اليهودي الأسود

 مواطن من الدرجة الثالثة في رواية أريتيرية
الأحد 2019/12/01
لوحة غيلان الصفدي

من المعلوم بأن تجارة العبيد قامت على استرقاق العرق الأسود، وبيعه في أسواق النخاسة في كثير من أرجاء العالم. ولم يغب هذا الموضوع عن السرد فقد عالجته الرواية الأفريقية والأميركية، وسرعان ما شغلت به الرواية العربية، فظهرت نماذج مميزة جعلت من مصير الشخصية السوداء التي تتعرض للاستعباد موضوعا لها.

وفي رواية “رغوة سوداء” للكاتب الأريتري حجي جابر عرّت الرواية واقع اليهودي حينما يكون أسود البشرة، إذ دمجت بين هجرة اليهود من القرن الأفريقي إلى إسرائيل، والتمييز العنصري على قاعدة اللون. فليس كل اليهود شعب الله المختار كما تروّج الدعاية اليهودية. وحينما يكون اليهودي أسود اللون فهو مواطن ولاجئ من الدرجة الثالثة، منبوذ ومرفوض رفضا كليا من بعض اليهود، لا يقبل دمه، ويعد ناقلا للأوبئة مثل الإيدز، ويشّكك في دينه، ويخضع لإجراءات تهويد متشددة، ولا يسمح له العمل سوى في وظائف محددة، إضافة إلى عزله للسكن في أحياء خاصة بالسود.

كشف السرد في “رغوة سوداء” عن شخصية هشة ومضطربة، بلا اسم معين، وبلا أب أو أم، وبلا انتماء ديني يشار إليه بوضوح، وبلا انتماء وطني يرجح هويته، فهي شخصية مقتلعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من هويتها التي شهدت تحولات كثيرة، رافقتها تسميات عديدة للشخصية بحسب الحال التي تكون فيها، ما جعلها تبحث عن تعويض لما تفتقر إليه. وأمام هذا التشظي كانت تنشد الخلاص بصنع أمجاد لها، واختلاق تاريخ مزوّر، وضرب جذور عميقة لها عبر سرد القصص الكاذبة، والاحتيال بشتى الطرق بحثا عن موطئ قدم في مكان ما يتيح لها العيش بكرامة في المركز، غير أن محاولاتها للاعتراف بها باءت بالفشل، وظلت طافية على السطح مثل رغوة سوداء.

وتفصح الرغوة السوداء عن أمرين مهمين؛ أولهما أنها تدل على الزبد الهش الذي يعوم فوق الأشياء ولا يشكل جزءا منها، فتحمل دلالة الاقتلاع بسبب استحالة الاعتراف، وثانيهما السوداء التي تحيل إلى التمييز على قاعدة لون البشرة، وباجتماع هشاشة الرغوة بسوادها تطرح الرواية قضية العنصرية والبشرة السوداء.

قدمت “رغوة سوداء” نموذج البطل الذي لا يتمتع بمواصفات البطولة التقليدية التي درجت عليها غالبية الروايات، إذ يفتقد لكل مقومات البطل الإيجابي على الأصعدة كافة بشكله ومضمونه وبأفعاله وأقواله، فهو نموذج للبطل الدنيء الذي لا يتورع عن الكذب، واختلاق الحكايات الملفقة؛ ليحصل على ما يريد، ولا يكترث بانتماء ديني أو عقدي محدد، فهو يغير دينه بحسب مقتضى الحال دون أدنى إحساس أو شعور بالإثم، ولا يمانع في ممارسة أيّ أمر يعرض له من قبيل تعاطي الحشيش أو الذهاب إلى بيت دعارة، وحينما يحتاج إلى وجود المرأة في حياته، ويستعصي عليه ذلك، يمضي إلى استيهامات جنسية، وقد تفوق متعته الخيالية المتعة التي يحصّلها من علاقة حقيقية، لتكرّس الرواية بذلك صورة اليهودي الأسود الذي لا يكترث بأفعاله السلبية.

تناوب السرد راويان، الراوي الخارجي الذي يسرد علينا قصة داويت الذي وصل إلى معسكر ليهود الفلاشا في أثيوبيا؛ ليخوض غمار رحلة الانتقال إلى أرض الميعاد بوصفه يهوديا. والراوي الداخلي الذي هو بطل الرواية نفسه داويت، الذي يتحول فجأة إلى سارد ماهر للحكايات، ليكشف لنا عن ماضيه وتحولاته، وما بين تولي الراوي الخارجي لمهمة رحلة الوصول إلى أرض الميعاد، ليكشف لنا عن معاناة اليهود الأفارقة أصحاب البشرة السوداء، والتمييز العنصري الذي مورس ضدهم في إسرائيل، والنظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، بل عدم الاعتراف بهم، وخيبة أملهم بأرض الميعاد التي فرّوا إليها.

