النكوص‭ ‬الحضاري‭ ‬وأزمة‭ ‬النخبة

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: ياسر صافي

وقد ‬حرصت‭ ‬المجتمعات‭ ‬المعاصرة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬برنامج‭ ‬تربوي‭ ‬متكامل‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الإرث‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للإنسان؛‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬الإنسان‭ ‬منزوع‭ ‬الجذور؛‭ ‬فربطت‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬ثقافتها‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬الثقافة‭ ‬المحليّة‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬دينيّة‭ ‬وعادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وأعراف‭ ‬مجتمعيّة‭ ‬أصيلة‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وافد‭ ‬من‭ ‬ثقافات‭ ‬مغايرة‭ ‬يفرضها‭ ‬مناخ‭ ‬العولمة‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الكبير‭ ‬مجرد‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة؛‭ ‬فالطفل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الحُلم‭ ‬بعد‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هاتفه‭ ‬الشخصي‭ ‬الجوال‭ ‬أن‭ ‬يجوب‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬وأن‭ ‬يطَّلع‭ ‬على‭ ‬جُلّ‭ ‬ثقافات‭ ‬العالم‭ ‬وأن‭ ‬يتصل‭ ‬بأشخاص‭ ‬من‭ ‬قارات‭ ‬العالم‭ ‬المختلفة‭ ‬بل‭ ‬ويعقد‭ ‬صلات‭ ‬التعارف‭ ‬والصداقة‭ ‬وغيرها‭ ‬بسهولة‭ ‬ويسر‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬مراعاة‭ ‬إكساب‭ ‬النشء‭ ‬الشخصية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬المواقف‭ ‬المتجددة‭ ‬والمتغيرة،‭ ‬وتنمية‭ ‬مهاراتهم‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يواجههم‭ ‬ويحيط‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬تحديات،‭ ‬وربطهم‭ ‬بمصادر‭ ‬المعرفة‭ ‬المختلفة،‭ ‬وتنمية‭ ‬قدراتهم‭ ‬كي‭ ‬يُحسن‭ ‬استخدامها‭ ‬الاستخدام‭ ‬الأمثل‭. ‬وهذا‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭: ‬من‭ ‬يتحكم‭ ‬بعقول‭ ‬النشء‭ ‬الجديد‭ ‬ويشكل‭ ‬ثقافتهم‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي؟‭ ‬وللإجابة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬المحوري‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثوابت‭ ‬كثيرة‭ ‬تغيرت‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬أولها‭ ‬وأهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬هي‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المؤسسة‭ ‬الأولى‭ ‬للتنشئة‭ ‬الاجتماعيّة؛‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقضي‭ ‬فيها‭ ‬الفرد‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬يتم‭ ‬انتقال‭ ‬ثقافة‭ ‬النشء‭ ‬من‭ ‬الوالدين‭ ‬إلى‭ ‬الأبناء؛‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬الأطفال‭ ‬بالملاحظة‭ ‬والتقليد‭ ‬والمشاركة،‭ ‬ويقوم‭ ‬الآباء‭ ‬بتعديل‭ ‬أيّ‭ ‬خلل‭ ‬سلوكي‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬اكتسبه‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬مغايرة‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬المدرسة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬المتاحة.‬
لكن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬انشغل‭ ‬الوالدان‭ ‬عن‭ ‬الأبناء‭ ‬سواء‭ ‬باللهث‭ ‬وراء‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬ومواجهة‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصاديّة‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬معظم‭ ‬بلداننا‭ ‬العربيّة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآونة‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬للأوضاع‭ ‬السياسيّة‭ ‬السيئة‭ ‬والحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬وهي‭ ‬المؤسسة‭ ‬الثانية‭ ‬للتنشئة‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬أصابها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العطب‭ ‬والخلل؛‭ ‬حيث‭ ‬غاب‭ ‬الجانب‭ ‬التربوي‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة‭ ‬وتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬كل‭ ‬اهتماماتها‭ ‬أن‭ ‬تقدّم‭ ‬للطالب‭ ‬إجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭: ‬كيف‭ ‬تجتاز‭ ‬الامتحان؟‭ ‬فراحت‭ ‬تشحن‭ ‬ذهنه‭ ‬بالحفظ‭ ‬والتلقين‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬والإحصاءات‭ ‬التي‭ ‬يُفرِغُها‭ ‬في‭ ‬ورقة‭ ‬الامتحان‭ ‬النهائي‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬ينساها‭.‬
