الهزيمة والسرطان.. الصراع على سعدالله ونوس
من دون شك، أن شظايا الأزمة السورية طالت الكاتب المسرحي سعدالله ونوس، كما طالت كل شيء في سوريا سواء في الثقافة أو المجتمع أو المدن أو الرموز، وزادت من وتيرة التأويلات والمناكفات والتخمينات حول صاحب “طقوس الإشارات والتحولات” بسبب أن عائلته (زوجته فايزة الشاويش وابنته ديمة)، أهدت مكتبته إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وهذا ما اعتبرته بعض الأقلام الممانعة “اغتيالا” للمكتبة، من جهة ثانية يصوب بعض المرابضين في المتاريس والخنادق على ونوس، لمجرد أنه في أصوله “ينتمي” إلى الطائفة العلوية، على أن السجال الدائر حول ونوس، تأرجح بين من يعتبره “رائيا في كتاباته”، وبين من يرى فيه “خديعة” سلطوية، يسارية.
يقول الكاتب الأردني فخري صالح في مقالة نشرتها مجلة “الفيصل” السعودية “تنبأ (ونوس) بالانفجار الكبير، بثورة تؤدي إلى تحلل المجتمع وتفككه وانقسامه على نفسه، (…) بصورة تشبه ما نرى عليه سوريا اليوم”. يضيف صالح “لقد رأى الكاتب بعين الرائي موت الاجتماع والسياسة، ثم موت الإنسان، لا لكونه قادرا على كشف حجب المستقبل، بل لأنه رأى أن جنون الاستبداد يقود إلى تفكك البلدان، وتحلل المجتمعات”، في المقابل يكتب السوري خلف علي خلف في موقع “إيلاف” الإلكتروني “مثل كل القراء السوريين من جيلي شربت خديعة أهمية سعدالله ونوس صغيرا، إذ يندر أن تجد مادة عن المسرح في جرائد النظام لا يمر فيها اسم سعدالله ونوس، ليس فقط جرائد النظام، بل أيضا في وسائل إعلام المقاومة الفلسطينية (…) كذلك في مطبوعات لبنان، المزود الأبرز في القطاع الثقافي المشرقي، والتي سيطر على معظمها، خصوصا القسم الثقافي، لفترة طويلة اليسار اللبناني والسوري والعربي الممانع″.
آخذ صاحب المقال على ونوس عمله في بعض مؤسسات وزارة الثقافة السورية، ومن بينها عمله في مجلة “المعرفة”، ثم إدارته “المسرح التجريبي”، ويعتبر أنهم “أسسوا أو سهلوا له مهرجان دمشق المسرحي”، ما أتاح له علاقات مع فرق مسرحية ونقاد مسرح، ما يعني بالتالي تعبيد الطريق أمام ونوس للوصول إلى العالم.
واعتبر خلف أن صعود ونوس أتى مع صعود نظام حافظ الأسد، حتى أن اسمه تأسس مع هزيمة 5 حزيران 1967 التي كان حافظ الأسد خلالها وزيرا للدفاع. إذ كتب ونوس إثرها وفي مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”. والنقطة الأكثر سخونة في الجدل حول ونوس، أن حافظ الأسد حضر العرض الأول لمسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، وكذلك ساهم في تأمين علاج ونوس بعد مرضه وسفره إلى باريس.
كثيرون في المدة الأخيرة طرحوا السؤال التالي: ماذا لو كان ونوس على قيد الحياة إبان الربيع العربي، في أي اتجاه سيكون موقفه مما يجري في سوريا؟ هل سيكون أقرب إلى الشاعر أدونيس المؤيد للأسد أم إلى السينمائي أسامة محمد المعارض له؟ خصوصا أن ونوس الآتي من بلدة حصين البحر على الساحل السوري، شغلته القضايا التي حصلت خلال الأزمة السورية قبل أن تشغل الآخرين. كان له موقفه الواضح من التطرف ومن دور المثقف، فقد رسم صورة سلبية قاتمة لعبدالرحمن بن خلدون، في مسرحيته “منمنمات تاريخية” التي ربطت الهزيمة بالتطرف الديني، كما ربطت بين قمع المتعصبين وأنظمة الحكم المستبدة.
