الياس خوري: أنبياء كذبة أصحاب الرسالات في الأدب
في اطار المشهد الثقافي والسياسي العاصف والمأزوم عربياً، سنوات بعد سقوط الايديولوجيات وانفجارها، يبدو أن العديد من الكتاب والمبدعين تخلوا عن قناعاتهم السابقة، لكن إلياس خوري لم يبرح مواقعه ولربما ازداد قناعة بمبادئه ولم تتغير منطلقاته. كيف ترى مستقبل الرواية العربية وسط موجات من المتغيرات؟
أولاً غير صحيح أنني لم اتغير أنا تغيرت، أنا تغيرت مثل الناس، لا يمكن أن أعيش من دون أن أتغير، سقوط أيدلوجيات و أنهيار الأنظمة وبالأخص الشيوعية، و تفكك الفكر القومي ،كل ذلك أثر بي بشكل كبير، فأنا، وللمرة الأولى، كنت ملتزما أيدلوجياً بطريقة مباشرة، لكن كنت أعيش في أجواء اليسار، كأغلب المثقفين ومازلنا، ولكن الفرق في نقدنا لليسار الذي كان يبدو، أحياناً، في غير مكانه، وبالأخص التجربة السوفييتية وقمع الحقائق في المعسكر الاشتراكي، ربما جعلنا هذا نبدو وكأننا ضد اليسار، لكن الحقيقة، أن نقدنا كان من موقف يساري، بمعنى من موقع إنساني، من موقع يرى الحرية هي القيمة الانسانية، وهي مرجع القيم الانسانية، وهذا لم يتغير. وبالتالي لم يتغير موقفي من اليسار. بهذا المعنى اليسار هو ضرورة أخلاقية أنا يساري لسبب أخلاقي، لانني أعتقد أن العالم الثالث تحت وحش الرأسمالية غير المنضبطة والفالتة من عقالها، هو غابة و ليس عالما عقلانيا، ولا هو بعالم يجد فيه الإنسان مكانه في خضم يحطم القيم الإنسانية. كما أن موقفي من العروبة لم يتغير، بمعنى أنني مازلت أعتقد أن العروبة هي رابطة ثقافية – سياسية كبرى تجمع العالم العربي، وهي ضرورة، لأن البديل من هذه الرابطة الثقافية هو التفكك والانهيار، و هذا ما نشهده الآن في أكثر من مكان في العالم العربي. العروبة التي أومن بها لم تُصنع في قوالب الفاشية الحزبية أو في قوالب الديكتاتورية العسكرية، هي عروبة ديمقراطية منفتحة وترى أن التقدم نحو شكل من أشكال الوحدة العربية هو الوسيلة الوحيدة كي لا يتعرض العالم العربي للهيمنة الخارجية ،كما يتعرض اليوم، وفي قلب هذا تقع قضية فلسطين، التي تبقى لي هي القضية الأولى والاخيرة والأساسية لإنسانية الانسان، وليس فقط قضية قومية. أنا لست مع فلسطين لأن فلسطين عربية ولأني عربي، أنا مع فلسطين لأنها قضية حق وعدالة، وأنا مع الحق و العدالة.
ولادة الرواية
أما بخصوص مستقبل الرواية العربية، لم يتوقع أحد أن الرواية ستشهد هذا النمو في الثقافة العربية، لكننا نحب الشعر و نقرأ الشعر، أنا أحب الشعر و قارئ للشعر بشكل أساسي، وأعتقد أن الشعر ضرورة للنثر، يعني كما علمتنا شهرزاد في كتاب "ألف ليلة وليلة" حين كانت تستخدم الشعر في قلب السرد القصصي، فكان الشعر يلعب دوراً في تثبيت المعنى، أي إعطاء المعنى للمعنى، وبالتالي فإن الشعر مكانته أساسية، ليس فقط في الثقافة العربية بل في ثقافة العالم كله. طبعاً يحتاج الإنسان أن يكون جريئاً جداً كي يكتب شعراً، لأن الشعر يخلص العالم، بينما السرد ينثر العالم. أنا أعتقد أن شيئاً ما حصل. سبق وكتبت نصاً عن الرواية في لبنان، واعتبرت أن الرواية ولدت في الحرب الاهلية، وتحولت إلى ظاهرة كبرى في الثقافة اللبنانية، وهي، بهذا المعنى، ظاهرة حديثة جداً، فقبل الحرب، كان هناك روائيون، ولكن لم تكن هناك حركة رواية. اليوم في لبنان حركة روائية كبرى، وربما من أكبر الحركات الروائية في العالم العربي إلى جانب الحركة الروائية المصرية، وكانت قناعتي أن الرواية ولدت من حطام الايديولوجيا المسيطرة، يعني كان لبنان مغطى بآيديولوجية لبنانوية شاعرية صنعها سعيد عقل والرحابنة، وهذا فرض محرمات و تابوهات على الكتابة فلم يكن الواحد يجرؤ على كسر حدود المحرم (أذكر مرة خلال نقاش مع إيميل حبيبي سألني كيف تتجرأ على وضع أسماء أبطال مسيحيين ومسلمين، في رواية "وجوه بيضاء").
