انتحار الخصوصيّة
يمكن أن نعدّ قضية التبرّع المجانيّ بالخصوصيّة واحدة من أخطر قضايا السوشيال ميديا المنظورة وغير المنظورة في آن، المنظورة من جهة نشرها على الملأ بتسابق إشهاريّ محموم يتضمن نشر كثير من النشاطات بالغة الذاتيّة بلا سبب موجِب، في سياق يكشف عن الغطاء التقليديّ الحامي للوجه الاجتماعيّ والأسريّ الخاصّ للشخصيّة الإنسانيّة، وغير المنظورة من جهة ما يمكن أن تتسبّب به هذه المشاعيّة من انعكاسات سلبيّة يمكن أن تتعرّض لها الشخصيّة من زوايا غير محسوبة وغير متوقّعة، على نحو يجعل الخصوصيّة في حالة انتحار بلا مأتم تجري على مرأى ومسمع من الجميع في وضح النهار وعزّ الليل.
الصور الشخصيّة هي ملك شخصيّ تمثّل تاريخ الشخصيّة في لحظة معيّنة من الزمن كانت تُجمَع وتُحفَظ في “ألبوم صور” للحفاظ عليها من التلف، ولا يعرضها صاحبها عادةً إلا لأصدقاء معدودين قد يكونون شركاء في بعضٍ منها، وهي تبعث نوعاً من الاستئناس والمتعة في التذكّر والاستذكار وتسجيل لحظات إنسانيّة جميلة خاطفة تؤرّخها الصورة بنمط معيّن من التشكيل، وكانت الكاميرا هي الأداة الفوتوغرافيّة العاملة في هذا المجال بحيث لم يكن امتلاكها أمراً ميسوراً للجميع، فهي غالية الثمن أولاً وتحتاج إلى اقتناء أفلام تُلقم بها الكاميرا حتى تكون جاهزة للتصوير، وحين يكتمل الفيلم يحتاج من جديد إلى تحميض واستظهار حتى تتحوّل الصور من شريط الفيلم إلى صور ظاهرة على ورق خاصّ بحجم الكفّ، ويمكن إظهارها على أحجام أكبر بحسب طلب صاحب الصورة إذ كانت محلات التصوير رائجة والمصوّرون الجوّالون يلتقطون صور الناس الراغبين في الشارع والمحلات والمقاهي والساحات العامة وغيرها.
تكاد تكون هذه التقاليد الخاصة بالصور الشخصيّة والجماعيّة في طريقها إلى الانقراض، بعد أن عوّضت أجهزة الموبايل الحديثة عنها وركنتها جانباً بما حملته من كفاءات تصويريّة عالية المستوى، ليس هذا فحسب بل ألغت تماماً ألبومات الصور وعوّضت بها ألبومات محفوظة في الجهاز نفسه بلا أفلام ولا تحميض ولا استظهار ولا ورق على شكل بطاقات صوريّة، يمكن لصاحبها أن يتلاعب بها على الأصعدة كافّة بلا حدود فيما يصطلح عليه “Play With Pictures” وبحسب الطلب والمزاج، على عكس الألبومات القديمة وهي تلزم حالة واحدة لا تتغيّر.
صار جهاز الموبايل آلة بانوراميّة تحوي كل شيء باقتدار وكفاءة عالية تتطوّر على نحو مجنون كلّ يوم، فهو محل تصوير واتصال وتسجيل وكلّ شيء تقريباً بما يجعل حامله قادراً على فعل أشياء عجيبة في هذا المجال بأقل ما يمكن من الجهد والمال والعناء، وعملت هذه الامتيازات العجيبة على انعدام فرص العناية بالآثار الجانبيّة التي يمكن أن تنشأ جرّاء هذا المنح الاستثنائيّ، فلا يوجد عطاء كبير على هذه الدرجة من الكرم بلا مقابل، وقد يكون هذا المقابل غير منظور وغير محسوب لكنّه موجود حتماً بلا أدنى شكّ.
يبقى جهاز الموبايل بما يحمله من إمكانات هائلة على هذا النحو أمراً شخصياً بالغ الخصوصيّة حين ينجح صاحبه في الحفاظ عليه بحيث لا يطّلع أحد غيره على ما يحويه من أسرار وخصوصيّات، وإذا ما تعرّض الجهاز للسرقة أو الضياع وصار في حوزة إنسان آخر فإنّ كارثة حقيقيّة تحلّ بصاحبه وقد يتعرّض للابتزاز والتنكيل لفرط ما يُخفيه الموبايل من أسرار شخصيّة بالغة الخطورة، لذا فإنّ إمكانيّة الحفاظ عليه ينبغي أن ترتفع إلى أعلى درجات الحماية والحراسة والدفاع إذ هو دفاع عن الذات والكيان والوجود والهويّة.
