الوجود قاعة انتظار!
اهتزت الأرض من تحت قدميّ وأنا ألتقي مع ابنتي الصغرى في محطة القطار حيث ذهبت لانتظارها. مرّ أكثر من شهر دون أن أسعد برؤيتها ولمّا عادت من جامعتها كان محرّما عليّ احتضانها وتقبيلها كما كنت أفعل عادة بحرارة.. وقف فايروس كورونا بيننا سدا منيعا. ما أصعب أن تكون مجبرا على ترك مسافة بينك وبين من تحب. ومع ذلك سعدت كثيرا لما أخبرتني في السيارة بأنها ستبقى معنا في البيت طيلة الحجر الذي سنبدأ في احترامه في اليوم الموالي.. بقاء عزيزتي كاميليا في البيت سيعوضني فرحة الاقتراب منها ورسم قبلاتي على جبينها.
منذ حصولها على شهادة البكالوريا وهي في سن السابعة عشرة، لم يسبق أن عاشت في البيت أكثر من أسبوع وها نحن في الأسبوع الثالث معا.. نقرأ معا، نشاهد الأفلام معا، ونمزح في كل الأوقات. اذكرها دائما بمقولتها وهي طفلة صغيرة لا تتجاوز العاشرة. كنا نتحدث عن فكرة مزج الإنسان بالآلة ونتائجه وغيرها من القضايا التي كان يبشر بها العبر-إنسانيون وكانت تلك الأفكار تبدو غريبة ومجنونة آنذاك. أين يمضي هذا العالم؟ قالت. وهو سؤال مطروح بحدة اليوم مع ظهور هذا الفايروس اللعين.
في الحجر تذكرت تلك الجملة الشهيرة التي كانت تكتب في مطلع كل موضوع إنشاء حينما كنا في المرحلة الابتدائية “نهضت باكرا غسلت وجهي بالماء الساخن والصابون وتناولت فطور الصباح…” ويكمل التلميذ حكاية بقية اليوم خارج البيت. أما أنا فقد أصبحت رجلا ماكثا في البيت لا أبرحه إلا لأسباب محددة مرسومة على ورقة عنوانها “تصريح بالخروج”.
ربما اقتناعي الكبير بفكرة العزل كوسيلة وحيدة لمكافحة الفايروس اللعين هو ما بعث في روحي الطاقة التي أواجه بها تلك الرغبة الجامحة في الخروج، أنا العاشق لركوب الدراجة الهوائية والتجول في الغابات. هذا الخطر المحدق بنا أعادني إلى الأساسيات، وكأنني اكتشفت فجأة أن ابنتي المولودة هنا بفرنسا لا تتحدث الدارجة الجزائرية وكل أحاديثنا كانت دائما منذ البداية باللغة الفرنسية وتأسّفت فجأة أنني لم أفلح في جعلها تتكلم العربية رغم أنني لم أكلمها هي وأختها الكبرى سارة وأخوهما رفيق إلا بالجزائرية حينما كانوا صغارا. ولكن لغة المولد تتغلب دائما في النهاية على لغة الأم والأب.
سألتني كاميليا في اليوم الثاني من الحجر وابتسامة ساخرة تعلو محيّاها: نحن نعرف بأنك تفضّل تحريق الجثث على الدفن الكلاسيكي. و لكن أنت شخصيا ما وصيتك؟ ضحكت وسألتها هل أنت خائفة على حياتي من الفايروس يا عزيزتي؟ إن متّ هنا في الغرب أوصيكم بحرق جثتي وإن غادرت الحياة في الجزائر لن يكون لي خيار آخر غير أن أدفن ككل الجزائريين بجانب أبي وأمي بمقبرة بلدتي. على الرغم من حياة الحجر وتهديد الفايروس وبعد ابنتي سارة التي تعيش بأميركا اللاتينية ورفيق الساكن في مدينة بعيدة عن مقر سكناي، فأنا مطمئن ومرتاح البال لكونهم أكثر مقاومة لهذا الداء بحكم سنهم. وتلك من حسنات هذا الفايروس الخبيث المطمئنة لقلبي.
ومع كل ما يترتب من تغييرات في برنامجي اليومي ومحدودية المكان الذي أتحرك فيه وحدود حريتي جراء هذا الحجر الضروري، أشعر بأنني في إقامة جبرية ناعمة مقارنة بكل الذين أمضوا جل حياتهم في السجون والمعتقلات العربية الرهيبة. لقد قرأت معظم الشهادات التي نشرها من مرّوا بتلك التجارب الفظيعة والتي ذاقوا فيها ما لا يطاق من التعذيب والتنكيل والإهانة. اطّلاعي مبكرا على ذلك التحمل المقاوم للطغيان كان له الاثر الكبير على نفسيتي وأشعر بأن ذلك ساهم في جعلي قليل التشكي وأكثر تحملا لمصاعب الوجود بل وأعتبر نفسي محظوظا.
لست مكترثا بتهديد هذا الفايروس ولا أشعر بأيّ قلق لأنني مؤمن بالعلم ولي ثقة عمياء في العلماء ومتيقن بأنهم سيجدون الدواء المناسب لإنقاذ البشرية. كنت خائفا من حدوث عطل إلكتروني عالمي عظيم قد يهزّ حركة الحياة في العالم بشكل عنيف ومفاجئ ويخلف ملايين الضحايا أرضا وجوا وبحرا، فجاء الخطب من فايروس ووهان الصينية ليخلط الأوراق ويحدث كارثة صحية.
من حسن حظنا أننا لا نعيش في عزلة رغم الحجر بفضل الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي.. أتجاذب أطراف الحديث كل يوم مع سارة ورفيق صوتا وصورة عبر الفايبر والواتساب..نقضي أحيانا السهرة معا رغم أنف المسافات، نسرد على مسامع بعضنا تجاربنا في الحجر وحيل كل واحد منا في مكافحته اليومية للضجر والكسل البدني المفروض. نتبادل النكت حول كورونا ونعلّق على قراءاتنا. تحدثنا في سهرة كاملة عن تفاصيل رواية الطاعون.. كأننا اليوم من شخصيات ألبير كامو التي تتصارع مع عدوّ غير مرئي في مدينة وهران. أصبحنا كلنا نسكن وهران مع كورونا الذي جاءنا من ووهان كما تقول ضاحكة سارة من المكسيك.
حينما أنظر من النافذة وأرى الدنيا مضربة في سكون رهيب ينتابني شعور عميق بالعبث واللاجدوى أحيانا. صمت العالم اللامعقول كما يقول كامو لم يعد في كتب الفلسفة وإنما في متناولي وعبر نافذتي. أصبح الوجود مجرد قاعة انتظار.