قال ونوس في حوار مع الباحث الفلسطيني ماهر الشريف نُشر في مجلة “النهج” صيف العام 1995 إن ما كتبه في “المنمنمات” يعتبر تأملا فرديا في التاريخ “يطمح إلى التحوّل، عبر المشاهدة والحوار، إلى تأمل جماعي في التاريخ”، يقول الشريف حاول ونوس إنه يطبّق ذلك المنهج في تعامله مع فصل من فصول التاريخ العربي، فأبرز وجها آخر لم نكن نعرفه في شخصية العلامة ابن خلدون، مبينا تهافت المثقف الاحترافي الذي يُسخّر علمه “في خدمة أهواء الأمير أو السلطان” ويجعل منه “حقلا مغلقا مقطع الروابط بالمجتمع والقيم”. كما وصف مواقف وآراء ابن خلدون بالاستسلامية والخانعة، ويصوّره كمثقف للسلطة ينحاز للغازي لا المقاومة، وقد آمن بكتابة التاريخ والإصغاء لأحداثه ولكن لم يؤمن بضرورة تغيير التاريخ وتشييده.
نقرأ في المنمنمات “لم يفهم ابن خلدون شيئا، كان مشغولا بنفسه وطموحه، فلم تمسه معاناة الناس. لم يسمع بكاءنا ولم يفهم أحوالنا. كانت هذه المحنة بالنسبة له، ورطة عابرة سلم منها وتجاوزها”. الأرجح لو عاش ونوس إلى اليوم لاستحضر شخصيات أخرى من التاريخ للكتابة عن الواقع الراهن، ولكن من الصعب التخريف وإسقاط التأويلات والتخمينات على شيء لم يعشه المسرحي الراحل. وهذا الدفاع لا يمنعنا من طرح الإسئلة، لماذا نستحضر التاريخ لنكتب عنه في إطار التلميح إلى الحاضر، هل لنهرب من الواقع المباشر والسين جيم؟ ماذا لو قارنا بين ابن خلدون في زمانه وبين سعدالله ونوس في زمن “سوريا الأسد”؟
وما ينبغي قوله أيضا، صحيح أن حافظ الأسد ساهم في علاج سعدالله ونوس في أيامه الأخيرة، وهذا يأتي في سياق استثمار النظام في سوريا بالأسماء اللامعة (عاصي الرحباني، وديع الصافي، نزار قباني، الجواهري وسعدالله ونوس)، في المقابل يبقي على شخصيات كثيرة وراء القضبان لعقود. وحتى لو اهتم النظام بطبابة ونوس وحتى لو كان هذا الأخير يبحث عن الشهرة بأي ثمن، فمن غير المنطقي اتهامه بأنه يكتب للأسد أو أنه صنيعة الأسد، فليس ونوس وحده من كتب نصا بعد حرب عام 1967، وما فعله أتى في سياق موجة فكرية وشعرية وسياسية، المفكر صادق جلال العظم، نشر كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” في العام (1968)، وتناول تحليلا ونقدا بطريقة عقلانية لا عاطفية أيديولوجية عصبية، البنية التحتية المنتجة للبنية الفوقية، وهما، بطبيعة الحال، بنيتان تتقاسمان مسؤولية هزائمنا. الشاعر نزار قباني نشر “هوامش على دفتر النكسة” (1967)، هذا إلى جانب الكتب الفكرية والمجموعات السياسية التي ظهرت وأدلت بدلوها في الشأن العام.
وعدا عن التباس علاقة سعدالله بالسلطة، فحياته قائمة على القلق والتوتر، بين شعارات “الجوع الى الحوار” و”نحن محكمون بالأمل” و”إننا مهزومون حتى العظم”، تبنى سعدالله مفهوم “مسرح التسييس″ بصفته مسرحا يتوّجه إلى جمهور مستلب الوعي، ويهدف، عبر أشكال اتصال مبتكرة، إلى “تسييس″ هذا الجمهور بما يهيئه للتغيير والثورة (بيانات لمسرح عربي جديد، بيروت، دار الفكر الجديد، 1988).