أعتقد أن الانهيار الشامل للأيديولوجية اللبنانية المسيطرة فتح الباب أمام الأقتراب من المحرم، والشرط الروائي الأول تجاوز المحرمات، وبالأدق كتابة المحرمات والوصول إلى لب العلاقات الإنسانية. وبهذا المعنى فإن ما يجري اليوم في العالم العربي شبيه بما حصل في لبنان، نحن نشهد الإنهيار الشامل ليس فقط للإيديولوجيات ولكن أنهيار شامل للدول، وللأسف الشديد أنظمة المافيا والعسكرتاريا حطمت الدولة، كفكرة وكبنية، ونحن نشهد لحظة أنفجار مدوى، لحظة انفجار مروعة، وتحول جذري في الحياة السياسية العربية التي تنعكس، على كل جوانب حياتنا وأعتقد أن مقدمات الانهيار الشامل يمكن أن نجدها في الكتابة الروائية العربية. مرة أخرى أكرر، أنا ضد المقولة القائلة بأن الرواية تخلف الشعر، برأيي لا يوجد فن، يخلف فناً أخر، جميع الفنون تتعايش، الرواية تنهل من الشعر، مثلما الشعر ينهل من الرواية و يتكاملان تكاملاً عجيباً، وهذا ما أردت التأكيد عليه عبر إستخدامي للشعر الذي يتكاثف في روايتي، في مبنى الرواية نفسها أضع أبياتاً شعرية، ولا أكتب رواية شعرية، أعتقد أن الواقعية أكثر لاواقعية مما نعتقد، فيكفي أن نضع مرايا أمام الواقع لنكتشف أن الواقع عالم شاسع من الخيال الذي يتفوق على الخيال.
الأدب للمتعة
الرواية هي ما يذهب بنا إلى آخر لا نعرف ملامحه بالضبط سوى انه قارئ. كيف نصنع ثقافة مميزة لروايتنا؟ هل نرمي الطعم لذاكرة الآخر ونشيد له وعياً لا يمتلكه هو أصلاً؟ هل نحتفي معه بسعادة نصنعها من أجله؟ أم أننا نبدع الرواية ونترك الحبل على الغارب؟
في الحقيقة أنا لا أحب اصحاب الرسالات في الأدب، وأعتقد أن أصحاب الرسالات هم أنبياء كَذَبَة، ونحن لاحاجة لنا بأنبياء كذبة جدد، يكفينا ماحصلنا عليه، وآخر نبي، أو آخر شاعر نبي كان المتنبي، وهو كما كتب عنه أبو العلاء المعري (الشاعر بأل التعريف) وبعد المتنبي انتهت هذه الوجهة التي جعلت من الكتابة نبوة، ومن النبوة وسيلة إلى الملك، ومن الملك والنبوة أداتان للشعر، نجد هذا قديماً، أمرؤ القيس كان شاعراً وملكاً بالمعنى الرمزي للملك الذي فقد ملكه، ونجد ذلك عند سليمان الحبيب الذي كان ملكاً وشاعراً ونبياً، هذا الثلاثي الملك – النبي – الشاعر الذي نجده في التاريخ الكلاسيكي، لم يعد له مكان في زماننا على ما أعتقد، هو تراث جميل نعود إليه ونتمتع به ونقرأه. لذلك أنا أعتقد أن الأدب ليس صاحب رسالة، الأدب رسالته للأدب فقط.يعني الأدب متعة.
نحن كبشر نقضي حياتنا في رواية قصص لبعضنا بعضا، فالقصة هي سرير ومكان لتفتح الرغبات والمشاعر والخيال، لذلك نحن نروي، لذلك هدف الكتبة هو الكتابة والمتعة، ولا يوجد كتابة خارج زمنها وسياقها التاريخي، يعني أنا لما كتبت رواية (باب الشمس) كان المخطط كتابة رواية حب والله. لم يكن المخطط كتابة رواية نكبة، رواية عن رجل يعيش في مخيم شاتيلا وامرأته، وحبيبته تعيش في الجليل- فلسطين التي صارت (إسرائيل) بعد 1948، وكان عليه أن يخاطر بحياته، في كل مرة يريد أن يلتقي بهذه المرأة ويمارس معها الحب، فكان ثمن الحب هو الموت. هذه الفكرة العامة للرواية.