لكنّ انفتاح هذا الجهاز على تطبيقات السوشيال ميديا وبرامجها العديدة بما تنطوي عليه من فعاليّة تواصل سريع وواسع وشامل، أطاح بهذه الخصوصيّة وضربها في الصميم حين ضحّى الإنسان بكنوزه الذاتيّة وجعلها مشاعاً للآخرين بلا ثمن، فهو ما يلبث ينشر صوره على صفحاته بحثاً عن شهرة زائفة وإرضاءً لغرور ذاتيّ صغير كامن في منطقة غامضة من الأعماق، غير آبهٍ تماماً بما يمكن استغلاله من هذه الصور والتلاعب بها لتحقيق غايات غير شريفة وغير قانونيّة وشديدة الضرر، وهو ما يعرّض الإنسان لأخطار جسيمة لا يدرك شأنها إلا حين يقع فيها فيكون من المستحيل عليه تجاوز نتائجها الكارثيّة أحياناً، فيقع في شرّ صوره بعد أن أخفق في الحفاظ عليها داخل حدود ذاته وشخصيّته وفرّط بها لصالح أوهام لا قيمة لها البتة.
لم يقتصر الانفتاح المحموم هذا على الصور فقط بوصفها المجرّد الذي يتحدّد عادةً باللوحة الشخصيّة وهي تعبّر عن الهويّة بالوجه وملامحه وتعابيره وحالاته، بل توسّع ليشمل الحالات الشخصيّة التي تعبّر عنها نماذج صوريّة مختلفة تحكي قصّة الشخصيّة بأزماتها وأفراحها وأتراحها وتحوّلاتها، على نحو يجعلها عارية أمام الجمهور بلا حدود ولا حواجز ولا مصدّات تفصله عن الآخرين وتمنع فضولهم وتردّ سهامهم الغازية في معركة سهلة، وأيّ معركة خالية من أدنى درجات التكافؤ تلك التي يتبّرع فيها الإنسان بعرض حالاته تحت مرمى رغبات الآخرين وجموحهم اللصوصيّ في الكشف والأخذ والمعرفة والاطلاع، فلا شكّ أنّه لا يمنع جولات التدخّل والفضول لكنّه يساعدها على الوصول إلى ما تريد بلا عناء كي يكون في مرمى السهام، ولات ساعة مندم.
تشكّل الأسرار الصغيرة الخاصة بالاهتمامات المتعلّقة بالذوق الشخصيّ (ما يحبّ الإنسان وما يكره) فضلاً عن الأزياء التي يفضّلها والعادات والتقاليد الأسريّة أهم معقل من معاقل الخصوصيّة الذاتية، وإذا ما تمّ انتهاكها لأيّ سبب وتحت أيّ ظرف وفي أيّ مناسبة فإنّ جزءاً أساسيّاً من أجزاء كبرياء الإنسان وكرامته ومستقبله تصبح في خطر، فكيف إذا كان هذا الإنسان نفسه هو من يعرّض هذه الأسرار للانتهاك ويحرّض عليها حين ينشرها على صفحاته في التطبيقات بلا أدنى مسؤوليّة، لا بل يعدّها مصدراً للتفاخر والتباهي من دون التفكير بعواقبها حين يمكن استغلالها من طرف آخرين بوصفها وسيلة للابتزاز أو التنكيل أو الانتقام أو غير ذلك.
لا يقف الأمر – للأسف – عند هذا الحدّ بل يتجاوزه إلى وصف الطعام الذي يتناوله وتصويره في مناسبات خاصّة وعامّة، ووصف المناطق التي يزورها ويرتادها وحده أو صحبة عائلته أو أصدقائه وتصويرها على نحو يكشف عن عادات وتقاليد غاية في الخصوصيّة، لا يمكن إتاحتها للآخرين بلا وعي ولا إدراك ولا مسؤوليّة وكأنّه يصنع من نفسه وأسرته وأصدقائه هدفاً سهلاً لكلّ من يتربّص به لأسباب قد لا يعلمها أحياناً أو لا يتوقّعها، وإذا ما امتدّت سلسلة التبرّع بالخصوصيات إلى مستوى الكشف عن المعتقدات والدفاع عنها بلا مبرّر ضدّ آخرين لهم معتقدات أخرى، على نحو يثير الكراهية والبغضاء والطائفيّة ويعرّض الذات لخطر غير ماثل في الذهن من جهات إرهابيّة تلاحق ذلك، فإنّ الأمور تبلغ درجة قصوى من السوء والخطر قد يتعرّض فيها الإنسان للتصفية الجسديّة في أعمال إرهابيّة تَقتلُ على الهويّة، وهي جاهزة ومستعدّة بقوّة لاقتراف مثل هذه الجرائم في أيّ لحظة، ولا تحتاج في ذلك إلى أسباب ومبرّرات تُقنِع فيها الضحية أو المجتمع الذي يقف وراءها بصواب وجدوى ما تفعل.