كما‭ ‬أنّ‭ ‬دور‭ ‬العبادة‭ ‬أُفرِغت‭ ‬إلى‭ ‬حدٍ‭ ‬بعيدٍ‭ ‬من‭ ‬جانبها‭ ‬التربوي‭ ‬الصحيح،‭ ‬فأخذت‭ ‬بعض‭ ‬الكنائس‭ ‬تُنمّي‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬شبيبتها‭ ‬كراهية‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬لها‭ ‬بالمرصاد‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬وفي‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى‭ ‬شحنت‭ ‬بعض‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬ذهن‭ ‬شبيبتها‭ ‬بأن‭ ‬الآخر‭ ‬المخالف‭ ‬في‭ ‬العقيدة،‭ ‬أو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الطائفة‭ ‬الدينيّة،‭ ‬هو‭ ‬كافر‭ ‬تجب‭ ‬معاداته،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬العقيدة‭ ‬وأنّ‭ ‬موالاة‭ ‬هؤلاء‭ ‬المخالفين‭ ‬يُخرج‭ ‬صاحبه‭ ‬من‭ ‬نطاق‭ ‬العقيدة‭ ‬الصحيحة‭. ‬هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬خلوّ‭ ‬الفئة‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المساجد‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬التربوية‭ ‬وخاصة‭ ‬طيلة‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاولة‭ ‬الحكومات‭ ‬التصدي‭ ‬للجماعات‭ ‬المتطرفة‭.‬
بقيت‭ ‬إذن،‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتمثلة‭ ‬في‭ ‬المحطات‭ ‬التلفزيونيّة‭ ‬والإذاعيّة‭ ‬الحكوميّة‭ ‬منها‭ ‬والخاصة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السوشيال‭ ‬ميديا‭ ‬كالفيسبوك‭ ‬وتويتر‭ ‬والانستغرام‭ ‬والواتس‭ ‬آب‭ ‬والماسنجر‭ ‬وغيرها‭. ‬فالأولى‭ ‬تخضع‭ ‬لأيديولوجيات‭ ‬محددة‭ ‬ترى‭ ‬الحقيقة‭ ‬من‭ ‬منظورها‭ ‬الخاص؛‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬محطات‭ ‬تلفزيونية‭ ‬أو‭ ‬إذاعيّة‭ ‬حكوميّة‭ ‬فإنّ‭ ‬الحقيقة‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬مطابقة‭ ‬لما‭ ‬تراه‭ ‬الحكومة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬محطات‭ ‬خاصة‭ ‬فالحق‭ ‬يقف‭ ‬وراء‭ ‬مصالح‭ ‬أصحاب‭ ‬هذه‭ ‬القنوات‭ ‬ورغبتها‭ ‬في‭ ‬الإثارة‭ ‬الإعلامية‭ ‬لأجل‭ ‬جني‭ ‬الأموال‭ ‬الطائلة‭ ‬من‭ ‬الإعلانات‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬القنوات‭ ‬والمحطات‭ ‬الأكثر‭ ‬مشاهدة‭ ‬أو‭ ‬استماعاً‭. ‬إذن‭ ‬فالحقيقة‭ ‬غابت‭ ‬وراء‭ ‬المصالح‭ ‬الأيديولوجيّة‭ ‬والماديّة‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬السوشيال‭ ‬ميديا‭ ‬فتلك‭ ‬وسائل‭ ‬غير‭ ‬موثقة‭ ‬ومرتع‭ ‬خصب‭ ‬للإشاعات‭ ‬حيث‭ ‬يبقى‭ ‬تقصى‭ ‬الحقيقة‭ ‬فيها‭ ‬صعبا‭ ‬للغاية‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬نضع‭ ‬أيدينا‭ ‬على‭ ‬أسباب‭ ‬جُرح‭ ‬الأمة‭ ‬العربيّة‭ ‬الدامي‭ ‬الذي‭ ‬أفقدها‭ ‬الوسائل‭ ‬الصحيحة‭ ‬للتربية‭ ‬والتنشئة‭ ‬الاجتماعيّة؛‭ ‬فمن‭ ‬والدين‭ ‬منهمكين‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬وراء‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬تنازل‭ ‬فيها‭ ‬المعلمون‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬التربوي‭ ‬وانشغلوا‭ ‬بالشحن‭ ‬والتفريغ‭ ‬لمعلومات‭ ‬يتم‭ ‬نسيانها‭ ‬عقب‭ ‬اجتياز‭ ‬الامتحان‭ ‬النهائي،‭ ‬إلى‭ ‬دُور‭ ‬عبادة‭ ‬اقتصرت‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬الأعم‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬الصلوات،‭ ‬أو‭ ‬تزكية‭ ‬الروح‭ ‬العدائية‭ ‬والفتنة‭ ‬الطائفية‭ ‬بين‭ ‬ديانات‭ ‬أو‭ ‬مذاهب‭ ‬القطر‭ ‬الواحد‭ ‬إلى‭ ‬إعلام‭ ‬مؤدلج‭ ‬وسوشيال‭ ‬ميديا‭ ‬غير‭ ‬مسؤولة‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالشائعات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالحقائق‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬لزاما‭ ‬أن‭ ‬تسود‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الضبابية‭ ‬والاغتراب‭ ‬والتصارع‭ ‬كنتيجة‭ ‬لازمة‭ ‬عن‭ ‬مقدمات‭ ‬محددة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬اللزوم‭ ‬المنطقي‭ ‬في‭ ‬القياس‭ ‬الأرسطي‭.

