الولادة المدنية للإنسان
المواطنة موضوع وافد من الثقافة السياسية الغربية، بحمولة فكرية تاريخية، ترتبط بصيرورة تشكل الدولة الغربية الحديثة، عبر تاريخها الطويل، الممتد إلى الحقبة اليونانية. إذ لا يمكن تجاهل دور تأملات الفلاسفة الإغريق في تحديد المفاهيم الأولية للحداثة السياسية، كالحرية، القانون، الديمقراطية، العدالة، واهتمت الفلسفة السياسية اليونانية بتمييز المواطن وتحديد شروطه، خصوصا مع سياسة أرسطو الذي تعتبر أعماله السياسية بداية قوية لتشكل مفهوم المواطنة كمنظومة حقوق وواجبات تحدد وضعية المواطن وتؤطر أفعاله داخل الدولة.
ارتباط المواطنة بفلسفة الحقوق والواجبات سيجعل منها عنوانا بارزا لكل مشروع سياسي واجتماعي يريد النهوض بوضعية المواطن وتجويد الحياة السياسية. ولعل مشروع جون جاك روسو يعتبر واحدا من أبرز هذه المشاريع، حيث جعل من المواطنة بعثا مدنيا جديدا للكائن السياسي يتخلص بموجبه من مفاسد السياسة ويستطيع من خلاله تشييد الدولة الديمقراطية كدولة حرية ومساواة وعدالة.
المواطنة من المفاهيم الفلسفية السياسية التي نجدها حاضرة في انشغالات العديد من التخصصات المعرفية الأخرى. كعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية… ويرجع ذلك بالأساس إلى الطابع السياسي الحداثي للمفهوم، فهو يعكس بشكل جليّ تمركز الحياة الاجتماعية على الفرد -الإنسان الذي يضع القواعد والمبادئ التي ينتج من خلالها حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتعتبر قضية المواطنة من القضايا التي لازالت تستحوذ على الفكر الإنساني المعاصر، بل إنها من أبرز إشكاليات العالم اليوم الذي يسعى إلى تكريس حقوق الإنسان وتطويرها، وتوثيق الروابط بين المجتمعات والارتقاء بالمواطن والحد من تزايد النزاعات والصراعات السياسية والاجتماعية. لقد باتت المواطنة المعيار الأساسي الذي يتم توظيفه في قياس جودة الأنظمة السياسية والتنظيمات الاجتماعية والحكم على تحضر الدول وتقدم الأمم.
غير أن التطورات التي عرفها مفهوم المواطنة عبر صيرورة تشكله، زادت من تعقيد تركيبته المفاهيمية حيث صارت المواطنة كتلة من المفاهيم المتداخلة ذات الأبعاد الأخلاقية والسياسية والتاريخية والثقافية والكونية. هذا التشابك المفاهيمي للمواطنة مع مفاهيم ذات حمولة فكرية كثيفة كمفهوم الحرية، العقل، الدولة، القانون، المساواة، الديمقراطية..، طرح جملة من الصعوبات في ما يتعلق بالإحاطة بدلالة المواطنة وبالتالي ترجمتها إلى واقع اجتماعي يساهم في تغيير جذري للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة في العديد من الدول ومن بينها دول عالمنا العربي.
