الهويات المجروحة

هل اللغة مجرد كلب حراسة
الثلاثاء 2019/01/01
تفصيل - عبدالكريم مجدل

جميع الهويات راحلة، متنقلة، لا توجد هوية مقفلة، مشمّعة الأبواب، والهويات القوية هي تلك التي تمارس الترحال في مغامرة المستقبل دون أن تقطع مع الماضي، الرحلة لا تخيف الهويات، الذي يخيف الهويات هو التقوقع، هو التحجر توأم الموت.

هناك سفر شقاء الهوية، لأن كل هوية هي على سفر وفي الحل والترحال هي على موعد مع هويات أخرى، تتقاطع معها، تقاطعها، تتصارع معها، تتعانق معها، وفي هذا الحراك تتم زحزحة بعض ريش الهوية وفيه أيضا ينبت ريش آخر لتحليق آخر.

و اللغات هي موطن الهوية وهي “كلب” الحراسة عليها، في اللغة تنمو الهوية، فيها تنام وتصحو، واللغات هي نفسها معرضة لاختراقات سوسيو-ثقافية وسياسية، وللغات سلطات ولها سلطان، قد يتجلى في السياسة أو في الأدب أو في العلوم، ولا تكون اللغة “كلب” حراسة للهوية إلا إذا كانت قوية ومتجددة، قوية على المستوى العلمي والثقافي والفلسفي، غير ذلك تصبح اللغة “كصخرة” سيزيف يرفعها شعب حتى الأعلى ثم تسقط فيعيد الكرة ثانية وثالثة وأخرى دون أفق ودون خلاص.

و في هذه المقاربة سنحاول أن نقدم صورة للهوية المجروحة في بلدان الشمال الأفريقي، كل ذلك من خلال واقع اللغات المتصارعة والمتعايشة والمتنافسة، محاولين الوقوف على مدى سلطة كل لغة وما هي الصورة التي يشكلها المخيال في الشمال أفريقي عموما ( بالتدقيق بلدان المغرب الكبير) عن كل واحدة، وفي كل ذلك سنحلل مسألة تقاسم السلطات السياسية والثقافية والدينية والإدارية بين هذه اللغات ومن خلال هذه التقاسم المعلن تارة والمستتر تارة أخرى يتجلى لنا قلق الهوية وأيضا “سفرها” المتواصل بشقاء نحو المستقبل تارة ونحو أقاليم الماضي الغابرة تارة ثانية، وفي ظل هذا المخاض تتأسس النخب وتتعسكر في مجموعات للدفاع عن هذا الموقع أو ذاك، وتتراجع أولويات في خطاباتها وتتقدم أولويات أخرى.

أ_ اللغة العربية وسفر الهوية نحو المقدس: لا أحد يستطيع أن ينفي أو يشكك في وجود هذه اللغة منذ وصول العرب إلى شمال أفريقيا، يكون هذا قبل أربعة عشر قرنا، مع اهتزازات كبيرة في الوجود والتمكين، ولا أحد يمكنه أيضا أن ينكر بأن مصير هذه اللغة ارتبط منذ وصولها إلى أفريقيا الشمالية بالإسلام، لذلك ظلت مرتبطة في ذهنية المغاربي الأمازيغي، وهم السكان الأصليون الأتوكتون، منذ البدء بالمقدس الديني الإسلامي، وهو ما جعلها تستحوذ على بعض سلطات رمزية وثقافية كانت بحوزة نخب اللغة الأمازيغية لغة الساكنة الأصلية، وعلى الرغم من الصراع السياسي والعسكري الذي عقب وصول الإسلام والعربية إلى الشمال الأفريقي ومع أن الغلبة السياسية كانت في الأخير للغة العربية وللدين الجديد الذي حملها، إلا أن اللغة الأمازيغية ظلت تُسيّر وتدير الشأن اليومي المُنتِج، الفلاحي والتجاري والمعاملاتي والثقافي، أي الهامشي غير الرسمي، يقل وزنها أو يزيد من منطقة إلى أخرى، ومع تشكل الوطنية بمفهومها المعاصر، أي الغربي، ساهمت النخب الإصلاحية الدينية المعربة في المقاومة الثقافية الهوياتية التقليدية.