في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬تام‭ ‬للفكر‭ ‬النقدي‭ ‬أو‭ ‬تنشيط‭ ‬ملكة‭ ‬النقد‭ ‬لدى‭ ‬هؤلاء‭ ‬التلاميذ‭ ‬الذين‭ ‬يتم‭ ‬غسل‭ ‬أدمغتهم‭ ‬وحشوها‭ ‬بأفكار‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬التبعيّة‭ ‬والانصياع‭ ‬والتقليد‭

وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬يحيلنا‭ ‬الواقع‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬مأساوي‭ ‬يبلغ‭ ‬حداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الغرابة‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬للعجب؛‭ ‬حيث‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬تبتغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الأمم‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬فلسفة‭ ‬عامة‭ ‬محددة‭ ‬للتعليم،‭ ‬وفي‭ ‬بلادنا‭ ‬تسود‭ ‬اللافلسفة؛‭ ‬فتغيب‭ ‬الرؤية‭ ‬والأهداف‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬الأمة‭ ‬لغرس‭ ‬مجموع‭ ‬قيمها‭ ‬في‭ ‬النشء‭. ‬فتتعدّد‭ ‬أنواع‭ ‬التعليم‭ ‬ومناهجه‭ ‬وأهدافه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التعارض،‭ ‬فيوجد‭ ‬التعليم‭ ‬الديني‭ ‬‭(‬الأزهري‭ ‬في‭ ‬مصر‭)‬‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬بجانب‭ ‬التعليم‭ ‬المدني‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬التابعة‭ ‬لوزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬لاستراتيجيات‭ ‬تعليميّة‭ ‬مختلفة،‭ ‬فهناك‭ ‬المدارس‭ ‬الحكوميّة‭ ‬والخاصة‭ ‬والأميريّة‭ ‬واللغات‭ ‬والتجريبيّة‭ ‬ومدارس‭ ‬الدبلومة‭ ‬الأميركيّة،‭ ‬وكل‭ ‬منها‭ ‬يضع‭ ‬مناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬مختلفة‭ ‬تجعل‭ ‬النشء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الواحد‭ ‬يعاني‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الاغتراب‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭ ‬فكلّ‭ ‬منهم‭ ‬لديه‭ ‬هويّة‭ ‬ثقافيّة‭ ‬مختلفة‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬التعليم‭ ‬الذي‭ ‬تلقاه‭.‬

وبناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬حقل‭ ‬التعليم‭ ‬المعلمون‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بالعمليّة‭ ‬التعليميّة؛‭ ‬فنجد‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬ينشط‭ ‬فيها‭ ‬معلمو‭ ‬الجماعات‭ ‬الدينيّة‭ ‬أنّ‭ ‬معظم‭ ‬التلاميذ‭ ‬يتشبعون‭ ‬بالفكر‭ ‬الذي‭ ‬يبثه‭ ‬فيهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬المعلمون،‭ ‬فيتم‭ ‬شحن‭ ‬عقل‭ ‬التلميذ‭ ‬بالفكر‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يأتيه‭ ‬الباطل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬خلفه،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬المناقشة‭ ‬أو‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬المتعارضة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬تام‭ ‬للفكر‭ ‬النقدي‭ ‬أو‭ ‬تنشيط‭ ‬ملكة‭ ‬النقد‭ ‬لدى‭ ‬هؤلاء‭ ‬التلاميذ‭ ‬الذين‭ ‬يتم‭ ‬غسل‭ ‬أدمغتهم‭ ‬وحشوها‭ ‬بأفكار‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬التبعيّة‭ ‬والانصياع‭ ‬والتقليد‭ ‬من‭ ‬قَبيل‭ ‬أنَّ‭ ‬الجدال‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬المسلم،‭ ‬فلا‭ ‬يصح‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬يحق‭ ‬أن‭ ‬يجادل‭ ‬أو‭ ‬يناقش‭ ‬بل‭ ‬ينصت‭ ‬ويُسلِّم‭ ‬بما‭ ‬يسمع‭ ‬من‭ ‬معلميه‭ ‬تسليماً‭ ‬تاماً‭.‬
كما‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الشحن‭ ‬تقديس‭ ‬رموز‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬وإحاطة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرموز‭ ‬بهالات‭ ‬شبه‭ ‬أسطورية‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مولدهم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مواقفهم‭ ‬البطوليّة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الدين‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬الدعوة‭ ‬ضد‭ ‬بطش‭ ‬الحكام‭ ‬الذين‭ ‬نبذوا‭ ‬دين‭ ‬الله‭ ‬وراء‭ ‬ظهورهم‭. ‬وتصل‭ ‬هذه‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬هؤلاء‭ ‬التلاميذ‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬المملوكة‭ ‬لهذه‭ ‬الجماعات‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬معدلاتها‭ ‬حيث‭ ‬تصبح‭ ‬مرتعاً‭ ‬خصباً‭ ‬للتطبيق‭ ‬العملي‭ ‬لفكر‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة؛‭ ‬فأسماء‭ ‬الصحابة‭ ‬ورموز‭ ‬الجماعة‭ ‬هي‭ ‬أسماء‭ ‬الفصول‭ ‬والغرف‭ ‬الدراسية،‭ ‬ويُستبدَل‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬بنشيد‭ ‬إسلامي،‭ ‬وتتحول‭ ‬تحية‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬تكبير‭ ‬وتحميد‭ ‬وتهليل‭.‬
على‭ ‬العكس‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬مدارس‭ ‬الأحياء‭ ‬الراقية‭ ‬ومدارس‭ ‬اللغات‭ ‬والمدارس‭ ‬الدوليّة‭ ‬التي‭ ‬تكثر‭ ‬فيها‭ ‬الأنشطة‭ ‬المدرسيّة‭ ‬وتعليم‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬ووجود‭ ‬المسرح‭ ‬المدرسي،‭ ‬ويكاد‭ ‬ينعدم‭ ‬فيها‭ ‬التعليم‭ ‬الديني،‭ ‬والثانية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬خطورة‭ ‬عن‭ ‬الأولى‭ ‬حيث‭ ‬يتخرج‭ ‬فيها‭ ‬التلميذ‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬ما‭ ‬الصحيح‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬دينه‭ ‬فيصبح‭ ‬عرضة‭ ‬وفريسة‭ ‬سهلة‭ ‬للجماعات‭ ‬المتطرفة‭ ‬من‭ ‬الجانبين‭ ‬سواء‭ ‬الدينيّة‭ ‬أو‭ ‬اللادينيّة‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بانتشار‭ ‬ثقافة‭ ‬العنف‭ ‬والتطرف‭ ‬ورفض‭ ‬قيم‭ ‬العصر؛‭ ‬حيث‭ ‬يعدّ‭ ‬التعليم‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مصادر‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فالمؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬تساعد‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬إدراك‭ ‬واقعهم‭ ‬ومشكلات‭ ‬مجتمعاتهم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬ومعلومات،‭ ‬وما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أنشطة‭ ‬وممارسات‭.‬

