انتحار العقل
تواضع الناس والعلماء معاً على أن الانتحار قيام الفرد بإنهاء حياته تخلصاً من مشكلة، أو فقداناً للأمل في حياة افضل، أو ثمرة وضع نفسي من الاكتئاب الشديد وهكذا. عن انتحار كهذا لن أتحدث. ولا أعتقد بأن مدخلاً يقوم على الطب النفسي سيضيف كثيراً إلى الفهم العلمي النفسي والطبي لفكرة الانتحار. ولهذا فأنا هنا أتناول ظاهرة انتحار العقل بعيداً عن الخطاب الطب – النفسي.فما هي صور العقل المنتحر؟
تسمع في الأخبار بأن انتحارياً قد فجر نفسه في شارع كذا وفِي ساحة كذا. هل هذا الذي فجر نفسه مات منتحراً. لاسيما وإن هناك من سيشيد ببطولة هذا الذي فجر نفسه بوصفه بطلاً وشهيداً.
دعوني أطرح السؤال في صيغة فلسفية كلية: هل الفرد الذي اختار الموت من أجل فكرة أو هدف أو بأيّ دافع أيديولوجي سببه انتحار عقلي أم لا؟
السؤال هذا لا علاقة له بأولئك الذين يُساقون إلى الحرب بفعل قوانين الدول والخدمة العسكرية في الجيوش. فهؤلاء سواء كانوا في خدمة إلزامية أو تطوعية لم يتخذ أي فرد منهم قراراً بالموت.
إن سؤالي خاص بذاك الذي قرر أن يموت من “أجل”. إن سارتر وكامو قررا، حين انتسبا إلى حركة المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني أن يموتا من أجل ولَم يموتا، فاتخاذ القرار الفردي في القتال من أجل هو فعل انتحاري من أجل غاية تفوق قيمتها قيمة الحياة. وهما من فئة فلاسفة ولَم يلعب أحد بعقولهما .وكان يمكن لمصادفة ما أن تزهق روحيهما.
فالفرد الذي قرر الموت من “أجل” بإرادة حرة أو باقتناع إرادته بخطاب يدعوه لاختيار الموت من أجل هو شخص قرر الانتحار حتى لو لم ينتج عن قراره موته، إنه صاحب عقل قد انتحر.
والتضحية بالجسد من “أجل”، دون أن ينعم الجسد بتحقق الغاية التي من أجلها تمت التضحية هي تضحية ذات معنى بسبب انتحار عقلي، لأنها تضحية من أجل المعنى، إن شئت قل: هو انتحار ذو معنى، فيما الانتحار المرضي – النفسي، لا يتم إلا بالشعور بفقدان معنى الحياة.
وسائل يسأل: لماذا لا يكون هذا الانتحار من “أجل” شكلاً من أشكال الحالة المرضية؟
باستطاعتي القول إن الموت من “أجل” حالة شخص غير سوي. لأنه جعل من قيمة ما أهم من قيمته حياً.
الموت هنا قرار عقلي. أجل هو قرار عقلي، اتخذه عقل ما. إن كلمة عقلي هنا لا تحمل معنى قيمي، بل عبّر عن نوع العقل الذي اتخذ قرار الموت من أجل. فكل ما يصدر من سلوك عن الإنسان إنما يصدر عن عقله، حتى لو بدا سلوكه لاعقلياً، فاللاعقلي هذا مصدره العقل نفسه.
ما هي هذه القيم التي هي أثمن من قيمة الإنسان والذي تحمل شخصاً فرداً على الموت من أجلها منتحراً؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال لا بد من محاولة تحديد الانتحار العقلي بوصفه مصطلحاً يشير إلى منع العقل من التفكير في إلغاء علاقته بالواقع الذي أنتجت ترابطات العقل المنطقية. فكل ترابط منطقي لم يكن صادراً عن ترابطات الواقع ليس منطقياً.
فالعقل يحافظ على مبدأ السببية حين يرد ظاهرة واقعية إلى سبب وهمي، لكنه يحطم مبدأ السببية العقلي الذي أنتجته العلاقات الواقعية. فكل سبب لا يكون واقعياً ليس سبباً، وارتكاب الخطأ لا يلغي واقعية السبب فالخطأ منتم إلى الواقع. ففي المعرفة العلمية لا يمكن أن نرد تفسير الوقائع إلى أسباب لاواقعية، ولكن قد يخطئ العلم برد هذه الواقعة أو تلك لسبب واقعي لا يكون هو، وهذا هو الخطأ العلمي، ولهذا فالعلم يصحح نفسه دون توقف.
إن انتحار العقل يظهر في عالم تفسير الوقائع التي تحتاج إلى أسباب واقعية، فتفسير حوادث الطبيعة الكارثية بغضب إلهي مثلاً لا يصدر عن عقل يفكر، وإنما عن عقل منتحر.