أنتجت اللغة العربية في شمال أفريقيا، ومنذ القرون الوسطى، أسماء كثيرة ومؤثرة في الحياة الثقافية والأدبية العربية على اختلاف حساسياتها السياسية والجمالية وشاركت في صناعة الحضارة العربية الحديثة والمعاصرة (ابن عربي، عبدالرحمن ابن خلدون، ابن بطوطة، الأمير عبدالقادر، الطاهر الحداد، الطاهر الجزائري، بيرم التونسي وغيرهم) مع ذلك ظلت هذه الأسماء مرتبطة في مخيال المغاربي المعاصر بالدين الإسلامي حتى وإن كانت “عقلانية”، لا لشيء إلا لأنها تستعمل لغة ارتبطت منذ خمسة عشر قرنا بالمقدس، وبالتالي ينظر إلى العربية في بلدان المغرب الكبير وفي الجزائر (النظرة العامة والغالبة) على أنها لغة الإصلاح الديني، وهي لغة الأخلاق والفقه، وهي لغة الجنة والجنازات وخطب الجمعة، وقد لا يتصور المغاربي الشمال أفريقي بأن كثيرا من أدباء العربية الكبار هم من المسيحيين العرب، فالعربي في المخيال المغاربي مرادف للمسلم، لاحقا تكرست صورة ارتباط العربية ونخبها بالمقدس الإسلامي باستعمالاتها الأيديولوجية والإعلامية الجديدة من قبل تيارات الإسلام السياسي المغاربي بمختلف حساسياته، وبمثل هذا الواقع السياسي والرمزي والأيديولوجي تراجعت اللغة العربية عن وجودها الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي والثقافي ليتم حصرها ومحاصرتها في البعد الديني وفي الرؤية التقليدية الماضوية.

لقد استغلت تيارات الإسلام السياسي هذا المخيال اللغوي واشتغلوا عليه فصادروا اللغة العربية لحسابهم الخاص، وحاولوا استعمالها كسلاح يعتمد المقدس لضرب خصومهم السياسيين من التيارات العلمانية والليبرالية والوطنية وذلك باتهامهم تارة بالتغريبيين وأخرى ببقايا الاستعمار أو الطابور الرابع لفرنسا.

لوحة عبدالكريم مجدل
لوحة عبدالكريم مجدل

ب_ اللغة الأمازيغية ونزيف الهوية الدائم: الأمازيغية هي اللغة الأصلية لأبناء البلد الأصليين من البرابرة الذين قدّموا الكثير للحضارة الأدبية العالمية قبل الفتح الإسلامي، ولعل أول رواية عرفتها البشرية هي رواية “الحمار الذهبي” التي كتبها أبوليوس الأمازيغي الجزائري (123-170 ميلادي)، وهو ابن مدينة مداوروش التابعة لإقليم ولاية سوق أهراس بالجزائر، ولد بالجزائر وعاش بليبيا ومات بتونس، وقد كتبها باللاتينية، وهي الأرض التي أعطت أيضا الفيلسوف والقديس سان أوغستين (354-430 ميلادية وهو ابن مدينة طاغاست سوق أهراس) صاحب التيار المسيحي المتميز ومؤلف كتب كثيرة من أهمها “مدينة الله”، واللغة الأمازيغية بكل لهجاتها القبائلية والشاوية والطوارقية والشلحية والمزابية.. هي اللغة التي قاومت وثبتت أمام جميع اللغات التي مرت على شمال أفريقيا على الرغم من القمع الذي مارسته ضدها السلطات المتعاقبة، وظلت تحتفظ حتى يومنا هذا بوجود ثقافي وأدبي وسياسي متميز في الخارطة السياسية والثقافية المغاربية، وهي اللغة التي ظلت مهمشة سياسيا ومحارَبة بيداغوجيا منذ مطلع الاستقلال في بلدان الشمال الأفريقي برمتها، وقد حاولت الأنظمة السياسية المتلاحقة ربطها بالفلكلور الغنائي، وخنقها داخل الشفوي، ومحاصرتها في مناطق محددة جغرافيا وسكانيا، وظلت الأمازيغية ممنوعة من التدريس، وفي مثل هذا الحال السياسي والثقافي تحولت اللغة والثقافة الأمازيغيتين إلى حلبة صراع سياسي بين الفرقاء الوطنيين منذ الظهير البربري العام 1930 بالمغرب الأقصى ومرورا بأزمة العام 1948 في الحركة الوطنية الجزائرية ليستمر حتى الآن بأشكال وبأساليب مختلفة، ومنذ الساعات الأولى للاستقلال وحتى الحراك الريفي بالمغرب ستتشكل جبهة سياسية ثقافية تتوارثها الأجيال المغاربية المتلاحقة مهمتها الدفاع عن الهوية من خلال ترقية اللغة والثقافة الأمازيغيتين متخذة من ذلك جوهر مشروعها السياسي، وقد وصل الصراع قمته ما بين السلطة والمعارضة الأمازيغية في الجزائر في أحداث ما سمي تاريخيا بـ”الربيع الأمازيغي”، في مارس 1980 والذي كان سببه منع محاضرة كانت مبرمجة بمدينة تيزي وزو لمولود معمري (توفي العام 1989) أحد أشهر الكتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية من جيل محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وآسيا جبار وأحد أهم الباحثين الأنتروبولوجيين في تاريخ الثقافة واللغة الأمازيغية، لقد كان الربيع الأمازيغي المنعطف الثقافي الذي عليه تأسس الطرح الجديد مع جيل من النخب الجديدة المدافعة عن بعد للهوية من خلال اللغة الأمازيغية، وهو المطالبة برفع مرتبة اللغة الأمازيغية إلى مرتبة اللغة العربية سياسيا وتربويا وإداريا ودستوريا، وبالموازاة مع هذا الحراك السياسي ظهر إنتاج أدب شعري وقصصي وروائي ومسرحي متميز باللغة الأمازيغية خاصة في الجزائر والمغرب، كما نشطت الترجمة لكثير من الأعمال الأدبية العالمية إلى هذه اللغة كرواية “العجوز والبحر” لهيمنغواي و”النبي” لجبران خليل جبران و”هاملت” لشكسبير و”الأمير الصغير” لسانت إيكزوبيري و”ابن الفقير” لمولود فرعون و”الغريب” لألبير كامو كما تمت ترجمة القرآن أيضا إلى اللغة الأمازيغية وهي ترجمات عديدة، وأنتجت أفلام كثيرة باللغة الأمازيغية كان أولها فيلم “الربوة المنسية” وهو فيلم روائي طويل للمخرج عبدالرحمن بوقرموح والمقتبس عن رواية مولود معمري التي تحمل ذات العنوان ونشط المسرح ونشطت أيضا حركة النشر باللغة الأمازيغية.