تتفاعل احتمالات الخطورة أكثر حين يتمّ تصوير المنزل الشخصيّ في وسائل التواصل بحيث تكون رؤيته متاحة للعامة وهو سرّ شخصيّ بالغ الخصوصيّة، لكنّ كثيراً من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعيّ يبالغون في نقل صور منازلهم ومحتوياتها وحالاتها وزواياها، بما في ذلك المكتبة والصيدليّة وهما من أدقّ الأسرار التي لا ينبغي أن تُكشف لأحد مطلقاً، بما يجعلهم عرضة للافتضاح وكأنّ منازلهم وبيوتهم بلا أبواب ولا جدران ولا أسيجة، وكأنّهم بذلك يغرون اللصوص والسرّاق ويحرّضونهم على وضع هذه البيوت والمنازل في مرمى اهتماماتهم اللصوصيّة بالنظر أو الفعل معاً، فكيف يمكن بإزاء هذه الأحوال أن يتمتّع الإنسان بخصوصياته وينظر إليها بوصفها عالماً صغيراً مستقلاً لا يشاركه فيه أحد غريب؟
ها هو الغريب يدخل إلى باحة هذه الخصوصيات برحابة ويسر وترحيب مسبق ومن غير أيّ مشاكل، بمعرفة صاحبها وتشجيعه بعد أن يقدّم تسهيلات لا يحلم بها الآخر مهما حاول كشفها بسبل أخرى يسعى إلى ابتكارها واختراعها، بما يجعل من الغريب البعيد قريباً أقرب من حبل الوريد يحظى بامتيازات كبيرة ذات طبيعة مجّانيّة.
لو أحصينا نمط هؤلاء الناس المشغولين بعرض صورهم وحالاتهم وأسرارهم بمتعة فائقة لاكتشفنا أنّ معظمهم يعاني من عقدة متأصّلة في الذات، أو نقص، أو مرض نفسيّ، يتعلّق برغبة جامحة للظهور كانت مكبوتة في داخله وأتيحت الآن فرصة لتفجيرها على هذا النحو، لأنّ هذا الغزو المضاد للذات يستحيل حصوله بلا دوافع مَرَضيّة تهدف إلى سدّ نقص واضح في التركيبة العقليّة لهذا الإنسان، وهو يعوّل على ما يحصل عليه من إعجابات وتعليقات من أشخاص لا يختلفون عن وضعه النفسيّ المريب والقلق، حين يتوهّم بذلك أنّه قد فَعَلَ ما يثير إعجاب الآخرين ويحظى بعنايتهم ورعايتهم بما يجعل منه نجماً على منصّات وسائل التواصل، تغذّيه نزعة شرسة غامضة لتعرية كلّ ما يملك من خفايا وأسرار وخصوصيّات يحسب أنّ إباحتها على هذا النحو وسيلة من وسائل الشهرة والنجوميّة، ويعزل من شاشة فعاليّاته أيّ شكل من أشكال الحذر والترقّب والحساب إذ يكون قد وصل إلى درجة عالية من غسل الدماغ، فلا يرى إلى صدى تلك الإجابات والتعليقات الباهتة التي ليس بوسعه تقويمها على النحو المطلوب لكشف زيفها وتفاهتها وبلادتها.
تتحرّك الرغبات المحمومة الجامحة للماكثين أغلب أوقاتهم على هذه المنصّات نحو البحث عن أمجاد وهميّة صغيرة، مأخوذة بجملة ما يصلهم من تعليقات وإعجابات لا تعبّر دائماً عن رأي موضوعيّ بقدر ما تندرج في سياق المجاملة العابرة، فيخفقون في التمييز بين الصالح والطالح، بين الذهب والصفيح، بين الأبيض والأسود، وهم يغرقون في حالة من العمى يتلمّسون فيها الحصى فيتصوّرون أنّها جواهر وحجر كريم.