وركز في مسرحه على قضية المثقف وعلاقة المواطن بالسلطة. رصدها وناقشها وحللها في أعمال متعددة. وأبعد من ذلك، ارتبط اسمه ارتباطا عضويا بالهزيمة، فأثناء دراسته في القاهرة وقع الانفصال في الوحدة بين مصر وسوريا مما أثر كثيرا عليه، وكانت هذه الواقعة بمثابة هزة شخصية كبيرة دفعت به إلى كتابة أولى مسرحياته والتي لم تنشر حتى الآن، وكانت مسرحية طويلة بعنوان “الحياة أبدا” عام 1961. بعد ثلاث سنوات من العمل في مجلة “المعرفة” تركز اهتمامه على المسرح، وعندما سنحت له الفرصة سافر عام 1966 في إجازة دراسية إلى باريس لدراسة الأدب المسرحي في معهد الدراسات المسرحية التابع لجامعة السوربون. وهناك وصلته أنباء هزيمة 1967 فاعتبرها هزيمة شخصية له.
وعبّر عن ألم هذه الهزيمة في مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” (1968)، وفي تلك الفترة عاد إلى دمشق يعاني آلاما نفسية مبرّحة، جعلته يصف الشهور الأربعة التي قضاها فيها بعبارة “في بؤس تام وفي شبه غيبوبة”. وما لبث أن عاد بعدها إلى فرنسا التي سرعان ما شدته الحياة الفكرية فيها وأخرجته من عزلته. أنهى ونوس دراسته في فرنسا عام 1968 وعاد إلى دمشق، فعُيِّن رئيسا لتحرير مجلة “أسامة” الخاصة بالأطفال، بالتزامن مع سلسلة من المسرحيات.
يذكر ونوس في حوار أجرته معه ماري إلياس (“الطريق”، كانون الثاني – شباط 1996)، أن أعمال تلك المرحلة (“حفلة سمر..”، و”الفيل يا ملك الزمان”، و”الملك هو الملك”) كان يجمعها ملمح عام هو إيمان بالقدرة على التدخل في التاريخ وأحداثه، وهو إيمان نبع من افتراض أن توسيع هامش الديمقراطية في المجتمعات العربية أمر ممكن، وأن فرص الحوار متاحة. بعد هزيمة 1967 كانت الحرب الأهلية في لبنان التي أعادت ونوس من بيروت إلى دمشق بعد عمله لفترة في جريدة “السفير”، ثم تأتي اتفاقية كامب ديفيد ليكون لها وقعها الصادم في مسيرة ونوس. “أنا الجنازة والمشيعون معا” هكذا وصف شعوره بعد زيارة أنور السادات إلى القدس، فتوقف عن الكتابة. هزيمة 1967 دفعت ونوس إلى الكتابة، واتفاقية السلام جعلته يلجأ إلى الصمت.
وزاد من وتيرة هذا الصمت الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، الذي حضر جزءا منه خلال عمله في القسم الثقافي في جريدة “السفير”. لكنه آثر مع أول فرصة أن ينجو من الحصار قبل أن يشتد، ورجع إلى دمشق بصحبة الناقد الفلسطيني فيصل دراج. ليعود ونوس إلى الكتابة في أوائل التسعينات بمجموعة من المسرحيات السياسية بدءا بمسرحية “الاغتصاب” (1990) التي تدور حول الصراع العربي الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين كتب “منمنمات تاريخية” (1994)، “طقوس الإشارات والتحولات” (1944)، “أحلام شقية” (1995)، “يوم من زماننا” (1995)، وأخيرا “ملحمة السراب” (1996) و”بلاد أضيق من الحب” (1996).. كان للتحولات التي حصلت في بداية التسعينات أثرها الكبير على ونوس، فعندما وقعت حرب الخليج (1990) عدها الضربة الأخيرة الموجعة.
يقول “أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق”. عن هذه المرحلة يقول الروائي الراحل عبدالرحمن منيف فى تقديمه للأعمال الكاملة لونوس (دار الأهالي) “لا يكتفي سعدالله ونوس في المرحلة الجديدة بالدور السياسي للمسرح، أو بالموضوعات التي شغلته في وقت سابق. إذ يطيل وقفته في رحاب التاريخ بعد أن قرأ الكثير من أجزائه في عقد التأمل والمراجعة. وقد فعل ذلك بهدف المعرفة والاكتشاف. وبنظرة نقدية كي يستقي عددا من دروسه وعبره بعيدا عن ضجة الاحتفال. وبنزاهة الذي يريد أن يعرف ويتعلم قبل أن يلقي الدروس على الآخرين. ولذلك كان رائدا. وكان صادقا في ما اختاره من هذا التاريخ”.