حرصت العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، على توضيحه وتفكيكه رغبة منها في تقريبه من وعينا العربي، واستدماجه في تربتنا السياسية العربية. غير أن هذا المفهوم لازال يتطلب مجهودات كبيرة من أجل تثبيته بشكل سليم في منظومة القيم العربية. في هذا الإطار سنحاول في هذا العمل الكشف عن الأبعاد الأخلاقية والسياسية والاجتماعية للمواطنة التي تبرزها كقيمة مركبة من قيم أخلاقية وسياسية لا بد من فهمها لكي نجد لها تقاطعا يتلاءم مع خصوصية قيمنا العربية. لأجل ذلك ارتأينا مقاربة الأسئلة التالية:
ماهي المواطنة؟ هل هي مجرد ارتباط ثقافي معطى داخل جماعة، أم أنها ارتباط مشروط بتوافر قيم إنسانية؟ هل هي مجرد صفة سياسية جاهزة أم وضع إنساني يتم بناؤه بمقومات أخلاقية واجتماعية وسياسية محددة؟ إذا كانت المواطنة وضعا إنسانيا مبنيا، ماهي شروط إنتاجه؟
إن مقاربة هذه الأسئلة ليس أمرا يسيرا نظرا للشساعة الدلالية لمفهوم المواطنة ونظرا لديناميكيته وحركيته التي تتدخل فيها مقتضيات السياقات التاريخية والثقافية والسياسية والفكرية. لذلك سنحاول أن نقتصر على استهداف لحظتين أساسيتين في تاريخ المفهوم، لحظة البداية ولحظة التشكل. وأظن أن تحليل اللحظتين يسعفنا في التعرف على أهم ملامح هذا المفهوم وإدراك أبرز شروطه. وهذا ما سيتطلب منا تسليط الضوء على نقطتين أساسيتين:
الأولى تتعلق بافتراض أن الإرهاصات الأولى للمواطنة ارتبطت بالتفكير السياسي اليوناني، مع الفلسفة السياسية الأرسطية التي يمكن اعتبارها محاولة أولى لتقديم مفهوم المواطنة من خلال الحرص على إبراز الصورة الحقيقية للمواطن في المدينة اليونانية. إضافة إلى كونها تجميعا منظما للتجربة السياسية اليونانية واعادة ترتيبها بشكل جد مكثف (1).
أما الثانية فتتعلق بافتراض أن تبلور المعنى السياسي والاجتماعي والإنساني للمواطنة بشكل عميق – والذي لازالت له امتدادات قوية في السياسة المعاصرة- ارتبط بالتحليل الفلسفي للمجتمع في نظرية العقد الاجتماعي، خصوصا مع جون جاك روسو الذي تعتبر نظريته في العقد الاجتماعي أكثر تأثيرا في الفكر السياسي الغربي، حيث وجهته نحو مراجعة جذرية للعديد من المفاهيم السياسية كمفهوم المواطن ومفهوم السلطة والقانون… وبالتالي توجيهه نحو تصور جديد للمواطنة، والحرص على تنزيله في الأرض السياسية لدرجة أن كتابه “العقد الاجتماعي” اعتبر إنجيلا للثورة الفرنسية (2).
في البدء كان المواطن
منذ أن أعلن أرسطو قولته الشهيرة “الإنسان حيوان سياسي”؛ والتي قصد بها أن الإنسان لا يكتمل وجوده إلا داخل المدينة؛ بدأ مفهوم المواطنة يشغل اهتمام أرسطو. لذلك سنجد في سياسته الإرهاصات الأولى لهذا المفهوم، من خلال محاولة تعريفه للمواطن في كتاب “السياسة”، والذي اعتبر فيه أن المواطن لا يتحدد بخاصية الإقامة فقط،،فهي وحدها غير كافية لتمييز المواطن، نظرا لكون بعض الفئات كالصناع والعبيد والنساء و.. هم أجزاء من المجتمع، يقيمون في المدينة، لكنهم يفتقرون لصفة المواطنة، فهم ليسوا مواطنين.
إن الذي يميز المواطن هو المشاركة في الوظائف والمهام السياسية، أي ذاك الذي يقوم بأدوار سياسية تتمثل في اتخاذ قرارات تهم تدبير شأن الجماعة التي ينتمي إليها سواء على مستوى وضع القوانين أو تنفيذها. يقول أرسطو “ندعو مواطن دولة من له في تلك الدولة حق الاشتراك في السلطة الاستشارية والسلطة القضائية” (3).
ومعلوم أن إقصاء أرسطو لهذه الفئات من صفة المواطنة له مبرراته التي لها علاقة بخصوصية المجتمع الأثيني في ذلك الوقت. فقد كان مجتمعا عبوديا، كما أن وضعية المرأة فيه كانت متدنية، حيث لم يكن التشريع الإغريقي يعترف بأهمية المرأة وبقيمتها الإنسانية التي اعتبرها أقل بكثير من الرجل.
أما موقف أرسطو من العبيد، والذي يساير فيه موقف أستاذه أفلاطون، فقد اعتبر فيه العبد عبدا بالطبيعة والسيد سيدا بالطبيعة. كما أن المرأة بالنسبة إليه هي أدني بالطبيعة من الرجل، ودورها لا يتعدى القيام بأشغال البيت وتزويده بالأطفال كما يزود العبد الأسرة بمتطلباتها (4).