المواقع الاجتماعية والتطبيقات والبرامج العديدة التي تتشكّل منها الشبكة العنكبوتية هي عبارة عن صحافة مجانية وميسّرة ودائمة الحضور، تسمح لمن لا عمل ولا شغل له أن يداوم فيها على مدار اليوم وينشر فيها ما يشاء، حتى أنّ بعضهم يبدأ من الصباح الباكر كي يقول لأصدقائه “صباح الخير” ثمّ يتواصل معهم في منشورات بلا عدد ولا حساب ولا قيمة، حتّى يشرف الليل على منتصفه ليودّعهم بعبارة “تصبحون على خير” في دوام مستمرّ لا يبقي شاردة أو واردة إلا وأتى عليها، ويتعامل بروح الهيمنة والأستذة أحياناً على من يستجيبون له ويتعاطون معه إعجاباً أو تعليقاً، وقد نصّب نفسه شيخاً يعرض نفسه وما يملك على معجبيه ومناصريه وكأنّه في بيته ومع أسرته وأقاربه عارضاً كلّ شيء على الملأ بلا حدود، في حالة تطابق شديد مع الذات يتمركز حولها ويغذّيها بما هو متاح من سبل التعظيم والتكبير الوهميّة.
يتأكّد جزء كبير وواسع من المشكلة في سهولة تقديم الذات على هذه المنصّات إذ يتاح لكلّ شخص بصرف النظر عن مرجعيته وخلفياته التعليمية أو الثقافية استخدام تطبيقات التواصل، ليتحوّل من كتب كلمة على صفحته في أيّ تطبيق على الشبكة العنكبوتية إلى كاتب أو شاعر أو مفكّر أو ما شاء الله من الصفات المعرفيّة الكبرى، وهو ما يلبث أن يصدّق هذه الأكذوبة ويتحرّك إلى اعتمادها في إطار تشكيل علاقاته مع الآخرين داخل هذا الفضاء الافتراضيّ العجيب، إذ لا يحتاج سوى مجموعة من الإعجابات والتعليقات التي تضعه في مصاف كبار الكتّاب والشعراء والمفكّرين حتّى يكون كذلك في نظر نفسه، ويواصل فعاليّة هذه الأكذوبة مهما أدّى ذلك إلى سخرية العارفين منه ومّما ينشر لإيمانه أنّه على حقّ، وأنّ عدد معجبيه ومعلّقيه من الأميين مثله كفيل بحصوله على هذا اللقب والتفاخر به بلا خجل.
ثمّة مثل شعبيّ بالغ الحضور والتداول والشيوع يقول “المال السائب يعلّم الناس على السرقة”، ويحضر هذا المثل على أبلغ ما يكون في حالة التبرّع بالخصوصيات على منصّات التواصل الاجتماعيّ حين يتمّ فتح أبواب شهيّة التلصّص ونوافذها على مصاريعها أمام الراغبين بالسرقة، فهي مال ثمين لكنّه سائب ومتاح لسرقات لا يحاسب عليها القانون لأنّ صاحب المال هو من يبالغ في جعلها سائبة في متناول الجميع.
بلغ الأمر على صعيد تشتّت المعايير وضياعها وتلوّثها شأواً بعيداً في صوغ قوانين وقواعد جديدة للتعامل بين البشر، في عالم افتراضيّ لا يكفّ عن تطوير آليّاته على النحو الذي يجعل إمكانيّة الاحتفاظ بالخصوصيّات حلماً مستحيلاً، أو على الأقلّ بعيد المنال، فالمرونة التي يتيحها هذا العالم الافتراضيّ في سرعة التعامل ووحشيته وجبروته وسهولته في آن، يقود ضرورةً نحو تفكيك كلّ أشكال الحصانة وتعريض الذات للتمزّق والطعن والإباحة والنشر والافتضاح، ممّا يستوجب أكبر الحذر والتحسّب والمراقبة وإعادة النظر في الخطوات التي يخطوها المرء في هذا العالم، ولا ينسى أنّه يمتلك عقلاً ينبغي استخدامه واستثمار طاقاته الجبّارة مهما تعالتْ مغريات إهماله وتصميته وإبعاده عن حقل العمل.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الأسماء الوهميّة والصور المموّهة التي يضعها في الغالب مستخدمو منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ على صفحاتهم، تشكّل خطراً أكيداً على آليّة التعامل بين قائمة الأصدقاء الذين تشملهم فعاليّات هذه التطبيقات، ففيها يتاح للمستخدمين وضع أسماء لا تخصّهم وصور منقولة أو مفبركة لا تعبّر عن حقيقة صاحب الصفحة، غير أنّ كثيراً منهم لا يقبل صداقة أحد على الفايسبوك مثلاً قبل معرفة طالب الصداقة على حقيقته، وبعضهم يقبل حين تكون طالبة الصداقة امرأة لأسباب دونيّة تتكاثر في مجتمعاتنا المحرومة من صوت المرأة وصورتها ورائحتها، وهو ما يثير لبساً غير قليل في مواجهة التعرّض للخصوصيّات ونشر الأخبار أو صناعتها على وفق مناهج وسياسات لا علاقة لها بالحقيقة.