الشرط الروائي الأول تجاوز المحرمات، وبالأدق كتابة المحرمات والوصول إلى لب العلاقات الإنسانية
أبطالي لا يشبهونني
طبعاً ، كتبت هذه الرواية في سياقها التاريخي، وسياقها التاريخي هو النكبة، التي اعتبرت رواية النكبة الفلسطينية هي رواية حب، وليست رواية نكبة، تحوي تفاصيل النكبة وتفاصيل حب، ولكن كي تبني الحكاية كان لابد من بنائها في السياق التاريخي، والبناء في السياق التاريخي كان مفيداً، ففي باب الشمس إضاءَ على أشياء لم نكن نعلمها ونريد أن نتجاهلها، وأتحدث هنا عن العالم وليس فقط عنا نحن العرب. الغرب تفاجأ بوثيقة نادرة وتاريخية عن نكبة فلسطين وكأنهم لا يعرفون ماذا حدث، وهم فعلاً لا يعلمون، حتى نحن العرب وقسم من الفلسطينين لا يعرفون. لكن لم يكن هذا هدفاً، الهدف كان أن نكتب قصة في سياقها التاريخي، وأنا أشدد على ذلك. كي تكون أنتَ بن زمنك، ولا يمكن أن تكون ابن زمنك إلا بالمواقف الإنسانية الخاصة بزمنك، وإلا لا لزوم لكتابة أدب مالم تحب الناس، أنا أحب الناس وأكتب عنهم، وأنا لا اكتب عن ذاتي، أنا لا أتسلى بهم، هذا يعطي الرواية سياقاً اجتماعياً وتاريخياً وسياسياً، كذلك، فإن الهدف ليس نقل رسالة سياسية، أنا أنقل رسالة سياسية بمقال أفضل بكثير مما يمكن في رواية، اكتب ذلك كمواطن أحب أن أمارس مواطنتي بشكل كامل. وبصفتي مثقفاً، أتخذ مواقف وأكتب بشكل أسبوعي منذ أربعين عاماً، في منابر مختلفة، لأسجل موقفي كمواطن من الأحداث السياسة والاجتماعية والفكرية. أما عندما أكتب رواية فأنا أكتب قصة من أجل البحث عن هذا الانسان، الذي يوجد في داخلي وفي داخلك، في داخلنا كلنا، وبالتالي نتحول كلنا إلى مرايا لبعضنا بعضاً، ونكتشف أنفسنا من خلال الآخر، فأنا أكتشف نفسي من خلال أبطال رواياتي، أبطال رواياتي لا يشبهونني أنا لا أستحق، فهناك خطأ شائع بأن الأديب يكتب عن نفسه، لكن أنا أكتب عن أناس آخرين أعجب بهم ويستحقون أن أكتب عنهم، وأتعلم منهم، وفي كل رواية هناك رحلة عميقة نحو الآخر، وتصيبني بجروح في القلب، لأن الرواية تنتهي.
الوطن المنفى
المنطقة العربية تغلي بالأحداث السياسية المتسارعة، هل يتسرّب هذا القلق العام إلى نصّك، وهل نستطيع كشعراء وكتاب أن نبقى بعيدين عن "انفجار" بهذا الحجم يحدث حولنا؟
القلق يعيش بداخلي، جيلنا ولد فعلياً مع هزيمة 67 يعني في الحرب، وتفتحنا في العمل الفلسطيني المقاوم، يعني في الحرب، ثم نضجنا في الحرب الأهلية والأن نعيش الحرب، كل حياتي حرب، أنا شخص بصرف النظر عن التزامي السياسي، وأنا أعيش في بيروت، وهدوء بيروت وهمي، لم أغادر بيروت، وهذا كان خياري، لأني أعتقد أن المنفى ليس خياراً، تخرج إن كنت مكرهاً على الخروج، وبالرغم من الأيام الصعبة التي عشتها، وخصوصاً خلال الثمانينات، في فترة حرب المخيمات، وحملة الاغتيالات، التي تلتها، للكوادر الفلسطينية واللبنانية، وفي 2005، لكنني لم أكن مجبراً على الخروج، ربما تسألني أين تعيش الآن؟ أنا أعيش في المنفى، بلداننا مناف، وهو منفى مختلف، وأعتقد أنه المأساة أن تعيش في الخارج.