يعود بنا الراوي الداخلي إلى الماضي ليفضح حقيقة نفسه، وكيف مرّ بتحولات عديدة؛ من أدال اسمه الأول الذي يعني ابن الجبال والأودية بوصفه أحد ثمار العلاقات الجسدية بين ثوار أريتريا، إلى داود المسلم الذي وقع في غرام عائشة، وأخفى حقيقته عنها حتى لا تنفر منه وتبتعد عنه، إلى ديفيد المسيحي الهارب من الوادي الأزرق في أرتيريا حيث معسكر التعذيب للمغضوب عليهم، واستعبادهم، إلى معسكر للّاجئين في شمال أثيوبيا طلبا للتوطين في إحدى البلدان الأوروبية، ومنها إلى داويت اليهودي، الطامح في الوصول إلى أرض الميعاد في القدس.

لوحة غيلان الصفدي
لوحة غيلان الصفدي

وعبر سرد الراويين تُملأ الفراغات جميعها، لتفضح رواية “رغوة سوداء” معاناة أصحاب البشرة السوداء أينما حلّوا، والانتقاص من شأنهم بغض النظر عن دينهم أو وطنهم أو انتسابهم، فلون بشرتهم كفيل بلفظهم بعيدا عن أي مكان في العالم، وعدم قبولهم ودمجهم في مجتمعات تدّعي العدل والمساواة وعدم التمييز العنصري.

تبدو المفارقة السردية شديدة الوقع في رواية “رغوة سوداء”، وهي مفارقة تقوم على التعارض بين الهوية الاسرائيلية القائلة باعتبار اليهودية مرتكزا رئيسيا لدولة إسرائيل كونها المكان الآمن الوحيد لليهود في العالم، وبين عدم قبول اليهود من غير البيض مواطنين فاعلين في هذه الدولة. ومن المعلوم أن إسرائيل تأسست على الحلم الصهيوني بإيجاد حل لليهود أينما كانوا، انطلاقا من فكرة إنشاء وطن قومي لهم يجمعهم على أساس الدين، وليس العرق أو الطائفة، لينعموا بالأمن والاستقرار، بعد ما تعرضوا له من اضطهاد نجحوا في المبالغة فيه، إلى أن كان لهم ما أرادوا بإعلان دولتهم في فلسطين في الخامس عشر من مايو سنة 1948. لكن وبمرور الوقت تكشفت الطبيعة العنصرية لإسرائيل، وتبين أن الهجرة إليها لم تكن سببا في سعادة سوى جزء يسير من اليهود، هم اليهود الغربيون، فيما عانى اليهود الشرقيون من التمييز، إذ نظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

 نتج عن ذلك معاناة اليهود من غير الغربيين، وبعضهم راح يحلم ببلاده التي هاجر منها، وبعضهم فكر في العودة إليها، واندلعت احتجاجات ضد سياسات التمييز العنصري، إلا أن ذلك لم ينه المشكلة. وقد عرت الرواية الممارسات المشينة بحق اليهود الأفارقة في إسرائيل، وإذا كان يهود الفلاشا قد نجحوا في “ابتداع تراث” وهوية لأنفسهم وحتى كنية “بيتا يسرائيل” التي تربطهم مباشرة باليهودية وبإسرائيل، وذلك بمساعدة النظام السياسي، لكن بسبب لون بشرتهم الأسمر الداكن لم يسلموا من تصنيفهم اجتماعيا بوصفهم سودا، ولعل المفارقة تكمن في أنهم في أثيوبيا يعدون من فاتحي البشرة نسبيا ويشار إليهم بذوي “اللون الأحمر” وهو اللون المفضل في الثقافة الأثيوبية، بينما وجدوا أنفسهم في إسرائيل يدفعون إلى المرتبة الأدنى في السلم الاجتماعي، ومن فوقهم الشرقيون وحتى العرب، فالتمييز العنصري موجود في كل مكان، وهو أمر أشار إليه كثير من المصادر.

من اللافت للنظر في “رغوة سوداء” أن بطلها أرغم على تغيير اسمه مرات عديدة امتثالا للظروف المحيطة به، فحينما وجد المرأة، التي وقع في غرامها من أول مرة لمحتها عينه فيها، تعرّفه باسمها عائشة، منتظرة أن يبادر هو بدوره ليخبرها عن اسمه، وجد نفسه في ورطة إذ لا يمكنه إخبارها باسمه الحقيقي “أدال” لأنها “ستعرف على الفور معنى أن يسمى شخص باسم جبل، أو واد، أو معركة. ليس مستبعدا أن تشعر بالتقزز، وتغادر دون أن تحاول إخفاء خيبة أملها، ولذلك أخبرها بأن اسمه “داود”.

وجاء التغيير الثاني للاسم، حينما بلغ معسكر إنداغابونا في أثيوبيا، فارا من معسكر الوادي الأزرق في إريتريا، في محاولة للحصول على فرصة لإعادة التوطين في دولة أوروبية، فحينما سأله الموظف في مكتب التسجيل عن اسمه أجابه “ديفيد”، لأنه لن يحظى بفرصة اللجوء إذا عرفوا بأنه مسلم. أما التغيير الثالث للاسم فقد كان بعد فشله في الحصول على اللجوء إلى أوروبا، رغم إعجاب المسؤول الأوروبي بقصته التي رآها مختلفة عن بقية القصص المكرورة التي يسمعها باستمرار، وفراره من إنداغابونا إلى غوندار خشية أن يعاد إلى أريتريا، ليحظى بمساعدة سابا باللجوء إلى بيتا إسرائيل مع يهود الفلاشا بعد أن روت لهم  قصة ملفقة عن أصوله وأبويه اليهوديين، وعودته بعد ضياع طويل “هذا هو ابنكم الذي حدثتكم عنه. داويت ابن راحيل وإلياس، ردّه الله إليكم بعد ضياع طويل، ليحقق مشيئته النافذة، فتبرد روح والديه في الملكوت”، وبذلك أصبح اسمه داويت.

 ولا بد من الإشارة إلى أن نقل يهود الفلاشا إلى إسرائيل لم يكن بلا مقابل، وبقصد جمع اليهود في أرض الميعاد، كما روجت له الدعاية الصهيونية، بل كان مدفوع الثمن، فكل شخص عليه أن يدفع عشرة آلاف بر، وقد تكفلت سابا بدفعها من أجل داويت، وكشفت له ذلك بعد أن قُبل في المخيم بين يهود الفلاشا، “كل ما حدث تحت تلك السقيفة كان مرتبا له…اتفقت مع كبير المجموعة على كل ما رأيته، وكان شرطه الوحيد ألا أخبرك كي يبدو كل شيء طبيعيا، فهو لا يريد أن يشيع أنهم يدخلون الناس إلى المخيم مقابل عشرة آلاف بر”.

وبدا واضحا كيف ترافق تغيير الاسم مع تغيير الدين، من أدال، الذي لا يعرف شيئا سوى ما يتعلق بالمعارك والقتال وتضميد الجرحى، إلى داود المسلم الذي يجهل أبسط طقوس الإسلام فلا يعرف كيف يؤدي الصلاة، فحينما خطر له أن يصلي في المسجد الأقصى بعد أن غلبه الخشوع و”كانت المرة الأولى التي يزوره فيها هذا الخاطر، لكن جهله التام بما ينبغي فعله صرف الفكرة عن ذهنه”، إلى ديفيد المسيحي، الذي لا يعرف من الدين المسيحي غير اسمه، ومن ثم داويت اليهودي، الذي اضطر إلى حفظ ما يكفي من المعلومات، والطقوس المتعلقة بالدين اليهودي على يد سابا؛ ليحظى بفرصة اللجوء إلى إسرائيل مع يهود الفلاشا، وحتى لا يبدو مفضوحا بينهم، وعلى الرغم من أخذ الحيطة والحذر، إلا أن أمره كشف في نهاية المطاف، فقد ظلت تلاحقه لعنة العجوز -التي يتوسط فكها العلوي زوج وحيد من الأسنان- وصراخها حالما تقع عينها عليه: “هذا ليس منّا.. ليس يهوديا”.

وتبع كل ذلك تغيير (الموطن، المكان)، من إريتريا، إلى أثيوبيا، ومن ثم إلى إسرائيل، ورغم جميع الأخطار التي كانت محدقة ببطل الرواية نجح في كل تلك التغييرات، والانتقالات الحادة التي اضطر لها، علّها تنقذه من الجحيم الذي ينتمي إليه؛ إلا أنه عجز عن تغيير لون بشرته الذي دمغ هويته، والذي دفع به في كل مرة إلى نقطة الصفر، ولفظه إلى السطح، ليبقى طافيا بعيدا عن المركز، ولينتهي نهاية مأساوية، فلا يجد خلاصه إلا بالموت في ختام الرواية، إثر طلقة أصابته خطأ، وكأن أصحاب البشرة السوداء معرضون للموت بسبب لونهم قبل أن يتبين الآخر حقيقة هويتهم، فهويتهم الأصلية لا تعني شيئا في مقابل هويتهم السوداء.

بنى حجي جابر سرده في “رغوة سوداء” على حادثة حقيقية، لكنه استطاع عبر التخييل الروائي، وإعادة التمثيل للواقع أن يعرض لقضية كبيرة عن معاناة اللاجئين الأريتريين الفارين من بلادهم بسبب الظروف السياسية الطاردة، والفوضى التي تعمّ البلاد، والقمع والاستبداد، وما بين الحالة الفردية لمقتل الشاب الأريتري في بئر السبع، ووضع أريتريا السياسي ومعاناة الناس فيها، أدخل الكاتب ببراعة قصة يهود الفلاشا، ولجوئهم إلى أرض الميعاد، ليفضح الطبيعة العنصرية لإسرائيل في نهاية المطاف.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.