إذن يتحدد المواطن في المنظور السياسي الأرسطي بمحددات عرقية، فهو يوناني الأصل، وأخرى جنسية فهو رجل وليس امرأة، وأخرى اجتماعية فهو ليس من طبقة العبيد أو الصناع أو.. إضافة إلى محدد سياسي وهو المشاركة في تدبير الشؤون العامة.
كما يتمتع المواطن بمجموعة من الحقوق الأخرى إلى جانب الحق السياسي كالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية التي على الدولة إن أرادت أن تكون فاضلة أن تصونها. وقد بين هذه الحقوق في مختلف أعماله السياسية كـ”دستور الأثينيين” و”كتاب السياسة” و”الأخلاق إلى نيقوماخوس”. كما شدد فيها على ضرورة إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين والحرص على التنشئة الاجتماعية السليمة التي تخول إعداد المواطن الصالح داخل المدينة الفاضلة.
وعليه فإن المواطنة لدى أرسطو صفة تتحدد بشروط عرقية وجنسية واجتماعية وسياسية، هذه الصفة التي تعبر عن علاقة قانونية بين الفرد – المواطن والمدينة، بموجبها يشارك في السلطة ويتمتع بمختلف الحقوق. لهذا أمكننا القول إن أرسطو في محاولته تحديد المواطن في علاقته بالسلطة يكون أول من وضع بذور مفهوم المواطنة بمعناه السياسي الضيق.
الظاهر أن مواطنة أرسطو مواطنة غير مكتملة، فهي مواطنة تفتقد للمواطنة نظرا لغياب أحد أهم مقومات المواطنة الكاملة وهو المقوم الاجتماعي الإنساني الذي يقتضي توفر المساواة والإنصاف والحرية لتقوية الإحساس بالانتماء إلى الجماعة السياسية. فمواطنة أرسطو تقصي العبيد والأجانب ممن ليسوا يونانيين والنساء وغيرهم من الفئات الأخرى، كالصناع والحرفيين والمزارعين..، هذه الفئات التي استبعدها أرسطو عن الحق السياسي في المشاركة في اتخاذ القرار ونزع عنها صفة المواطن. إنها مواطنة انتقائية واصطفائية وإقصائية تقوم على شروط عرقية وجنسية وطبقية، ظلت محكومة بنظرة ثنائية، تقابل بين المواطن وغيره ممن ليسوا مواطنين. فهي بهذا المعنى تواجد سياسي – سياسي أكثر منه تواجدا إنسانيا – سياسيا.
إن محاولة أرسطو تحديد ماهية المواطن، من حيث شروطه وصفاته وواجباته وحقوقه، تبرز بشكل جلي أن الفلسفة السياسية الأرسطية، رغم ميولاتها العقلانية، طغى عليها المعطى العرقي والطبقي في تصورها للمواطنة، حيث ظلت مسكونة بهاجس تحليل السياسة من زاوية مفهوم المواطن – اليوناني. لكن على الرغم من ذلك ستمهد للتفكير في علاقة الفرد – الانسان بالدولة، كعلاقة مشاركة في السلطة، وبالتالي بداية تشكل المعالم الكبرى للمواطنة التي ستتحدد كولادة مدنية جديدة للإنسان، خصوصا في نظرية العقد الاجتماعي. هذه النظرية التي ستعيد تأثيث الفكر السياسي الغربي بمفاهيم جديدة سعت من خلالها إلى تجاوز المنظور السياسي التقليدي المحكوم بنزعة تصنيفية ثنائية مهد إليها الفكر السياسي اليوناني منذ أفلاطون وعمقها التحليل الفلسفي السياسي الأرسطي، لمّا ميز بين المواطن وغير المواطن من العبيد والحرفيين و..، هذه الثنائية التي سنجد لها امتدادا قويا في الفكر السياسي الغربي القروسطي الذي حكمته ثنائية الكافر والمؤمن في تحديد موقع الفرد من المواطنة داخل الدولة الدينية.
إذن ما هو التطور الذي عرفه مفهوم المواطنة في نظرية العقد الاجتماعي والذي شكل ولادة مدنية جديدة للإنسان السياسي؟ ما المقصود بالولادة المدنية للإنسان؟ وماهي شروط تحققها؟
كلها أسئلة سنحاول مقاربتها من خلال تعقب صيرورة الولادة الثانية للكائن السياسي في نظرية العقد الاجتماعي لدى جون جاك روسو، أحد رواد هذه النظرية وأكثرهم تأثيرا في الفكر السياسي الغربي الأنواري.