ولمّا‭ ‬كانت‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬بلا‭ ‬فلسفة‭ ‬محددة‭ ‬يضعها‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬العمليّة‭ ‬التعليميّة‭ ‬بحيث‭ ‬تحقق‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬المرجوّة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬هذا‭ ‬النشء‭ ‬يتشبع‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تماسك‭ ‬المجتمع‭ ‬وتحافظ‭ ‬على‭ ‬هويته‭ ‬وتضمن‭ ‬أمنه‭ ‬واستقراره،‭ ‬كان‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬النتاج‭ ‬الواقعي‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانفصال‭ ‬بين‭ ‬النشء‭ ‬والبيئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭.‬
وشعور‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬النشء‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬تعليمهم‭ ‬الجامعي‭ ‬أو‭ ‬فور‭ ‬تخرجهم‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الاغتراب‭ ‬المجتمعي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬شعور‭ ‬الفرد‭ ‬بالعجز‭ ‬تجاه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬تواجهه،‭ ‬فيشعر‭ ‬بأنّه‭ ‬مجرد‭ ‬ترس‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬آلة‭ ‬المجتمع‭ ‬الكبير،‭ ‬وأنّه‭ ‬لا‭ ‬إرادة‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬حريّة‭ ‬ولا‭ ‬اختيار‭ ‬ولا‭ ‬استطاعة‭ ‬ولا‭ ‬قدرة‭ ‬لديه‭ ‬للتأثير‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الأمور‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وهنا‭ ‬تغلب‭ ‬عليه‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭ ‬والتسليم‭ ‬بالأمر‭ ‬الواقع‭ ‬والسلبيّة‭ ‬واللامبالاة‭.‬

وربما‭ ‬تزداد‭ ‬معه‭ ‬حالة‭ ‬الاغتراب‭ ‬هذه‭ ‬عندما‭ ‬يتعرض‭ ‬لمواقف‭ ‬أكثر‭ ‬حسماً‭ ‬وتأثيراً‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الشخصيّة‭ ‬كأن‭ ‬يفقد‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬المجتمع؛‭ ‬إذ‭ ‬يُفضَّل‭ ‬عليه‭ ‬خريج‭ ‬أقلّ‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الكفاءة‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬معينة‭ ‬وبدون‭ ‬وجه‭ ‬حق‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الواسطة‭ ‬أو‭ ‬المحسوبيّة‭ ‬أو‭ ‬الرشوة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬جدوى‭ ‬الاختبارات‭ ‬التي‭ ‬تُجرى‭ ‬بصورة‭ ‬شكليّة‭ ‬ونتائجها‭ ‬معروفة‭ ‬سلفاً‭. ‬فكل‭ ‬ذلك‭ ‬يجعله‭ ‬يرفض‭ ‬قواعد‭ ‬السلوك‭ ‬والأهداف‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬التي‭ ‬يدين‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬أعضاء‭ ‬المجتمع‭ ‬ويشعر‭ ‬بأن‭ ‬ثقافته‭ ‬مغايرة‭ ‬لثقافة‭ ‬الآخرين‭ ‬ومنفصلة‭ ‬عنها،‭ ‬فيشعر‭ ‬بالوحدة‭ ‬والانعزال‭ ‬وعدم‭ ‬الرضا‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬والشعور‭ ‬بأن‭ ‬الحياة‭ ‬عبثيّة‭ ‬وسطحيّة‭ ‬بلا‭ ‬هدف‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬ويعيش‭ ‬من‭ ‬أجله‭.