التطور في الرواية العربية ما زال موضوع سجال، والبعض يحاول أن ينفي الآخر، كيف تنظر إلى هذه المسألة؟
التجديد ليس ابتكاراً آلياً ينفي ما سبقه، وليس هناك قطيعة بين القديم والجديد، والذين يقولون بغير هذا فإن ذلك يصدر لديهم عن خلل في بنية الرؤيا التي تطرح هذه الأفكار، لأن التجارب الانسانية على الصعيد الأدبي هي تجارب متصلة في العمق، ومستفيدة من بعضها بعضاً، ومكملة لمشهد التجربة الانسانية، نحن لا نزعم بأن التجربة الروائية العربية الحديث قد خرجت من فراغ، لذلك كل التجارب اللاحقة هي تجارب من داخل هذه الثقافة الواسعة العميقة. البعض يعتقد أن المبدع هو ذاك الذي يبدأ من الصفر، وأن ما يكتبه هو، بحكم القيمة، مبني على إلغاء السابق، وتأسيس شيء جديد، هذا على الصعيد الفيزيائي غير ممكن، فما بالنا على صعيد النسيج الإنساني الشامل الذي يعتمد على ثقافة متعددة عبر الزمن والجغرافيا. إن كل جزئية من ثقافة في العالم هي عبارة عن هواء يستنشق منه المبدع لكي يصوغ تجربته، نحن نستطيع القول إن التجارب الإبداعية الجديدة هي إضافة نوعية تصقل التجربة، فأنا أحب نصوصا متعددة من كل العصور، يعني أن هناك إبداعاً بالطبع، لا يمكن أن أزعم أن ما أكتبه هو الإبداع، لو زعمت هذه الفكرة فيجب عليَّ أن لا أستنكر، بعد ذلك، من الجيل الذي يأتي بعدي، أن يكون من حقه أن ينفيني، أنا اعتبر نفسي اقتراحاً انسانياً جديداً، ارجو أن يكون جزءاً من هذا السياق التعبيري والإبداعي الواسع للبلاغة، أزعم ذلك وأتمنى أن يكون. من المؤكد أنني لا أستطيع أن أنفي ما قبلي لأنني لا أتوقع أن ينفيني ما بعدي.
|
شروط الكتابة
هل الكاتب بحاجة أحيانا الى "لغتين" كي يقول ما يريده؟ وهل يشعر من اختلافات في هذين الفضاءين اللذين يطير فيهما؟
لا أرى الأمر بهذه الطريقة. فليست ثمة لغتين في كتابة الرواية. بالنسبة إلي على الأقل سأكون نفس الشخص والطاقة والرؤية والتعبير في لحظة الكتابة. حتى عندما أكتب مقالاً للجريدة لا أستطيع التخلي عن الرواية. ربما تفاوتت درجة حضور الرواية (لغة ورؤيا) بين سياق وآخر، لكنها ستظل هناك دائماً. غير أن في كتابة المقال سأكون مثل شخص يذهب الى حديقة الشمس بقدمين ثملتين، في حين ذهابه الى نفس الحديقة (في حالة الرواية) سيراوح بحرية المخيلة بين الجذور والأجنحة، محلقاً بأجنحة كثيرة وأقدام لا تحصى تمسّ الأرض التي تشفّ هي الأخرى عن الأعالي حيث شاهق الروح و القلب.
بهذا المعنى أجد بأن شروط الكتابة عند الروائي سوف تختلف كثيراً عن شروطها عند الآخرين، وإلا فما الفرق بين أن يكتب نثراً في صيغة مقالة أو غيرها، وأن يكتب شخص آخر نفس النص؟ السر هو هنا، في هذه المنطقة الجنونية من لغة التعبير. إنني أثق دائماً في أن الشخص الذي كتب هذا النص يمكنه أن يكتب نصاً آخر أجمل منه. بقي أن أقول إن الفضاء الذي تتيحه الرواية هو من الرحابة حيث يسهم في صقل نزوعي العميق في تجاوز التخوم التي تتصل بمفهوم أنواع التعبير. وأظن أن هذه التجربة ساهمت في تنوير جوانب معتمة في عملية تقاطع أشكال التعبير الأدبية. وفي هذا إغناء لتنوع الأدوات في لحظة كتابة النص.