الولادة المدنية للإنسان
مع جون جاك روسو ستتخذ المواطنة بعدا إنسانيا عميقا لكونها ستعبر بقوة عن الإنسان – المواطن الذي سيخرج من رحم الدولة الحديثة باعتبارها تنظيما اجتماعيا معقلنا يقوم على دعامتي الحرية والمساواة. فالوضعية السياسية للفرد ستتوحد بوضعيته الإنسانية لكونها سترتبط بشكل وثيق بمبادئ الحرية والعقل والواجب… بعيدا عن المحددات العرقية والدينية والطبقية….سيؤسس روسو لمواطنة جديدة انطلاقا من تعرية نقدية للمجتمع الحديث، كشف من خلالها عن مفاسده السياسية من جهة، لينتقل إلى تقديم المواطنة كانبثاق جديد لمدنية جديدة، من جهة أخرى، وذلك وفق شروط محددة.
الحلم الضائع
يشكل كتاب “أصل التفاوت” لحظة فكرية جد مهمة في الوعي السياسي لجون جاك روسو، ستكون وراء بلورة تصور جديد للمواطنة كولادة مدنية جديدة للإنسان. في هذه اللحظة سيوجه روسو سهام نقده إلى المجتمع السياسي الذي عاصره والذي توارت فيه المعالم الإنسانية للمواطنة. يقول روسو “لا يتوهم القراء أني أجرؤ على المباهاة بأني اهتديت إلى ما هو صعب الاهتداء إليه، لقد بدأت بسوق بعض البراهين، وحاولت الاعتماد على بعض الافتراضات لا أملا بحل المسألة، بل قصد إيضاحها وحصرها في نطاق حالها الراهنة” (5). وقد اعتمد روسو في ذلك على منهج نقدي مقارن قابل فيه بين إنسان ما قبل السياسة، الإنسان الطبيعي وإنسان السياسة، معلنا إعجابه بالإنسان الطبيعي وبحياته الطبيعية – وإن كان إنسان حالة الطبيعة مجرد افتراض – فهو كائن يحظى بقيم فطرية نبيلة مرتبطة بغرائز التعاطف والشفقة، إضافة إلى غريزة البقاء التي يحققها بتحصيل الطعام وتجنب الألم (6). وهذه الشروط هي التي جعلت منه كائنا سعيدا لا يعرف للتفاوت ولا للاستبداد ولا للعبودية معنى.
إن الاستبداد والعبودية والاستغلال إفرازات للمجتمع السياسي الحديث، كمجتمع اصطناعي متحضر، مجتمع العلم والصناعة الذي فتح أبواب التفاوت على مصراعيها – معلوم أن روسو ميز بين نوعين من التفاوت، تفاوت طبيعي، تفرضه الطبيعة: كالتفاوت على مستوى الجسم والعقل والقدرات… وتفاوت أدبي أو سياسي، ناتج عن احتكار امتيازات من طرف جماعة على حساب الأكثرية – من خلال احتكار السلطة والثروة والامتيازات؛ مما ساهم في توليد التمايزات وتفاقم مظاهر الاستغلال والتسلط. وتهييج مشاعر المنافسة الشرسة المتمركزة على الذات والتي تؤجج لهيب الأنانية المتوحشة وتزيد من هيمنة النزعة الفردانية التي تعطي الأولوية للمنفعة الشخصية على حساب المنفعة العامة وتبرر التنصل من المسؤولية وتفادي التضحية في سبيل مصلحة الجماعة. وكلها انحرافات اجتماعية ناتجة عن انزلا قات سياسية ساهمت في انتهاك الحقوق والمس بالكرامة وتبرير العبودية والاستبداد؛ لتجعل من المواطنة في بعدها الإنساني حلما مفقودا لدرجة أن المساواة صارت طموحا بعيد المنال، والحرية باتت أنشودة يرددها الناس كي تساعدهم على تحمل مختلف أشكال التسلط والقهر والإقصاء.
لقد أفسد المجتمع السياسي الحديث على الإنسان صفاء عيشه وهناء حياته التي كانت لديه في حالته الأصلية الطبيعية، لما ضاعت الحرية والمساواة في شذوذ السلطة وانحرافات القانون. إن نقد روسو للمجتمع الحديث يبرز أن للاجتماع الإنساني مفاسد جمة، إذا لم يتم الانتباه إليها من خلال الكشف عن مسبباتها ستضيع مقومات المواطنة بمعناها السياسي والإنساني.
