اليوم الإخوة كرامازوف وغدا الملك لير
ابتدأت فرقة «ماوري وستورنو» المسرحية الإيطالية من مدينة فلورنسا جولتها لعرض مسرحية «الإخوة كارامازوف» المقتبسة من الرواية الشهيرة بذات الاسم للكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي الشهيرة. وقام بإعدادها للمسرح المخرج والممثل المخضرم غلاوكو ماوري، بالتعاون مع مخرج العرض ماتيو تراسكو. وأدى ماوري بطولة العرض إلى جانب رفيقه المسرحي الشاب روبيرتو ستورنو، الذي سبق ورافقه في العديد من العروض منذ سنين طويلة، وبالذات الأعمال المقتبسة من روايات دوستويفسكي كـ«الأبله» و«الجريمة والعقاب» وأعمال شيكسبير كـ"الملك لير" وبيرتولد بريخت كـ"پونتيلا وتابع ماتي".
قضى المخرج والممثل المسرحي الإيطالي غلاوكو ماوري غالبية سني عمره الـ89 على خشبة المسرح، حيث انطلقت مسيرته في عام 1952، بأداء دور سميردياكوف، الأخ الأصغر في عائلة “الإخوة كارامازوف”، آخر نصوص الكاتب الروسي العظيم فيودور دويستوفسكي.
ويصف ماوري مسرح «لا پيرغولا» العريق الذي انطلق منه العرض بـ”المسرح الذي أشعر معه بأقوى الأواصر على الإطلاق”.
وبالإضافة إلى نص «الإخوة كارامازوف»، فقد حمل غلاوكو ماوري إلى الخشبة، من روايات دوستويفسكي، كلاّ من «الأبله» و«الجريمة والعقاب». ويصف ما كتبه دوستويفسكي بأنّه “يختزن في طياته الإنسانية جمعاء، وإليه أدين بنجاحي الأول الذي تحقّق في عام 1952، حيث أدّيتُ دور الأخ الشاب سميردياكوف. أمّا الآن فأنا الأب الرهيب فيدور پاڤلوڤيتس″.
وعن صعوبة أداء دور الأب يقول ماوري ”لقد أدّيت أدوار آباء عديدين. وهو، برأيي، من بين أصعب الأدوار، بالذات لشخص مثلي، لا أبناء لديه، ولحسن الحظ لديّ معلّمون صغار درّبوني على أداء دور الأب في الواقع المعيش، إذْ أعتبر أبناء زميلي الأكثر شباباً روبيرتو ستورنو، كأحفادي، (طالما هو يبدو كما لو كان ابني بالتبنّي). وأعتقد بأنّ الآصرة مع الأبناء ينبغي أنْ تُبنى على شاكلة لعبة التخفّي ‘الغُميظة’ وذلك لغرض منح الحريّة للأبناء ليديروا اللحظة وأن يكبروا”.
وجاء عرض «الإخوة كارامازوف» عبارة عن مشاهد من الكوميديا البشرية بمسمّياتٍ روسية، عمل رائع يعيد إلى الكائن البشري الجرأة على استعادة كينونته المُفْصِحَةِ عن إنسانيته.
رأفة دوستويفسكي
يقول غلاوكو ماوري بأن “دوستويفسكي لا يُصدر أحكاماً على الإطلاق، إنه يروي الحياة حتى في مظاهرها الأكثر سلبية، ويفعل ذلك بقدر عالٍ من الرأفة والتعاطف مع ذلك الكائن، أي الإنسان، بديعاً كان أم بشعاً. إنه شاعر كبير يُعبّر عن الروح، يمنحنا الجمال والشعر حتى من قصة رهيبة، على أيّ حال”.
و«الإخوة كارامازوف» هو العمل الروائي الأخير لدوستويفسكي ويُعدّ القمّة من بين ما أنجز من أعمال أدبية، وأحد الأعمال العظيمة في القرن التاسع عشر وما بعده. ويروي العمل تفاصيل ما يدور داخل عائلة كارامازوف والصراعات الدائرة بين أفرادها، والتي تنضج في ظلها الظروف المُفضية إلى قتل رب العائلة فيودور، وما يتبع ذلك من شكوك ومحاكمة للابن البكر ديميتري، الذي يُتّهم بقتل الأب.
نُشِرَتْ الرواية على شكل حلقات في مجلّة «الميسّاجيرو الروسي» ابتداءً من يناير 1879 وحتى نهاية عام 1880 (أي ما قبل رحيل الكاتب ببضعة شهور). وانْشَدّ جمهور القرّاء إلى الرواية المتسلسلة في المجلّة ليطّلع منها على التطورات التي تشهدها المؤامرات والدسائس التي حيكت وتُحاك في كنف تلك العائلة، وبدا انشداد الجمهور إلى تلك المجلّة بالضبط مثلما ينشدّ الجمهور إلى المسلسلات التلفزيونية في أيامنا هذه.