مسألة الترجمة
أما فيما يتعلق بترجمة أعمالي إلى لغات أخرى لتصبح من بين مصادر ثقافية غاية في التنوع غير المباشرة، فإنني أعتبر أن التأثر لا يكون مباشراً إلا إذا جاء من قراءة النص بلغته الأصلية، خصوصاً إذا كان رواية. والواقع أنه ليس من المتوقع أن تصدر تجربة كثيفة دون لغة تسعفها في الاتصال بالنص الأصلي. و بالطبع قرأت شعراً مترجماً إلى العربية عن لغات مختلفة، لأنني أمتلك لغات تسعفني في الذهاب إلى الأدب الأجنبي في مضانه. غير أنني كنت ولا أزال مولعاً بقراءة الشعر المترجم من شعوب مختلفة، وأتابع كل جديد بعناية بالغة. هذه متعة لا أفرط فيها أبداً.
ولا أكترث بالوهم الذي يصادر حرية الشاعر في أن يأخذ ما يشاء من أي جهة يحب وأي لغة أو أدب يتصل به. ليست لدي عقدة إزاء المزاعم التي تسبق النص والتجربة لكي تصادر أن يكتب الشاعر العربي الجديد بالشكل الذي يروق له، مهما كان مصدره أو مذهبه. فالتراث الإنساني هو تراثي على الاطلاق، أما الكلام عن الأفكار المستوردة فهو الآن نوع من السذاجة التي لا تليق بكائن يعيش هذا العصر، وليس من الحكمة إضاعة الوقت في نقاش حول كلام كهذا.
نقد جديد
كيف ترى إلى أدوات النقد الحديث ودرجات نضجه؟
لكأن أحكام القيمة (النقدية) تلك تكاد تصبح أحكاماً أخلاقية هي الأخرى. الحدود المقدسة في الفن هي أخلاق (سلطة) إضافية يتوجب التحرر منها والثقة في حقنا بنقضها جمالياً. وتكمن إشكالية النقد الحديث في عجزه عن التعامل مع التجارب الجديدة، فهناك تعثّر وبطء استيعاب من قبل الأدوات النقدية لتطور الرواية، مثلا، بالمعنى التقني، وبالتالي يحدث ارتباك كبير في التعامل مع النصوص الجديدة، فالناقد يأتي إلى النص الجديد محملاً بآليات عمل وأدوات نقدية أقدم من النص الذي بين يديه، ما يعيق فهم النص المصحوب بعناصر جديدة وطرح مختلف، لذلك تظهر النتائج مرتبكة، بالنسبة إلى النقاد، من ثم إلى القارئ. لذلك على النقد ألا يكون حكما مطلقاً بل حواراً أو اكتشافا لمكنونات التجربة الجديدة، فنحن لا نقدم تجربتنا الجديدة كمتهمين، وليس على النقاد أن يصيّروا أنفسهم قضاة لتجاربنا الجديدة تلك، ومن هنا كنت أرى أن المشهد النقدي وما يعقبه من محاولات نقدية يحتاج إلى فسحة من الزمن والمعرفة الجديدة التي تناسب ما ينجزه المبدعون العرب. وفي السنوات الأخيرة برزت تجارب نقدية مهمة جداً وجديدة ، وفي الحقيقة أنا أكثر تفاؤلاً على صعيد النقد هذه الأيام.
مغامرة الكتابة
في عصر ليس فيه أي طموحات سياسية، أو أحلام جماعية تتعلق بالمستقبل، وحتى لا يستباح هذا الحلم الشخصي والجماعي في آن، يتحول هذا الحلم السياسي الكامن إلى رموز ولغة عصية وغامضة. نوع من الحماية التلقائية. ووسط مناخ طائفي معاد، لا يرشح إلا لغة للخلاص. ماذا يفعل الكاتب؟
الروائي هدفه تغيير الواقع وإقلاق الأشكال الأدبية المسيطرة، الرواية تخلق البشر في أحوال معينة تحتمل الذروة، والحضيض، ثم تعيد خلقهم بعد انتهاء الاحتمال، كي يسوغوا وضعا إنسانيا جديدا، ينقل الأشياء من وضعها الشاذ إلى وضعها السوي، فالرواية الناجحة، بمقدار ما تعكس تصورات الأفراد لمجمل معاشهم، وتسوغ قانون الضرورة الذي لا تقوم الرواية بغيابه، أي أن تبدأ من نقطة وتتطور، ضرورياً وحتمياً، لتبلغ نهاية تختلف كليا عن نقطة البداية. أي أن تسير سيرا أفقيا.