وإذا كانت علاقة ونوس بالنظام السوري فيها شيء من اللا وضوح أو المواربة أو الهروب، فونوس في مسيرته كانت له مواقف منتقدة لسياقي الدكتاتوريات عموما والناصرية تحديدا، فهو وإن شعر باليتم حين رحل عبدالناصر، وعبر عن هذا الشعور حتى بعد سنوات حين زار ضريح عبدالناصر برفقة الكاتبة المصرية عبلة الرويني، لكنه قال في رسالة للأخيرة بخصوص نقد الناصرية “وتعرفين أن ثمة أخطاء، وثمة سلبيات، وأن انتماءنا إلى الثورة ودفاعنا الحقيقي عنها، لا يكونان بالدفاع عن الأخطاء والإغضاء عن السلبيات.. والمسألة ليست إيمانا دينيا! إننا نكتب وبكثير من المشقة، لكي ندافع عن المستقبل، وليس لنحرق البخور حول الماضي! أريد ثورة يوليو، ولكن دون ما ارتكبته من أخطاء، ودون تنظيمها الفردي والبوليسي والشعائري”.
والخلاف مع الناصرية في جوهره ثقافي – تنويري، عندما صدرت مجلة “قضايا وشهادات” 1990 خُصص العدد الأول لطه حسين، كتب سعدالله ونوس افتتاحية العدد، مشيرا إلى التعارض الجذري بين موقف ثورة يوليو وموقف طه حسين، وتهميش ثورة يوليو (ضيقة الأفق)! لفكر طه حسين ودوره وفاعليته كمثقف! وحين كان يفترض أن يزدهر مشروع طه حسين وكتابه “في الشعر الجاهلي”، وكان من أبرز ملامحه، كما رأى ونوس “نقل النظرة إلى التراث من الحيز اللاهوتي، الذي يقدس الماضي، إلى الحيز التاريخي الذي يرى الماضي صيرورة موضوعية ينبغي أن تخضع لمناهج التحليل والنقد، ومواجهة التزمت الديني ورفض مداخلة الدين للسياسة، والإيمان بوحدة الثقافة الإنسانية” (“قضايا وشهادات”، العدد الأول، ربيع 1990). لكن طه حسين المشروع “دفع إلى زاوية مهملة فخفت صوته وخبا ضوؤه”!
وونوس الذي أظهرت بداياته أنه كان يميل إلى التعابير الوجودية، نقرأ في رسائله إلى إبراهيم وطفي عبارة مضادة لما قاله قبل رحيله “إننا محكومون باليأس″ بدلا من “الأمل”. وفي رسالة لاحقة، يكتب “أعتزم كتابة بضع مقالات عن مفاسد الشيوعية ومباذلها وعن موقفها من الفرد”(وطفي – أعبد الحياة/ رواية حياة في رسائل). ولاحقا كان محسوبا على الماركسيين، وفي سنواته الأخيرة كان يدافع عن الليبرالية “بمعناها السياسي العميق، بمعنى الحرية والعقلانية والمجتمع المدني والمشاركة في مصير هذه البلاد…”، ويتساءل “ألم تكن واحدة من أخطائنا الكبيرة نحن الماركسيين أننا لم نقدر تراث الليبرالية حق قدره” (من رسائل ونوس إلى عبلة الرويني).
هذا هو سعدالله ونوس في أقنعته المتعددة، في مسرحيته الأخيرة “الأيام المخمورة”، يقول على لسان الأرجوز “حين تعلم الانسان كيف يحول مصائبه إلى حكايات تتقاسمها الآذان.. والأيام.. والأزمان. كان يكشف بلسما سحريا للجروح والآلام..”. وهو حوّل الحديث عن السرطان إلى حكاية، وفي الوقت نفسه تحول السرطان إلى أيديولوجيا، نلمح طيفها “الأسطوري” في كثرة الكتابات عن ونوس.