لوحة عظيمة
يقول غلاوكو ماوري “لمرّتين، قبل هذه، تقاربت فرقتنا مع دوستويفسكي وقدّمنا اثنتين من كبريات رواياته، أي ‘الأبله’ و’الجريمة والعقاب’. وقد شكّل دوستويفسكي بالنسبة إليّ، إضافة إلى شكسبير وبريخت، الكاتب الذي أسهم في تكويني كإنسان، وفي تشكيلي كفنّان، وأسهم الثلاثة (شكسبير ودوستويفسكي وبريخت) بشكل جوهري في صقل مقدرتي على فهم الحياة”، ويُضيف “إنّ أعمال هؤلاء الثلاثة الكبار تُشكّل لوحة عظيمة للروح البشريّة، وقد أوضحت لي أعمالهم، بشكل لا يقبل اللبس، مقدار المسؤولية التي ينبغي أن يشعر بها الإنسان تجاه البشر”.
ويقول ماوري “الصراعات هي التي نخرت لحمة عائلة كارامازوف، وجاء الخصام المتواصل والعنف وغياب نقاط التفاهم ليُشيّد أرضية الحقد الذي سيُفضي إلى الجريمة، وما نشهده في أيامنا هذه، للأسف الشديد، يُقدّم نموذجاً لما بلغه مجتمعنا من فقدان للقدرة على التفاهم وعلى التكافل والعون المشترك”.
ويُضيف “وحتى مشاعر الحبّ نفسها تتعرّض دائماً إلى حَرْفٍ نحو الرغبة اللامعقولة في العنف. هكذا هم الإخوة كارامازوف.. لكن، هل نحن أيضاً على هذه الشاكلة؟”.
"كان دوستويفسكي يستقي نسغَ ما يكتب من الأحداث اليومية التي كانت تقع في زمانه، وكان يستقيها أيضاً من تجربته الحياتيّة الشخصية والمؤلمة، من وفاة والده في وقت مبكّر، ومن الحكم عليه هو بالموت، والذي غُيّر إلى الأشغال الشاقّة في سيبيريا، إضافة إلى عذابه الديني الشخصي “فالموضوع الرئيس للإخوة كارامازوف هو ذات الموضوع الذي عذّبه طوال حياته، سواء بشكل واعٍ أو غيرُ واعٍ” يقول غلاوكو ماوري.
أبعد من المسرح
غلاوكو ماوري، الذي يُشكل اليوم أحد أعمدة المسرح العالمي، لم يقصر عمله على المسرح فحسب، بل أطلّ أيضاً من الشاشة الكبيرة عبر عدد من الأعمال الراسخة في الذهن كالفيلم الأول للمخرج الكبير نانّي موريتّي «إيتشي بومبو» ويقول “إن لقائي كل مساء في المسرح مع الجمهور هو غذاءٌ لا غنى عنه بالنسبة إليّ، لكن الشعبية التي وفرها لي في ‘بروفوندو روسّو’ لداريو آرجينتو ودور والد “إيتشي بومبو” لنانّي موريتّي كان مثيراً للدهشة حقاً، وبطبيعة الحال لا ينبغي أن نتناسى دوري في فيلم ‘الصين باتت قريبةً’ لماركو بيلّوكيو”.
أمّا علاقة غلاوكو ماوري مع التلفزيون فضعيفة للغاية فهو لا يراه إلاّ بشكل عابر، ويقول “كيف بإمكاني أن أفعل ذلك وأنا متواجد في المسرح طول الوقت”، ويُضيف ” في الماضي شاركت ببعض التمثيليات التلفزيونية، والآن توجد المسلسلات، لكنّ الزخم والعمق اللذين يمنحك إيّاهما المسرح، لا يُضاهيان على الإطلاق”.
وفي أفق غلاوكو ماوري للعام المقبل، على الخشبة “ثمة لقاءٌ ثالث مع الملك لير، مع هذا الشيخ العجوز، وأعتقد أنّه سيكون الأخير فيما بيننا، لأنّني لا أعتقد بأنني سألتقيه لمرة رابعة بعد عشرين عاماً”، ويقول ماوري ذلك بابتسامة عذبة تنطبع على وجه عمّ عجوز وطيّب القلب. ويختم حديثه معنا “الملك لير، على الخشبة، يُشبه أحد الأقارب الذي يُتيحُ لأفراد العائلة أن يستخرجوا من دواخلهم جميع الانفعالات المُختزنة، لنكتشف الواقع الذي نعجز عن رؤيته، دون مساعدة من ذلك الممثل الذي يقف أمامنا”.