من الواضح أن مجتمعاتنا العربية اليوم تجتمع فيها كل المفاسد الاجتماعية التي أبرزها روسو في نقده للمجتمع الغربي الحديث في القرن الثامن عشر، لذلك فإن هذه المجتمعات في أمس الحاجة إلى التصالح مع ذاتها من خلال مراجعة نفسها والوقوف بكل جرأة وشجاعة على فشلها الذريع في تشييد صرح المواطنة ومعه بناء الإنسان – المواطن. وذلك بالكشف الموضوعي عن الأسباب الحقيقية التي توجد وراء انزلاقاتها وانحرافاتها. ولعل من أبرزها تعميق التفاوت بين الأفراد عن طريق توزيع الامتيازات الريعية بحسب الانتماءات العرقية والسياسية والطائفية والطبقية قصد شراء الذمم والولاءات، حفاظا على استمرارية الاستبداد.
إن تعميق التفاوت هو العلة السياسية الحقيقية والموضوعية وراء تردي أوضاع المواطنة في معظم بلداننا العربية التي تعيش وهم الحداثة السياسية. فالمواطنة فيها تبقى مجرد فكرة، أو نظرية تعبر عن حلم من أحلام اليقظة، بعيدا كل البعد على أن يتحول إلى نمط اجتماعي للعيش أو مجرد كلمة يضعها السياسي المسؤول في حقيبته مع قنينة عطر ونظارات.. لينمق بها خطابه كما ينمق مظهره بنظاراته وعطره. ستظل هذه العلة قائمة ما لم يتم كشرط أول الاعتراف بخطورتها في تمزيق الرابطة الاجتماعية وتهديد التماسك الاجتماعي. ثم العمل كشرط ثان على وضع حد لتفاقمها وذلك من خلال تجديد التعاقدات والحرص على تنمية وعي الالتزام والمشاركة.
الولادة الثانية للإنسان
إن الوقفة الروسوية النقدية على المجتمع الحديث مهدت لإعلانه عن ولادة إنسان سياسي جديد ومجتمع جديد من خلال تجديد جذري لمفهوم المواطنة، وذلك في تحفته السياسية “العقد الاجتماعي”. فماهي الدلالة الجديدة للمواطنة والتي أعلنت عن ولادة مدنية أو ولادة سياسية ثانية للإنسان؟
إن فكرة المواطنة، كما تبلورت في ثنايا كتاب “العقد الاجتماعي”، تقوم على مبدأ محوري هو الالتزام بما تعاقدت عليه الجماعة كشرط لتقوية الانتماء إليها. وهذا ما يضفي على المواطنة ،من منظور روسو، صبغة أخلاقية وسياسية ووجدانية تجعل منها القوة التي تزيد الجماعة تماسكا وتلاحما؛ فهي الجدار الممانع لتطرف النزعة الفردانية الهائجة التي تعتبر العامل الرئيسي في إفساد الحياة الاجتماعية وتلويث الممارسة السياسية التي يتحول فيها مفهوم المواطن إلى معنى أجوف فارغ من دلالته الأخلاقية والسياسية ليصبح مجرد اسم على غير مسمّى.
إن الإنسان المدني الجديد، أو بالأحرى المواطن الجديد هو إنسان الالتزام بالقواعد والقوانين التي اتخذتها المدينة كموجهات أساسية لحياتها العامة. وهذا ما يتيح له اكتساب مميزات أخلاقية وفكرية ووجدانية خاصة. إنه إنسان الواجب الذي يستطيع أن يطوّع شهوته ويهذبها ليضع حدا لهمجية الأنانية وارتجالية المنفعة الشخصية التي تجلب المفاسد الاجتماعية والرذائل السياسية. هذا المولود السياسي هو “الشخص المدني” الذي يحترم ما تقتضيه الحياة العامة من قوانين وما تستوجبه من قواعد تمكنه من الاندماج سياسيا وأخلاقيا في الجسم الاجتماعي. الرجل المتأدب اجتماعيا الذي يستطيع التمييز بين فردانيته ذات النزوعات الأنانية التي تحكمها المنفعة الشخصية، وبين النزعة الجماعية التي تحكمها المصلحة العامة. فإنسان المدينة يعرف جيدا أين تتقاطع المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، أين تبدأ الحياة العامة وأين تنتهي الحياة الشخصية.
