأ بأغنية فيروزية: (لماذا نحن يا أبتي/لماذا نحن أغراب؟/ أليس لنا بهذا الكون/أصحاب وأحباب)، خمس حكايات أخرى عن العودة المقلوبة لشطري الشعب الذي وحَّده الاحتلال: حكاية العائد إلى ذكرى حبه الأول ولكنه في غمرة جيشان عواطفه ينسى أنه المحب العاشق المقصود بالحكاية، وحكاية “أم الروبابيكا” التي عاشت على ذكريات الراحلين من أهل فلسطين تشتري أثاثهم لكي تتوحد مع ذكرياتهم، وحكاية البنت من الناصرة التي أحبت فتى مقدسياً وانتظرته حتى يخرج من السجن، وحكاية “جبينة” التي عادت إلى أمها العجوز شبه المقعدة، وحكاية الصبية المقدسية التي تشاطرت السجن مع صبية حيفاوية.
في هذه الحكايات الست يضيء مشهد اللقاء، لقاء شطري الشعب الذي مزقته النكبة وشرَّدته في أقاصي الأرض، المعنى الضمني الذي يقيم في قلب هذه الحكايات، ويكشف عن المفارقة الساخرة والفرحة الأسيانة للقاء شطري الشعب الممزق تحت حراب المحتل. ويبدو لي أن مشهد اللقاء هو الذي يوحد هذه القصص الست ويقربها كثيراً من النوع الروائي. إنها تنويع على المعنى الضمني نفسه، ستُّ حركات تنقل لنا أزمة الوجود الفلسطيني بعد هزيمة حزيران من خلال استعراض مشهد اللقاء المؤثر في سياق يكاد يعصف بالقلب والمشاعر. وفي هذا السياق تتوحَّد الحكايات، التي تؤلف “سداسية الأيام الستة”، في قالب شبه روائي يكون فيه الراوي هو الخيط الناظم للفضاء الذي يظلل الحكايات والشخصيات التي تسكنها.
لكن إذا كانت السداسية عملاً يراوح بين “المجموعة القصصية” و”النص الروائي” فإن النص التالي لحبيبي “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” يدشن عمارة جديدة في الرواية العربية المعاصرة ويفتح أفقا لتجديد حياة هذه الرواية ويوسع لها مسالك لم تسلكها من قبل. إن “سعيد أبوالنحس المتشائل” يمثل في الرواية الشخصيةَ التي تتصفى عبرها الأحداث الكابوسية والمصير التراجيدي لشعب انشطر نصفين: شطر داخل الوطن وشطر خارجه. والمتشائل، الذي يمزج في نظرته إلى الحياة بين التشاؤم والتفاؤل، شخصية مركبة كاشفة يميط المؤلف من خلالها اللثام عن تجربة شعب. إنه يعمل على تكوين شبكة سردية معقدة تدور حول شخصية سعيد أبي النحس التي يبدو ظاهرها غير باطنها ولكن المفارقات اللفظية والموقفية تكشف عن طبيعة ولائها وتكشف في الوقت نفسه عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه.
الروايات التي تناولت النكبة وتجري الإشارة إليها
“زمن الخيول البيضاء”، إبراهيم نصرالله، و”قناديل ملك الجليل” إبراهيم نصرالله، “باب الشمس” إلياس خوري، “سداسية الأيام الستة، و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل.. وقصص أخرى” لإميل حبيبي، “يافا تعد قهوة الصباح” لأنور حامد، “صيادون في شارع ضيق” و”السفينة” و”البحث عن وليد مسعود” لجبرا إبراهيم جبرا، “موفيولا” لتيسير خلف، “غريب النهر” لجمال ناجي، “أنين القصب” حسن حميد، “مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة” لربعي المدهون، “أيام الحب والموت” لرشاد أبوشاور، “الطنطورية” لرضوى عاشور، “أصل وفصل” و”حبي الأول” لسحر خليفة، “Mornings in Jenin” (الترجمة العربية: بينما ينام العالم، ترجمة: سامية شنان تميمي)، “The Blue Between Sky And Water” (الترجمة العربية: الأزرق بين السماء والماء، ترجمة: محمد عصفور) لسوزان أبوالهوى، “الحاجة كريستينا” لعاطف أبوسيف، “قمر في بيت دراس” لعبدالله تايه، “رجال في الشمس” و”ما تبقى لكم” و”عائد إلى حيفا و”أم سعد” و”العاشق” لغسان كنفاني، “ترانيم الغواية” لليلى الأطرش، “Bitter Almonds, Bloomsbury” (الترجمة العربية: اللوز المر، ترجمة: خلود عمرو) ليلاس طه، “حارة النصارى” لنبيل خوري، و”بحيرة وراء الريح” و”ماء السماء” ليحيى يخلف.