أمام‭ ‬انسداد‭ ‬الآفاق‭ ‬السلمية‭ ‬أمام‭ ‬محاولات‭ ‬التغيير‭ ‬والتعبير‭ ‬وتأكيد‭ ‬الذات‭ ‬يكون‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الأوحد‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تلقينهم‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الغريبة‭

وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬التي‭ ‬يسودها‭ ‬الاغتراب‭ ‬الذاتي‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬تسودها‭ ‬الضبابيّة‭ ‬والغموض‭ ‬وعدم‭ ‬الفهم‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الشاب‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬طريقين‭ ‬للهرب‭: ‬إما‭ ‬الانضمام‭ ‬للجماعات‭ ‬الدينيّة‭ ‬أو‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الإدمان‭ ‬والمخدرات‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مأساوي‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الفرق‭ ‬الدينيّة‭ ‬الصوفيّة‭ ‬صاحبة‭ ‬النصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬اتجاه‭ ‬الشباب‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬الأمان‭ ‬والهدوء‭ ‬والراحة‭ ‬النفسية‭.‬

وهنا‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الخطورة‭ ‬فطريق‭ ‬الإدمان‭ ‬والمخدرات‭ ‬هو‭ ‬بعينه‭ ‬طريق‭ ‬الموت،‭ ‬فالنهاية‭ ‬المأساويّة‭ ‬هي‭ ‬نهايته‭ ‬المحتومة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يرجع‭ ‬عنه‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭. ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬عنه‭ ‬كثيراً‭ ‬طريق‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وهذه‭ ‬الجماعات‭ ‬على‭ ‬اختلافها‭ ‬هي‭ ‬الباب‭ ‬الواسع‭ ‬الذي‭ ‬يجده‭ ‬الشباب‭ ‬مفتوحاً‭ ‬أمامهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تسحقهم‭ ‬الظروف‭ ‬بين‭ ‬مطرقة‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وسيولة‭ ‬القيم‭ ‬وعدم‭ ‬ثباتها،‭ ‬وعدم‭ ‬وجود‭ ‬معايير‭ ‬ثابتة‭ ‬للصعود‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وبين‭ ‬سندان‭ ‬الحاكم‭ ‬المستبد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يحبّ‭ ‬أن‭ ‬يراه،‭ ‬ويبسط‭ ‬يد‭ ‬نظامه‭ ‬الأمني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬سوى‭ ‬لغة‭ ‬العنف‭ ‬واستخدام‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المعارضة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬فيها‭ ‬الانعكاس‭ ‬الحقيقي‭ ‬لأيّ‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬ديمقراطي،‭ ‬وإنما‭ ‬يراها‭ ‬تضم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الخونة‭ ‬والعملاء‭ ‬والمتآمرين؛‭ ‬ولذلك‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬تُوجه‭ ‬إليهم‭ ‬تهم‭ ‬الخيانة‭ ‬العظمى‭ ‬أو‭ ‬تصفيتهم‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬وقت،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يصبح‭ ‬حالهم‭ ‬أشبه‭ ‬بإناء‭ ‬يغلي‭ ‬بلا‭ ‬تنفيث‭.‬

وأمام‭ ‬انسداد‭ ‬الآفاق‭ ‬السلمية‭ ‬أمام‭ ‬محاولات‭ ‬التغيير‭ ‬والتعبير‭ ‬وتأكيد‭ ‬الذات‭ ‬يكون‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الأوحد‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تلقينهم‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الغريبة‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬أهمها‭ ‬مقولة‭ ‬لا‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬النبوية‭ ‬المطهرة،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬مقولة‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬الإمام‭ ‬مالك‭ ‬‭(‬غير‭ ‬مؤكدة‭)‬‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬لن‭ ‬يصلح‭ ‬أمر‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬صلح‭ ‬به‭ ‬أوّلها‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬تُقدَّم‭ ‬كمقولة‭ ‬مقدسة‭ ‬وكمنهاج‭ ‬رباني،‭ ‬فتصبح‭ ‬تلك‭ ‬المقولة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬النبوة‭ ‬فعليها‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬النبوة،‭ ‬ولمحة‭ ‬من‭ ‬روحها،‭ ‬وومضة‭ ‬من‭ ‬إشراقها‭!

‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تبدأ‭ ‬مرحلة‭ ‬النكوص‭ ‬الحضاري‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬يتجه‭ ‬صوب‭ ‬تقديس‭ ‬الماضي‭ ‬ويتحرق‭ ‬شوقاً‭ ‬للعودة‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬واللغة‭ ‬والأفكار‭ ‬حيث‭ ‬الملاذ‭ ‬الآمن‭ ‬والنبع‭ ‬الصافي‭ ‬النقي‭ ‬للتدين،‭ ‬والتطلع‭ ‬إلى‭ ‬بلوغ‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬الأولون‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للإسلام‭. ‬فيتم‭ ‬نفي‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬لصالح‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد،‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬فيه‭ ‬المسلمون‭ ‬الأرض‭ ‬مشرقاً‭ ‬ومغرباً‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأنهم‭ ‬تمسكوا‭ ‬بدينهم‭ ‬حق‭ ‬التمسك‭.
‬فتتحول‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك‭ ‬المنظومات‭ ‬الفقهية‭ ‬والممارسات‭ ‬العملية‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الأسلاف‭ ‬إلى‭ ‬منظومات‭ ‬مقدسة‭ ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬معرفتها‭ ‬وتقليدها‭ ‬والاقتداء‭ ‬بها‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬نقدها‭ ‬أو‭ ‬الخروج‭ ‬عليها‭ ‬قيد‭ ‬أنملة‭. ‬ونسي‭ ‬هؤلاء‭ ‬أن‭ ‬سلفنا‭ ‬الصالح‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬طريقا‭ ‬لبلوغ‭ ‬العلم‭ ‬النافع‭ ‬والمفيد‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬إلا‭ ‬وسلكه،‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬حضارة‭ ‬أمّة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحضارات‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ ‬إلا‭ ‬واستفاد‭ ‬منها‭. ‬حتى‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النبوة‭ ‬نفسها‭ ‬ألم‭ ‬يستفد‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬من‭ ‬خبرة‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬الحربية‭ ‬في‭ ‬غزوة‭ ‬الأحزاب؟‭ ‬واستجاب‭ ‬لنصح‭ ‬سلمان‭ ‬الفارسي‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬الخندق‭. ‬ألم‭ ‬يوص‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬بتعلم‭ ‬لغات‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى؟‭ ‬فمن‭ ‬عرف‭ ‬لغة‭ ‬قوم‭ ‬أمن‭ ‬مكرهم‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬كلَّف‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬أصحابه‭ ‬لتعلم‭ ‬لغة‭ ‬الفرس‭ ‬فأتقنها‭ ‬ببراعة‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬نتيجة‭ ‬لبذل‭ ‬الجهد‭ ‬وإتقان‭ ‬العمل‭.‬
ويصبح‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬مظاهر‭ ‬النكوص‭ ‬الحضاري‭ ‬وثوق‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬بالمقدس‭ ‬الإلهي‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬تلقينه‭ ‬إياه‭ ‬بينما‭ ‬يفقد‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬دنيوي‭ ‬ونسبي‭ ‬ومتغير‭. ‬ويصبح‭ ‬التفكير‭ ‬الخرافي‭ ‬والبدائي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي‭ ‬والمنطقي؛‭ ‬فيؤمن‭ ‬بالخوارق‭ ‬والكرامات‭ ‬ومعجزات‭ ‬الأولياء‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يؤمن‭ ‬بالعلم‭ ‬الوافد‭ ‬من‭ ‬حضارة‭ ‬الكفار‭ ‬الملحدين‭ ‬الذي‭ ‬يتغير‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وإن‭ ‬أتي‭ ‬بجديد‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬حدَّثنا‭ ‬عنه‭ ‬القرآن‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرناً‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬بضاعتنا‭ ‬ردت‭ ‬إلينا‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يصنع‭ ‬شخصيّة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الآخر،‭ ‬شخصية‭ ‬أحادية‭ ‬البُعد‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬للحقيقة‭ ‬سوى‭ ‬وجه‭ ‬واحد،‭ ‬ولا‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬سوى‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود‭ ‬وتعجز‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬ألواناً‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتفاوتة‭ ‬بينهما‭.‬
شخصية‭ ‬يُهيّأ‭ ‬إليها‭ ‬أنها‭ ‬وحدها‭ ‬التي‭ ‬تمتلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬يخالفها‭ ‬على‭ ‬وهم‭ ‬وضلال‭ ‬وفساد‭ ‬عقيدة،‭ ‬وإنّ‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬إليها‭ ‬ويتبع‭ ‬ما‭ ‬تدعو‭ ‬إليه‭ ‬فلا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬تفسيقه‭ ‬وتكفيره‭ ‬تمهيداً‭ ‬لقتله‭ ‬وتصفيته‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬‮«‬مَنْ‭ ‬رأى‭ ‬منكم‭ ‬منكرا‭ ‬فليغيره‭ ‬بيده‮…»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬فلا‭ ‬يوجد‭ ‬لديهم‭ ‬ذلك‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الاختلاف‭ ‬الفكري‭ ‬ولا‭ ‬الإيمان‭ ‬بحق‭ ‬التعدد‭ ‬في‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭.‬
ولذلك‭ ‬تُوَجِّه‭ ‬بوصلة‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬ينضمون‭ ‬إليها‭ ‬إلى‭ ‬السير‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬في‭ ‬مفارقة‭ ‬عجيبة‭ ‬فحواها‭ ‬أننا‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬التقدم‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬فما‭ ‬علينا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭! ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬تشخيص‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬تلك‭ ‬الأمراض‭ ‬المعرفية‭ ‬أو‭ ‬‮«‬البارانويا‭ ‬الفكرية‭ ‬‮«‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬زهير‭ ‬اليعقوبي‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬مرض‭ ‬معرفي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬توحد‭ ‬الذات‭ ‬العارفة‭ ‬مع‭ ‬أطرها‭ ‬المرجعية‭ ‬معتبرة‭ ‬إياها‭ ‬الحقيقة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬والحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬الصحيحة‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تصبح‭ ‬المجتمعات‭ ‬أمام‭ ‬أمرين‭ ‬في‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ ‬إما‭ ‬اتّباع‭ ‬طريقهم‭ ‬المقدس‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬الأولون؛‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬حالهم‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬صلح‭ ‬به‭ ‬أمر‭ ‬السابقين‭ ‬الأولين‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬الحرب‭ ‬المقدسة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والكفر،‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام،‭ ‬الحق‭ ‬والباطل،‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬المعروف‭ ‬والمنكر،‭ ‬ذلك‭ ‬المنطق‭ ‬الثنائي‭ ‬الذي‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬التعددية‭ ‬اللانهائيّة‭ ‬لطبيعة‭ ‬البشر‭ ‬والموجودات‭ ‬والحقائق‭. ‬فذلك‭ ‬الاختزال‭ ‬الممقوت‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬‭(‬إما‭ ‬–‭ ‬أو‭)‬‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الملائم‭ ‬الذي‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬تفكيرهم‭ ‬المَرَضي‭ ‬في‭ ‬إقصاء‭ ‬الآخر‭ ‬وإرهابه‭ ‬وقتله‭ ‬لو‭ ‬استدعى‭ ‬الأمر‭. ‬وذلك‭ ‬المنطق‭ ‬هو‭ ‬دائما‭ ‬مسعى‭ ‬الراديكاليين‭ ‬والدوغماطيقيين‭ ‬والفاشيين‭ ‬والاستبداديين‭ ‬وسائر‭ ‬النزعات‭ ‬الإطاحية‭ ‬في‭ ‬أفكارها‭ ‬وآرائها‭ ‬وأحكامها‭ ‬والتي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬اليقين‭ ‬يلازمها‭ ‬هي‭ ‬فقط‭ ‬وغيرها‭ ‬يرتع‭ ‬في‭ ‬الريبة‭ ‬والشك‭.‬
من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬المنطق‭ ‬الثنائي‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬مآل‭ ‬كل‭ ‬فريق،‭ ‬فقتلانا‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬التي‭ ‬عرضها‭ ‬السموات‭ ‬والأرض‭ ‬وقتلاهم‭ ‬في‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬وقودها‭ ‬الناس‭ ‬والحجارة