هذا الالتزام الذي يميز الكائن السياسي الجديد يخول توفير مناخ جماعي سياسي هو بمثابة فضاء يتيح للمواطن تطوير قدراته العقلية والمعرفية والفكرية والمهارية. وبتعبير أدق الإنسان المدني الجديد، كائن متطور ومبدع داخل صيرورة اجتماعية سياسية متوازنة يطبعها الحس الجماعي بدل الحس الفرداني الأناني. إنه إنسان حقيقي، بمظهر قانوني وجداني وأخلاقي وفكري يبرز سمو روح هذا الكائن المدني الجديد. وهذا ما صرح به روسو في قوله “هذا الانتقال من حال الطبيعة إلى حال المدنية أوجد في الإنسان تبدلا ملحوظا، إذ أحل في سلوكه العدل محل الوهم الفطري، وأكسب أفعاله أدبا كان يعوزه من قبل، عند ذاك فقط إذ حل صوت الواجب محل الباعث المحرك – الجسماني، والحق محل الشهوة” (7).
إن هذه الصفات التي تميز المواطن الجديد والتي تستمد منها المواطنة دلالتها الأخلاقية والسياسية لا تقدمها السماء هبة، ولا ينتظر تحققها معجزة، ولا يمكن أن تحل في المجتمع صدفة، بل هي مكاسب مدنية تحتاج إلى تحقق جملة من الشروط الأساسية، سيفيض فيها جون جاك روسو. فماهي هذه الشروط التي تحقق الولادة المدنية الجديدة للإنسان؟
في شروط الولادة المدنية للإنسان
العقد الاجتماعي كما تصوره روسو هو في جوهره تأسيس لوعي سياسي جديد يتغيّى تجديد العلاقات الاجتماعية والسياسية من خلال تنقية الرابطة الاجتماعية من شوائبها العرقية والاقتصادية والدينية، بإقامتها على التعاقد القانوني، وكذا تخليص علاقات السلطة من الاستبداد بإقامة السيادة على الحرية، على اعتبار أن الحرية هي الحالة الأصلية أو حالة ما قبل المجتمع، وهي الشرط الجوهري لتكوين المجتمع المدني، لأنه لو لم يكن الإنسان حيوانا حرا وفاعلا لمّا أسس مجتمعا مدنيا.
هذا الوعي العقلاني بالحياة المدنية، كحياة اجتماعية مشتركة، يمتلكها الجميع، وليست ملكا لأحد والجميع فيها شركاء وأحرار، من شأنه أن ينتج المواطنة كواقع اجتماعي، سياسي وإنساني، وفق جملة من الشروط.
تعتبر المواطنة حياة اجتماعية تعاقدية مشتركة يلتحم فيها الأفراد مشكلين جسما اجتماعيا واحدا. وشرط هذه الوحدة هو تعميم السيادة الذي يضع حدا للتحكم والسيطرة والاستعباد، بحيث لا يكون أحد سيدا على أحد. ويتأتى ذلك من خلال تمكين الجميع من حقه السياسي المتمثل في المشاركة في اتخاذ القرار، أو بالأحرى وضع القواعد والقوانين التي يتم من خلالها تدبير الحياة العامة. بهذا المعنى تتحقق الحرية والمساواة كشرطين أخلاقيين من شروط المواطنة الجديدة.
إن الحرية هي اتخاذ القرار والخضوع له في نفس الوقت، هي المشاركة في وضع القانون والامتثال له؛ وهذا ما يحقق الاستقلال التام للفرد عن إرادة فرد آخر. فعندما يشارك الجميع في وضع القرار يخضع الفرد للجميع ولا يخضع لأحد، أي أنه يخضع لإرادته التي أصبحت إرادة عامة. هكذا تأخذ الحرية في المواطنة الجديدة شكلين متكاملين، فهي من جهة أولى مشاركة سياسية في صنع القرار، كما أنها من جهة ثانية سلوك مدني هو بمثابة ترجمة عملية للإرادة العامة. إنها حرية أخلاقية من جهة خضوع الفرد لإرادته، كما أنها حرية مدنية من جهة امتثاله للقانون. أما المساواة فهي خضوع الجميع للقانون دون تمييز أو مفاضلة، مادام القانون منتوجا للجماعة يعبر عن إرادتها.