من ناحية ثانية، تعد الشمولية شرطا أساسيا لكل عمل روائي، كما يعد شرط الرواية أن تجيب عن السؤال الكبير: لماذا حدث ذلك؟ وأن تنشر، أيضاً، الحياة الباطنية للشخصيات، فالصراع مع الذات هو ضرورة ماسة لكل رواية عظيمة، والصراع مع الواقع مبدأ أساسي في الرواية القادرة على اجتذاب القارئ. أما الرمز في الرواية فهو اختزال واجتراء لرؤية تدعي التعميم والاطلاق لظاهرة اجتماعية أو تاريخية (مكانية - زمانية) والرمز عملية جدلية إيحاء مكثف نوعا وكما، وما يحسم أمره هو طريقة استعماله.
الانهيار الشامل للأديولوجية اللبنانية المسيطرة فتح الباب للاقتراب من المحرم، والشرط الروائي الأول هو كتابة المحرمات والوصول إلى لب العلاقات الإنسانية
مخيلة القارئ
غاستون باشلار يقول:"المكان هو من يصنع مادة الذهن" . ماذا يفعل الزمان للذهن إذن؟. ولكي أقربك من وعي العبارة سنأخذ روايتك (باب الشمس) وهي كتبت عام 1998 . أنا درست رؤية الثورة في هذه الرواية وكان صوتها يتحدث عن مكان هو البلاد وبعض شخوص لكن الزمن ينفلت إلى أكثر من مكان. ماذا تقول؟
على الرغم من عدم وجود ذاكرةٍ جماعيةٍ بمعنى ذاكرة مجموعات، إلا أنَّ التأريخ لا بدَّ من أنْ يكون قابلاً للتداول العام، وذلك من أجل الشروع في تكوين معنى اجتماعي، حتى وإنْ كان قابلاً للتغيير. ولكي نكون أغنياء بصراحتنا ومحصنين ضد المزاعم، فان الكاتب ليس بالضرورة أن يكون مدركاً (بشكل مسبق، ولا حتى لاحقاً) لكل الملامح والمكونات المادية لكتابته، لأن ذلك يحدث عندما لا نكون قد قصدناه بالضبط. هذه هي الحقيقة، بالنسبة لي على الأقل. لذلك فان حضور المكان في نصي، كما تشير، هو شيء قد يكون حدث فيما بعد. فيما بعد الكاتب والرواية. القارئ خصوصاً هو الذي يقترح تأثيث مخيلته النشيطة بأدوات الرواية الافتراضية. الفلسطينيون الذى أقاموا قرية باب الشمس، على أراض صادرتها إسرائيل لبناء مشروع استيطاني، "هم أحفاد بطل روايتى يونس" ومعهم "يتجدد الحلم الفلسطيني"، ولا أزعم أنني سبق أن أدركت (بالمعنى النقدي للإدراك). وبالتالي لا أعرف كيف أدخل.
باب الشمس
في رواية "باب الشمس" هناك حركة خروج من اللّغة وعلى اللّغة، ما دعوناه بكلمة دولوزيّة (نسبة إلى الفيلسوف جيل دولوز) ترحيل المعاني والكلمات، يرافقها دخول في مناطق "عذراء" وغير سالكة من اللّغة ومن المعنى، من الذي يروي الحكاية؟ لماذا جعلتها تتجاوز نفسها؟ أو اقتربت من الطابع الملحمي في تصويرها؟
المشروع السردي لهذه الرواية هو واحد جامع، تلك الاستقلالية والانعتاق من الطرق التقليدية في ممارسة الكتابة، والهدف تفكيك العائلة المقدّسة المتمثلة في يونس الذي يجسّد الشخصيات التوراتية وصولا إلى المسيح، بل يتعدّاه ليشمل المستوى الثقافي الإجتماعي، السيكولوجي والعاطفي. من أجل كتابة الرواية عن الفلسطينيين إستمعت إلى عشرات النساء والرجال في مخيّمات برج البراجنة وشاتيلا وعين الحلوة. هذه الطريقة في تجميع الحقائق تبعد الرواية قليلا عن الأوهام.
يبدأ التفكيك بفعل الموت أولا: فالرواية تشهد على موت الشخصية الأساسية. في "باب الشمس" يموت الأب، يونس. موت كل هذه الشخصيات كحقيقة مكتملة لا عودة عنها يونس قابع في غيبوبة حالكة، القبر مثواها الأخير.