ومن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬المنطق‭ ‬الثنائي‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬مآل‭ ‬كل‭ ‬فريق،‭ ‬فقتلانا‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬التي‭ ‬عرضها‭ ‬السموات‭ ‬والأرض‭ ‬وقتلاهم‭ ‬في‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬وقودها‭ ‬الناس‭ ‬والحجارة،‭ ‬فالحور‭ ‬العين‭ ‬يتهيأن‭ ‬ويتزيّن‭ ‬للشهداء‭ ‬الأبرار،‭ ‬وسقر‭ ‬تستعر‭ ‬لتكون‭ ‬مآل‭ ‬الخلود‭ ‬للكافرين‭ ‬والمشركين،‭ ‬والشهادة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬أفضل‭ ‬الأماني،‭ ‬وقتل‭ ‬الآخر‭ ‬المخالف‭ ‬جهاداً‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله،‭ ‬فلا‭ ‬تحيا‭ ‬الأمم‭ ‬إلا‭ ‬بالجهاد‭ ‬ولا‭ ‬تُذلّ‭ ‬إلا‭ ‬بتركها‭ ‬إياه،‭ ‬وما‭ ‬يصيب‭ ‬الوهنُ‭ ‬أمةً‭ ‬إلا‭ ‬بحبها‭ ‬للدنيا‭ ‬وكراهيتها‭ ‬للموت‭.. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬وأمام‭ ‬سيادة‭ ‬ثقافة‭ ‬النكوص‭ ‬والاتجاه‭ ‬نحو‭ ‬ثقافة‭ ‬التوهم‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬للسكون‭ ‬والارتياح‭ ‬في‭ ‬كهف‭ ‬الماضي‭ ‬بعدما‭ ‬أَعيتنا‭ ‬سُبل‭ ‬الحاضر‭ ‬في‭ ‬كيفيّة‭ ‬الانطلاق‭ ‬ناحية‭ ‬المستقبل‭.‬

