الهلوسة بالماضي
النوستالجيا مصطلح يستعمل لوصف الحنين إلى الماضي، وأصل الكلمة يعود إلى اللغة اليونانية إذ تشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه إلى العودة لبيته، وخوفه من عدم تمكنه من ذلك إلى الأبد. تم وصفها على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة. في الغالب النوستالجيا هي حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها.
لكن هذه القراءة لا تقبل بالأمر الواقع كما هو؛ لكنها أيضا لا ترفضها كلياً، إذ يوجد شق أول إيجابي فيها يدعو إلى مقاربة التراث وهو ما أشار إليه تييري هنتش بقوله “لا بد لنا… أن نبدأ استقصاءنا بالعودة إلى الينابيع″ إذن هناك تراث مهم لا بد من معرفته واستقصائه، لكن أيضا هناك شق سلبي لا بد من إدخاله في خانة النقد، وذلك لا يتم لطالما أن هناك توظيفاً سياسياً تبجيلياً بل تضخيمياً إلى جزء من التراث تتم استعادته وتوظيفه وتخزينه وتعليمه من دون مُساءلة.
وبالآتي فهو ليس غريباً ولا عيباً أن توصف شعوب الشرق عموماً -مجتمعات وأفرادـ بأنها تمتلك طاقات ومخزوناً هائلاً من الحنين إلى الماضي، لكن هذا الحنين ليس بريئاً بل هو حالة لها مسوّغاتها وبالآتي يبدو السؤال ضرورياً حول مشروعيّة الحنين الدائم إلى الماضي من قبل شعوب الشرق وخصوصا العربية منها التي تحوّلت إلى حالة يرثى لها بل تحول تعلقها بالماضي إلى شرنقة تضيق كل يوم وتعيق اندماجنا السويّ بالحاضر، وفتح آفاق واسعة ورحبة وجديدة لثقافتنا المعاصرة.
إن ما يقتل الناس، كما الذي يحييهم، هو الأفكار، فالأفكار المنحرفة هي أشد خطراً من أيّ سلاح من أسلحة الدمار الشامل بل إنها تورّث التلوث إلى أجيال مقبلة، وقد تحول إلى شرنقة تضيق كل يوم حتى تجعل الحياة مستحيلة.
لكن كل هذه الحالة أي الحنين ليس مرضاً بقدر ما هي فعل مصطنع مخطط له كما يصفها بودريان “لم يعد لأشياء الحياة وموضوعاتها من قيمة بحد ذاتها زمن واقعية بذاتها، بل صارت قيمتها من قدرتها بفعل التوليد الإعلامي على غواية الناس″، فهذه الغواية موجودة بفعل السلطات السياسية وبعض مؤسسات المجتمع الأهلي التي تدعمها وتتآزر معها، وقد وصفها فوكو ومن قبله نيتشه أي أن القمع الأيديولوجي “بمثابة الغبار أو النقع الذي تثيره سنابك الخيل في المعركة”، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة بل هو أعمق من هذا لكن القانون الذي جاءت به تلك السلطات القبليّة والطائفيّة كان مجرد غطاء يحتوي لا شرعيتها، التي تحاول أن تأصّله في بحث محموم عن الشرعية في دعم قراءة تعظِم الماضي بعيون الناس على حساب الحاضر. وبالآتي فالأمر ليس مقصوداً ومبرمجاً؛ فيصبح هذا الانشداد المرضي إلى الماضي باسم الهوية عبارة عن عودة مصطنعة من قبل السلطات السياسية، كما تتجلى في الإعلام والتربية والمؤسسات الدينيّة التي اعتمدتها تلك السلطات السياسية في الدول العربية، والتي كانت تبحث عن الشرعيّة التي تفتقدها بفعل الاستبداد والفساد وتخلف الواقع العربي الذي غرق بالمشاكل التنموية والاجتماعية.
فهذه الهلوسة الأيديولوجيّة في استعادة الماضي لم تخلِف سوى مزيد من التشويه للماضي والحاضر معا؛ مما ولّد عقولاً تفكر بطريقة مقلوبة تريد خلق المستحيل بتحويل الحاضر الذي يتم تزييفه باستعادة الماضي المتمثل بـ”الخلافة ” وما ارتبط بها من عوالم تخيليّة يتم اصطناعها في المدونات الدينيّة والثقافيّة حتى تكون بديلاً عن الواقع العربي، فخلق التجييش للمشاعر يعدّ من الوعي المغترب عن الواقع بل يعمل على رفضه وتكفيره وكانت لهذا آثار عنيفة مولدة المزيد من العنف والكراهية، والدليل على ذلك هذه العقول التي حوّلتها مؤسسات الدول العربية إلى أجيال ممسوخة إرهابية تريد تدمير الحاضر من أجل استعادة حوادث الماضي إذ المجازر والحروب المذهبية التي تعمِق التخلف والهمجيّة لحاضرنا وتمثل تشويها لماضينا. وتعدّ كل مخالف أما منافق أو فاسق بل إنها حاضرة في كثير من المدونات الأصولية التي تتمركز في نفي كل مخالف لها من المسلمين بوصفه منافقاً كما يقول محمد بن عبدالوهاب في تفسير كلمة التوحيد “فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار مع كونهم يصلون ويصومون”.
هذه الرؤية تشكِل اليوم حاضراً لا يمكن نفيه وهو بحاجة إلى المساءلة النقديّة وليس الاكتفاء باستدخالها أم باستيعابها فقط؛ لأن الأمر ليس شكلياً بل هو حضور مدمّر. على الرغم من كونها ليست القراءة الوحيدة إلا أنها القراءة الأنموذج والأكثر إمعاناً في دروب العنف التي تنفي الحاضر وتغوص في الماضي ورهاناته.
من هنا تأتي ضرورة المساءلة النقديّة فهي لا تنظر إلى العقل بوصفه مستودعاً مجرداً للمقولات الجاهزة الثابتة بل بوصفه حقلاً للفكر تنبسط فيه دينامية الوجود التاريخية، تلك التي تُقبل فيها وبها حقيقة الكون إقبالاً لا يعرف الانقطاع، ولا يمكننا التنبؤ بمجراه وهو أيضاً الإقبال الذي يتم في المجالات المختلفة لتأصله الزمني والعلائقي.