إن تحقق قيمتي الحرية والمساواة كدعامتين أساسيتين للمواطنة مشروط بتوفر شرط جوهري في القانون وهو الإرادة العامة، أي القانون الذي تضعه الجماعة وتتوافق عليه، حيث يخدم مصلحة الجميع ولا يتقيد بمصلحة شخصية. ومن أهم أدوار الدولة التي شدد عليها روسو هي حماية القانون ورعايته لأنها بذلك ترعى المصلحة العامة وتحمي الجماعة، فهي المنفذ للإرادة العامة الذي يحرص على ضمان الحقوق وصيانتها. أما إذا كان القانون معبرا عن إرادة شخص أو أقلية فهذا يعني انتفاء الحرية والمساواة، وإحلال الاستعباد والاستبداد والتفاضل السياسي وبالتالي ضياع المدنية وتشوه الكائن السياسي. فالقانون الذي لا يمثل الأمة ولا يمثل الإرادة العامة تتكسر على جدرانه كل قيم المواطنة. مثل هذه القوانين تنتهك الحقوق وتنسف الوجود الأخلاقي للجماعة وتعمق التفاوت وتشرع للامساواة وتخنق أنفاس الحرية لأنها تمأسس للعبودية.
ولكي يتحقق شرط الإرادة العامة في القانون لا بد من أن يكون مصدر تشريعه هو الجماعة نفسها. هذه الأخيرة التي تمثلها الأغلبية التي اعتبرها روسو القوة الوطنية العامة. هكذا يبرز الشرط الأخر من شروط المواطنة وهو الديمقراطية التي تكفل للجماعة وضع قوانينها الخاصة التي لها صلة قوية بحاجياتها المباشرة، وتمكنها من أن تحكم نفسها بنفسها من أجل نفسها. فالتشريع الديمقراطي وحده الكفيل بوضع حد لانفرادية القرار واستبداد الحاكم وضمان سيادة الأمة. ووفق هذا التنظيم الاجتماعي يصبح الأفراد أحرارا ومتساوون بالحق الوضعي، فتعتلي العدالة عرش المدينة.
غير أن الوجود المدني للإنسان لم يتحقق بالشكل الذي كان يرغب فيه، بفعل تجاوزات الإرادة الفردية وخروقاتها التي أعاقت ترجمة تلك الشروط إلى واقع اجتماعي سياسي حقيقي. ولعل الانحرافات السياسية التي تعيشها بعض الدول الرائدة في الديمقراطية، بفعل الاختراق السافر للمصالح الرأسمالية لجسم الديمقراطية، تشهد على ذلك. ومن ثم اختلفت نتائج العقد الاجتماعي عن الأهداف المنشودة منه. هكذا يتحمل الإنسان مسؤولية إفساد المدنية وإعاقة المفعولات الإنسانية للعقد الاجتماعي وإجهاض ولادته المدنية الجديدة.
خاتمة
يتضح أن المواطنة وضع إنساني سياسي جديد تجاوز حدود العرق والمعتقد والمقدس والدم والطبقة والجنس، التي تقيد بها في بداية نشأته، ليعبر عن تعايش الإرادات داخل صيرورة تحولات أخلاقية ومعرفية ووجدانية، ترتقي بوجود المواطن في مستواه الفردي وفي مستواه الاجتماعي، نحو الحرية والمساواة. ولن يتحقق هذا الوضع المنشود، أو بالأحرى الولادة الجديدة كوجود مدني جديد ينشده التعاقد الاجتماعي، إلا داخل سياق اجتماعي تعاقدي يفصل بين السيادة والإرادة الفردية، ويحول دون انحرافها. هذا الانحراف الذي يجر مختلف مفاسد الاجتماع السياسي، وخصوصا التفاوتات اللامشروعة والمفتعلة التي تضع حدا للمساواة وتقلص من حجم الحرية. وبالتالي تجهض ظهور المواطن كفاعل حر وأساسي في الحياة الاجتماعية والسياسية.
ينبغي إذن أن يتم اعتماد المواطنة، ليس فقط كمشروع سياسي، بل أيضا كمشروع اجتماعي إنساني يستوعب مختلف بنيات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حيث تكون المواطنة أسلوب عيش ونمط حياة، أي مدنية كاملة ومتكاملة تجدد نفسها بشكل مستمر في تناغم مع مختلف مكوناتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية