اليقين الزائف
كثيرة هي المحاولات التي تريد أن تجعل من مشروع العلمانية حبيس الفهم المزيف (محمد عابد الجابري، عبدالوهاب المسيري، حسن حنفي) وكثيرة هي البرامج السياسية التي ليس في مقدورها تأسيس دولة بالمعنى الحديث (مشروع الإسلام السياسي)، دولة تحضن الجميع على اختلاف عقائدهم ومواقفهم السياسية أو اختياراتهم الفلسفية، فالمعنى المتداول للدولة -في المنطقة العربية- يفهم في الغالب كصورة موسعة للعشيرة أو في مجتمع الكنتونات المتقاتلة التي تعيش على الغزو والسّبي.
العلمانية مشروع يخيف الكثير، يتوجس منه اللاشعور السياسي والعقائدي لأنه في الغالب يقرأ مرتبطا بأحداث مؤلمة دون محاولة فهم طبيعة البيئة التي أنتجته، وقد يقرأ وفق ماض لا يمتّ له بصلة مباشرة ولا يقرأ من خلال ما قدمه للإنسان المعاصر من ضمانات حقوقية. بناء دولة بمعايير حديثة لا يزال غامضا لدى بعض الأنتلجنسيا العربية وهو لصيق بعقدة القرون الوسطى التي عجزت الإرادة السياسية والثقافية التملص منها.
لن نصل إلى نتيجة مفيدة لو اتّبعنا ما ذهب إليه العديد من الكتاب العرب، ممن اختزلوا السؤال في البحث عن تعريف مناسب أو في الحديث عن أخطاء الكنيسة في أوروبا، ومن ثم خنقه لأنه يحجب إرادة السيطرة التي يتمتع بها جمهور مذهبي واسع ويجعل الجميع على اختلاف انتماءاتهم الإثنية أو العقائدية متساوين أمام القانون.
العلمانية ليست مشروعا منتهيا يخدم مصالح طائفة أو جماعة أو أطماع إمبريالية، بل هي وسط اجتماعي وسياسي وفكري القصد منه ضمان حق المواطنة الفعلية للجميع، وخضوع الكل لسلطة القانون في سبيل تحقيق ”العيش المشترك” المنشود. إنها فلسفيا مشروع يسمح للعقل المتفتح الولوج إلى عالم المعرفة دون خوف أو متابعة، متجاوزا كل أشكال الانغلاق وكل أصناف الإقصاء التي تريد أن تتركه حبيس الماضي وحبيس أشكال من الطابو التي لم يعد هناك ما يبرر بقاءها.
من أجل مقاربة منهجية للسؤال، نقول إن العلمنة هي تجاوز لثلاثة جدران:
الجدار الأول ويتمثل في قناعة امتلاك الفهم الصحيح ومن ثم العمل على تشويه الرأي المعارض ومنعه -بكل الوسائل المتاحة والبوليسية على الخصوص- من حق الوجود والتمتع بحقوق المواطنة الكاملة. الاعتقاد في امتلاك اليقين الذي لا يقبل الشك هو أخطر ما يمكن أن يصيب العقل وهي أزمة معرفية لا تشجّع أبدا على الانخراط في التاريخ الذي يصنع باستمرار. إن المعرفة إنجاز بشري تقوم على المشاركة والحوار والنقد والشك، ومن دون ذلك لا يمكن إلا أن تكون عائقا إبيستمولوجيا واجتماعيا. الاختلاف ليس جرما بل خنقه والتضييق عليه هو ما يمكن اعتباره جناية. من حق الصحافي والكاتب ورجال الفن والسينما أن يتمتعوا بالحرية والحماية الدستورية ومن غير المعقول أن نحاكم بعضهم على قصيدة شعر أو مقطع من فيلم أو نص في رواية فقد انتهى زمن العقل المطلق المعصوم والمحتكر للحقيقة.
الجدار الثاني ويتمثل في استمرار الشكل الشمولي لممارسة السلطة السياسية وما تمارسه من إقصاء اجتماعي وسياسي واعتمادها في المحافظة على الشرعية على البنية العشائرية والخطابات الدينية. عجزت الدولة الوطنية عن أن تكون دولة للجميع ومنبثقة عن إرادة الجماهير بما صنعته من فروق اجتماعية وإثنية. ليس المطلوب ديمقراطيا تصالح الأديان ومن ثم تقاسمها الفضاء العام، بل المطلوب هو إيجاد أطر تشريعية تجعل من ممارسة القناعات الدينية أمرا شخصيا لا يسهم في زرع الفتن أو التضييق على الحريات الفردية باسم ”إرادة الإصلاح” أو ”امتلاك الشرعية” أو ”محاربة الفساد”… ليس للدين أن يقرر ما يكون عليه الفضاء العام ولكن من حق كل شخص مهما كانت قناعاته أن يمارسها في الفضاء العام طبقا لأحكام قانونية.