لا يكتمل هذا الموت من دون نزع موازٍ للقداسة التي ترافقه، لأن الموت أحيانا يُعلي من شأن الأشخاص الذين يتمتعون بشيء من البطولة، مما يحتم نقض دلالات الصور العديدة التي ترتسم في مخيلتنا الواعية وغير الواعية كتعبير عن انتهاك المقدس الأبدي لحياتنا المتقلبة والمؤجلة. لذا لا يكفي نقض الثالوث بل لابد من الفعل التهديمي، إلى السخرية والتشكيك كأدوات لكسر هالة القدسية التي تحيط به، محوّلا الأقانيم التي لا تمس إلى خرافات تعشش فيها التناقضات. دلالة على حتمية مصيرها السائر بها الى الهلاك: كل واحدة منها هي نفسها وشخص آخر. يونس يزدوج بخليل، لكن موت القطب الأول من كل شخصية موجب ليحيا القطب الثاني من الشخصية نفسها. هنا ينكشف الفعل الروائي عن كونه فعلا مناقضا للعبثية، وتصبح الحكاية نبض السرد الحي، به تعبر من الظلمة إلى النور كما خرج يونس أو يونان الأسطورة من بطن الحوت،⊇مجردا إياه من قدسيته، التي هي ركن التماسك الإجتماعي والسياسي. فالعائلة مفككة. يونس في المنفى في مخيمات اللاجئين في لبنان، ونهيلة تأبى الالتحاق به.
هي حكاية الحرب التي صنعها انهيار قيم الأمة العربية التي تدّعي البطولة (يونس)، وأم- أرض، مضطربة الأحشاء، لا تستطيع حماية أولادها (نهيلة).
رواية قاسية
في رواية "يالو" هناك تغليب العبارة على المقطع، والمقطع أو الفقرة المستقلّة على النصّ الطويل المتسلسل مزعوم التّكامل والانغلاق. كيف تحكي الحكاية؟
الحرب التي جرت في لبنان خلال الأعوام والتي تم الإعلان رسميا عن إنتهائها عبر إتفاق الطائف، لم تكن حرب الآخرين على أرض لبنان، بل كانت حربا أهلية. إنها رواية تروي حكاية التاريخ غير المروي لبيروت قبل وإبّان الحرب، مع رسم مشاهد فريدة لهذه الحرب من خلال شخصية "يالو" البطل الحقيقي لهذه الرواية. الرواية قاسية، مُرة، تتحدث عن بشاعة الفعل البشري، وعن تهتك العلاقات الاجتماعية، ومقدرة الناس على الإيذاء، الايذاء الشخصي والايذاء للآخرين، للوصول إلى هدف، مهما صغر أو كبر هذا الهدف. الـميكافيللية قاسية في هذه الرواية. والتعذيب أقسى. تعذيب النفس وتعذيب الآخرين.
حكاية الحرب
إلياس خوري كتب عن الضياع، ضياع الهوية، بمعناها الضيق وبمعناها الواسع: الهوية الشخصية والهوية الوطنية والهوية الإنسانية. بضياعها أصبح كل شيء مسموحا به: الحرب، القتل، السرقة، الاعتداء على الأطفال جنسياً، الاغتصاب، تعاطي الـمخدرات بكل أنواعها، الهروب، التعذيب بجميع أصناف التعذيب الـمبتكرة بأحدث أنواع الـماركات التجارية الـمسجلة عالـمياً وهي قنينة كوكاكولا، الحب العذري، والحب الفاسق، الـممارسات الجنسية خارج الإطار الشرعي، اللاانتماء، العزلة والغربة عن الـمجتمع.. موضوعات شتى؟
في السجن يكتب يالو قصة حياته مرات عديدة، فيكتشف الكلمة التي أعادت خلقه من جديد، لذا يكتب قصة حياته لتكون عبرة لمن يعتبر، يكتبها من أولها إلى آخرها. ومع توالي القراءة يشف النص عن محتواه مضيئاً عنوانه "حكاية يالو يا سيدي حكاية اسمها الحرب" حكاية يخلص فيها الواقع، واقع الحرب الأهلية في لبنان، فيغدو النص عنواناً، والعنوان نصاً في دلالة كل منهما على الآخر .فالحكاية لا تخص يالو وحده، فهو فرد ضمن أسرته ومجتمعه وبيئته التي يعيش فيها، إنها بيئة الحرب التي خطت المستقبل الأسود للشباب اللبنانيين، فيالو صار مقاتلاً مثل آلاف الشباب الذين تركوا دراستهم، وذهبوا إلى المصير الذي صنعته لهم الحرب".وحين يكتب يالو حكايته يكتبها بالتفصيل، يكتب كل شيء عن "جده وأمه، وإلياس الشامي، حكايات بلونة وعشاقها، والمتفجرات…". يكتب يالو حكايته من أولها إلى آخرها أسود على أبيض.