وأمام‭ ‬هؤلاء‭ ‬المخالفين‭ ‬الذين‭ ‬يقفون‭ ‬كأحجار‭ ‬عثرة‭ ‬أمام‭ ‬تطبيق‭ ‬شرع‭ ‬الله‭ ‬وإفراد‭ ‬الله‭ ‬تعالي‭ ‬بالحاكمية‭ ‬وقيام‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬لتعود‭ ‬أمجادنا‭ ‬التليدة،‭ ‬فلا‭ ‬مفر‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬الجهاد‭ ‬وإعداد‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الاستطاعة‭ ‬لقتال‭ ‬هؤلاء‭. ‬وأقرب‭ ‬ما‭ ‬نمتلك‭ ‬هو‭ ‬أنفسنا‭ ‬التي‭ ‬تهون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الشهادة،‭ ‬فالشهداء‭ ‬على‭ ‬منابر‭ ‬من‭ ‬نور‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬والشهادة‭ ‬الأمل‭ ‬والرجاء‭ ‬لكل‭ ‬مؤمن‭ ‬حقيقي،‭ ‬ومن‭ ‬مات‭ ‬ولم‭ ‬تحدّثه‭ ‬نفسه‭ ‬بالغزو‭ ‬مات‭ ‬ميتة‭ ‬الجاهلية‭.. ‬الخ‭. ‬فتنتشر‭ ‬ثقافة‭ ‬الموت‭ ‬بكل‭ ‬معانيها‭ ‬تحت‭ ‬مسميات‭ ‬مختلفة‭.
‬فماذا‭ ‬لو‭ ‬فجَّر‭ ‬الشاب‭ ‬نفسه‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفاسقين؟‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬سوى‭ ‬أنّها‭ ‬لحظات‭ ‬معدودة‭ ‬وسيجد‭ ‬نفسه‭ ‬بين‭ ‬فاتنات‭ ‬الحور‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬لو‭ ‬بصقت‭ ‬إحداهنّ‭ ‬في‭ ‬بحار‭ ‬الدنيا‭ ‬لحولت‭ ‬ماءها‭ ‬من‭ ‬الملوحة‭ ‬إلى‭ ‬العذوبة‭. ‬لحظات‭ ‬وسينال‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬إدراكه‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬ببلوغه‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬لحظات‭ ‬ويستبدل‭ ‬عجزه‭ ‬الدنيوي‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬بواحدة‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬البشر‭ ‬بعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬فاتنات‭ ‬الحور‭ ‬العين‭ ‬اللائي‭ ‬يتزين‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الآن‭. ‬وهكذا‭ ‬يتم‭ ‬خلط‭ ‬الديني‭ ‬بالأيديولوجي‭ ‬ويشتبه‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬السالكين‭ ‬فتتم‭ ‬السيطرة‭ ‬عليهم‭ ‬وتوجيهم‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عنه‭ ‬إنّ‭ ‬الموت‭ ‬هو‭ ‬نهايته‭ ‬الوحيدة‭.‬

ولا‭ ‬يمكننا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الإطار‭ ‬أن‭ ‬نتجاهل‭ ‬أزمة‭ ‬النخب‭ ‬التنويريّة،‭ ‬فالنخب‭ ‬في‭ ‬شتّى‭ ‬بلدان‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬تمرّ‭ ‬بأزمة‭ ‬حقيقيّة،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬أنّ‭ ‬النُخب‭ ‬انقسمت‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬إلى‭ ‬فريقين،‭ ‬ذهب‭ ‬الفريق‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬ممالأة‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬فأخذ‭ ‬يعمل‭ ‬لصالحه‭ ‬ويتكلم‭ ‬بلسانه،‭ ‬وكلما‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬تمجيد‭ ‬الحاكم‭ ‬وإبراز‭ ‬محاسنه‭ ‬التي‭ ‬يصعب‭ ‬حصرها،‭ ‬وعدم‭ ‬وجود‭ ‬المساوئ‭ ‬التي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والتفتيش‭ ‬والتمحيص‭ ‬عنها‭ ‬إلا‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يجدها‭! ‬فما‭ ‬يلبث‭ ‬هذا‭ ‬النخبوي‭ ‬إلا‭ ‬وتنهال‭ ‬عليه‭ ‬الأوسمة‭ ‬والجوائز‭ ‬ويتقلد‭ ‬أرفع‭ ‬المناصب‭.

‬أما‭ ‬الفريق‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬ينحاز‭ ‬إلى‭ ‬مصلحة‭ ‬الأمة‭ ‬وتوعية‭ ‬الجماهير‭ ‬والتنديد‭ ‬بالفساد‭ ‬فمآله‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتهميش‭ ‬والتشويه‭ ‬حتى‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬الذي‭ ‬يبغي‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬فلا‭ ‬مانع‭ ‬أن‭ ‬تثور‭ ‬ضده‭ ‬جموع‭ ‬العوام‭ ‬وسفلتهم‭ ‬نتيجة‭ ‬لتشويهه‭ ‬أيديولوجياً‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬نخبة‭ ‬الفريق‭ ‬الأول،‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬تشويه‭ ‬من‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬الفريق‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬مهامهم‭. ‬وبين‭ ‬هؤلاء‭ ‬وهؤلاء‭ ‬تضيع‭ ‬ثقة‭ ‬الشباب‭ ‬والعوام‭ ‬فلا‭ ‬يثقون‭ ‬بهؤلاء‭ ‬المنافقين‭ ‬الممالئين‭ ‬للسلطة‭ ‬ولا‭ ‬بهؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تُبرز‭ ‬أخطائهم‭ ‬البسيطة‭ ‬وتُضخّم‭ ‬هفواتهم‭ ‬نتيجة‭ ‬للتشويه‭ ‬الإعلامي‭ ‬الذي‭ ‬ينحاز‭ ‬دائما‭ ‬للنظام‭ ‬الحاكم‭. ‬وهكذا‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬أزمة‭ ‬أمة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬النكوص‭ ‬الحضاري‭ ‬وأزمة‭ ‬النخب‭ ‬التنويرية‭.‬
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.