إن أخطاء الدولة الوطنية وليدة مرحلة ما بعد الاستقلال تتمثل في كونها لم تفهم من الديمقراطية إلا صورتها المشوهة والتي تقتصر على اعتماد مؤسسات شبه حديثة بذهنية تقليدية ووسائل إعلام ومؤسسات تربوية ببرامج لا صلة لها بما ينتج في عصرنا.
الجدار الثالث ويتمثل في إضفاء القداسة على القراءة الأحادية للنصوص المقدسة، واعتبارها التأويل الصحيح في مقابل محاصرة كل الرؤى الأخرى والتضييق على المنتسبين إليها باسم ”الفهم الصحيح لإرادة السماء”. السلطة السياسية بما تنشده من ضمان للشرعية والفهم الخاطئ للسلم المدني الذي تدافع عنه نراها منخرطة -من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية وسلطة البوليس- في الصراع الديني لصالح بعض القناعات وهو ما يتنافى كليا مع المشروع الجمهوري الذي تتبناه. تجاوز هذا الجدار يكون باعتماد مادة جديدة في الدستور نصها ”الدين ملك الجماهير وليس للسلطة الوصية حق تبني موقفا دينيا، بل مهمتها ضمان الحرية الدينية وحماية حرية الفكر وذلك في إطار احترام النظام العام”. القانون هو المادة الوحيدة التي تتبناها السلطة في سبيل حفظ النظام العام، ولا يمكن أن يكون القانون مستمدا إلا من الإرادة الجماعية. من حق كل الأديان والمعتقدات أن تتمتع بحقها الكامل في الوجود في إطار جمهوري يكفل لها ذلك.
هل العلمانية مشروع ينتمي إلى مجتمعات ما وراء البحار كما يردده الكثير من الكتاب والخطباء وبعض وسائل الإعلام، أبدا هذا ليس صحيحا بل تضليل مقصود الغاية منه إبقاء سيطرة مجموعة دينية أو سياسية ما على الشرعية. كل من الديمقراطية والممارسة البرلمانية والحزبية والشكل الجمهوري للدولة هي منتوج وافد علينا من وراء البحار ولم نساهم يوما في تجديده بل حتى في صياغته. القانون والدستور والعديد من الصيغ التشريعية تم استيرادها كما يستورد التلفاز والطائرة والدواء، ولا أحد يرفضها لأنها لا تجعل وجوده اللاشرعي موضع شك. ولكن عندما يكون السؤال مرتبطا بالعلمانية وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية والإثنية يصبح المشروع تغريبيا ولا صلة له بماضينا الحضاري والعقائدي.
لا مفر من دخول الحداثة ولا جدوى من التمسك بالقديم باسم الحفاظ على الهوية والقيم النبيلة فيجب أن يتغير المسار نحو ديمقراطية فعلية لا ترسم معالمها سلطة بعينها. لا أمل في الاختيار الأيديولوجي وما يعد به من حلم مبنيّ على الكذب والكره والتفرقة واللاأمان والتشرد والجهل، ويجب أن نؤمن بتأسيس دولة حديثة بمؤسسات حديثة ومن العبث اعتبار الماضي يقدم مشاريع صالحة لعالمنا ومشكلاته. أن نعيش عصرنا كمجتمعات فاعلة لا يمكن أن يتحقق إلا بالمساهمة في صنعه بدل اختيار التقوقع والانعزال. فالتاريخ لا يرحم ذلك الشكل من الاختيارات والتي من دونها يندثر العربي ولن يبقى سوى اسمه في الأرشيف.
الدولة مؤسسة اجتماعية وسياسية أهم ميزة يجب أن تتوفر فيها هي عنصر الحيادية وخدمة الجماهير الواسعة، فلا يمكن أن يؤتمن الفقيه على مستقبل الجماهير وليس من الطبيعي أن تمنح له كل هذه الصلاحيات ليقرر في كل شأن. فالدولة الحديثة هي دولة يسهم في بنائها رجل القانون والخبير. آن الأوان لنرى التغيير في أنظمة لم تكن أبدا وفيّة لتطلعات شعوبها. فالتغيير لا يأتي من خارج الحدود وقد جربناه وعرفنا ما يشكله التواجد الأجنبي على أراضينا.