شخص مفرد
في كل مكان هناك نوع من الاستقطابات، أو الجماعات الأدبية، وفي الغالب تلتف حول مركز أو مطبوع أدبي، هل تتمتع بحظوة خاصة؟
أنا لا أحسب نفسي على جماعة أدبية معينة، وأفترض أن فعل التمركز يرتبط بوجود طرفين متناقضين: الأنا في مقابل الآخر، حيث ترتسم من خلال هذه الثنائية حدود التعالي/الانتقاص في كل الخطابات التي تمثل أي ذات، ويتم تركيب صورة منتقصة وهزيلة للمغاير، في حين يتم تركيب صورة عن الأنا حدودها النقاء والقوة والأفضلية، وبهذا المعنى فإن الانحياز يختلف عن التأييد الذي يعني الدعم المنطلق من موقع محايد، كما يختلف عن التحيز الذي يعني الدعم ولكنه دعم ينطلق من موقع المتضامن، وليس من موقع المحايد، أو موقع المنحاز.
يحتاج الإنسان أن يكون جريئاً جدا كي يكتب شعراً لأن الشعر يلخص العالم، بينما السرد ينثره
قضية فلسطين
هوية القضية الفلسطينيّة كانت تتأرجح بين محور الممانعة والصمود متمثلاً في إيران وسوريا، ثم محور الاعتدال متمثلاً في مصر والأردن، بعد الربيع العربي تغيرت خارطة المحاور، أين تجدون أنفسكم في ظل هذه التحولات الجديدة؟ وهل سيكون لهذا التحول أثر إيجابي على القضية الفلسطينيّة؟
أنا ضد هذا التقسيم لكن بشكل عام، القضية الفلسطينية قضية قومية عربية، أساساً، لتأثيرها الأكيد على القضايا الوطنية في البلدان العربية المجاورة لفلسطين في صورة خاصة. الانتخابات في تونس والمغرب ومصر حملت مؤشراً على أن الرأي العام العربي لا يزال يعيش في سياسة الهوية. سياسة الهوية بهذه التبسيطية تشير إلى إحدى العلامات الكبرى التي أفرزتها عقود من الديكتاتورية، إنها الفراغ الأخلاقي. الأنظمة الانقلابية العربية سقطت عدة مرات قبل أن يجرفها تيار الثورات العربية المشتعلة، وقامت بتدمير المرجع الأخلاقي للسياسة بشكل كامل. سقطت أولا في عجزها عن حلّ المسألة الوطنية، فكان الحلان اللذان اعتمدا للصراع العربي- الإسرائيلي أشبه بالكارثة: الاستسلام على طريقة كامب ديفيد المصرية، أو الاستمرار في ممانعة التأجيل على طريقة النظام السوري. ما قاد إلى فراغ كبير حاولت قوتان إقليميتان هي إيران وتركيا أن تملآه.
وسقطت ثانياً عند سقوط جدار برلين، حيث لم تفهم أن هناك منظومة ثقافية واخلاقية قد تهاوت. فالاستبداد العربي الذي اتخذ من كوريا الشمالية نموذجا، لم يسقط فقط في التوريث، لكنه سقط نهائيا في مستنقع القبلية والجهوية والطائفية، حيث لم تعد لغته السياسية سوى قناع شفاف يكشف بدل أن يخفي. وسقطت ثالثاً عندما لم تفهم من العولمة سوى وجهها البشع، فحولت الاقتصاد إلى رهينة مافيا عائلية، تنهب وتدمر ولا تشبع.
وسقطت رابعاً عندما خلقت من حولها فراغا أخلاقيا، احتله الكذب والقمع والمحاباة والنفاق. سقطت الأنظمة بعدما نجحت في افراغ المجتمع من البنى الاجتماعية التي تصنع السياسة: الأحزاب والنقابات، من خلال احتكارها الحصري للسياسة والإعلام، حيث صار المجتمع الأهلي غريبا عن سياسة بلاده. وعلى أي حال فربما كان من المهم القول إن أكثر من بعد للقضية الفلسطينية كان موجودا في عمل أدبي واحد، فالبعد الإنساني، بمعنى ما، عادة ما يكون مضمنا في البعد الأيديولوجي، تتساوى في ذلك الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية، حيث أن الأيديولوجيا تقدم نفسها بوصفها السبيل إلى خدمة الإنسان وإسعاد البشر، ولا يستثنى من ذلك ما أسميته البعد الإنساني الزائف الذي ينطلق من أن الإنسان بغض النظر عن لونه ودينه وعرقه هو الهدف الأسمى في الحياة.
هل يمكن توقع مسار للثورة السورية؟
صمت
أجري الحوار في بيروت