 ومع تطور الأحداث وتصارعها ودخول المجتمعات المغاربية في ما يسمى سوسيولوجيا وفلسفيا بمرحلة “الفوضى الخلاّقة” زحفت الهوية إلى مربع جديد آخر، ليعترف المغرب بدستورية اللغة الأمازيغية في دستوره لعام 2011 وتليه الجزائر لتقر بدستورية الأمازيغية لغة وطنية ورسمية في دستور 2016.

بذلك دخلت الهوية في الجزائر والمغرب مرحلة جديدة من ترحالها وأسئلتها.

ج_ مشرط الفرانكفونية والهوية المغاربية: تعد الجزائر البلد الفرانكفوني الأول بعد فرنسا، على الرغم من أنها ليست عضوا رسميا في المنظمة الدولية للفرانكوفونية، فاللغة الفرنسية لها حضور يشرف الآن على قرنين من الزمن في بلدان الشمال الأفريقي (دخلت جيوش فرنسا الاستعمارية الجزائر العام 1830)، وإذا كانت هذه اللغة قد جاءت مع جحافل الاستعمار الاستيطاني أو استعمار الحماية، جاءت في رائحة بارود المدافع وصراخ العسكريين، إلا أنها تحولت لاحقا إلى بندقية وطنية استعملها المثقفون والسياسيون من أجل المطالبة بالاستقلال، ووظفوها لمحاربة فرنسا نفسها، ولعل مقولة الروائي كاتب ياسين الشهيرة تعبر بشكل جيد عن هذا الحال حين سئل عن علاقته بالفرنسية وموقفه منها فأجاب: “اللغة الفرنسية غنيمة حرب”، ولم تتردد جبهة التحرير الوطني الجزائرية في عزّ الثورة التحريرية بأن تصدر صحيفتها “المجاهد” وهي لسان حال الثورة (صدرت في يونيو/ حزيران العام 1956) باللغة الفرنسية أولا، ثم بالعربية لاحقا.

إن واقع اللغة الفرنسية في البلدان المغاربية متفاوت الحضور إلا أنه وجود يدخل الهوية في سفر شقي آخر، في رحلة أخرى بأسئلة أخرى تطرح على الأنا وعلى الآخر، وقد شرّع المغاربي المعاصر معركة جديدة في “امتلاك” هذه اللغة، وذلك بـ”جزأرتها” (عند النخب الجزائرية) وبـ”تونستها” (لدى النخب التونسية) وبـ”مغربتها” (في المغرب الأقصى)، أي إخضاع هذه اللغة الغنيمة إلى تكسير إبداعي، وعنف لغوي محلي يتضح في الكثير من التراكيب والأساليب المحلية التي دخلت الإعلام ودخلت الأدب وبشكل خاص مع تجربة الكتابة لدى الجيل الجديد من الكتاب باللغة الفرنسية، جيل تكوّن في مدرسة الاستقلال المعرّبة وربما لم يسافر إلى فرنسا أصلا، ولعل أحد هذه الأمثلة الأدبية البارزة هو الروائي كمال داود (من مواليد 1970) الذي يعيش في الجزائر وهو خريج المدرسة الجزائرية والجامعة الجزائرية والذي تمكن من افتكاك جائزة الغونكور 2015 عن روايته “ميرصو تحقيق مضاد” الصادرة عن منشورات برزخ الجزائر وآكت سود فرنسا.

هل اللغة هي كلب الحراسة الأمين على الهوية؟

إذا كانت اللغة العربية في مخيال المغاربي هي صاحبة سلطة الدين وخطب الجمعة والجنة وحارسة المقدس، وأن الأمازيغية هي لغة الاحتجاج والنضال السياسي، فاللغة الفرنسية تظل هي لغة “الحكامة” (La Gouvernance) السياسية والاقتصادية والإدارية، لغة الحكم والحاكم، فهكذا إذن تتقاسم اللغات حراسة الهوية في البلدان المغاربية، في صراع مستمر بين النخب يأخذ أشكالا مختلفة حسب الأدوار المنوطة بكل لغة وفي كل مرحلة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.