إن انتحار العقل يقود إلى انتحار الجسد من أجل قيمة هي في وعي العقل المنتحر أعلى وأهم من وجود الكائن البشري حياً.
الإله الذي يموت من أجله الإنسان الفرد ليس هو الإله الحاضر في الوعي الشعبي بوصفه إله الرجاء والخلاص، فالمؤمن الذي يرفع يديه إلى السماء متوسلاً إلى الإله الذي يعبده المساعدة هو على يقين بأن الإله سيستجيب له، ولهذا هو يحبه، ولا يفكر بالموت من أجله، بل يحب الحياة ويطلب رجاءً من الإله أن يساعده على حب الحياة.
إن الإله الذي أصبح عنصراً في أيديولوجيا تسعى إلى السلطة، وكل أيديولوجيا إنما تسعى لاستلام السلطة، يتحول إلى الغاية من التضحية بالأنا.
فانتقال إله الحياة وحب الحياة إلى إله التضحية بالحياة هو إله أيديولوجي سياسي. بهذا المعنى إن الانتحار هنا يتم من “أجل”. إن شاب في مقتبل العمر يظهر على شاشة التلفاز ويعلن بكل فرح بأنه سيقوم بالتضحية من “أجل”. فالخطاب الذي تلقاه من مسؤول عمليات التضحية بالجسد انتحاراً خطاب ولد لدية القناعة المطلقة بعظمة عمله وبالمكافأة الكبيرة جداً التي سيتلقاها في الآخر على فعله هذا، لأن التضحية، في الخطاب، قد تمت من أجل الإله.
العقل الصندوق
تشهد الحياة الثقافية بعامة، وعلى امتداد العصور، ظاهرة الترديد والإبداع، والتعصب للقديم، واستحسان التجديد والجديد. ولهذا فإن الصراع بين التعصب والانفتاح، والترديد والتجديد، وأنصار هذا وذاك، قديم ولا ينتهى ولن ينتهي.
يبرز العقل الصندوق بوصفه عقلاً لا يفكر إلى بذلك المخزون الميت الذي يحوله إلى خطيب الترديد، والصندوقيون هؤلاء يقفون بالمرصاد أمام كل قول جديد شكّل انزياحاً عن مألوفهم من القول. فهذه العقل لا ينتج خطاباً، بل يردد قول الخطيب دون أن يجهد نفسه بحظ من التفكير ولو كان قليلاً.
ليس هذا فحسب، بل يتحلق حول العقل الصندوقي مجموعة من القرّاء يجعلون من مخزون الصندوق مدخلاً وحيداً للقراءة، ويذمون كل قراءة تختلف معهم ولها مدخل تختلف عن مدخلهم. وهنا تكمن الطامة الكبرى.
فإذا كان العقل نفسه صندوقاً، فما بالك بتلميذ الصندوق، وموقف تلميذ الصندوق من النص الجديد. وغالباً ما يكون تلامذة الصناديق أكثر عنفاً من الصناديق أنفسهم. وهذا أمر قابل للفهم ولكن ليس للتبرير. فأنت إذا تجاوزت مرجع الصندوق في هذا المبحث المعرفي أو ذاك، وأظهرت هشاشة وعي الصندوق، فما الذي يتبقى من تلميذ الصندوق؟
العقل الصندوق عقل مغلق، ليس مهماً ما يختزن، إن كان تحفاً قديمةً أو لباساً بأزياء جميلة، مجوهرات حقيقية أو مجوهرات زائفة، حكماً موروثة أو قيلاً لغواً، نصوصاً دنيوية أو نصوصاً لاهوتية. صحيح بأنه يعرض مخزونه الذي جمعه من هنا وهناك، لكنه يحتفظ بروح الصندوق.
العقل الصندوق يستظهر، يمتثل، يجمع، يشاجر ويشتم ويُعتم.
لا يحسبن أحد بأن العقل الصندوق صفة أخلاقية خاصة بالتيارات الأصولية العنفية والأيديولوجية الدينية فقط، وإنما التعصب الصندوقي بنية أخلاقية عدوانية تجاه الآخر المختلف. علماني عدمي تجاه الدين يكتب بك وإليك جمل المديح التي تخجل من قراءتها، ما إن تختلف معه في رأي أو موقف، حتى يتحول المديح إلى هجاء وقح. التعصب ذهنية أخلاقية مدمرة للتعايش وللفردية الحرة والمتحررة.
لما كان العقل الصندوق عقلاً متعصباً فهو مستقل بذاته. هو دين قائم بذاته مهما كان القناع الأيديولوجي له، القومية، الدين، العلمانية، الطائفية، العنصرية.
التعصب دين المجرمين، عبدة القوة الهمجية، الذين لا يجيدون إلا فنون القتل، أسرى الجهل المقدس – لاهوت الظلام.
العقل الخطبي
ينتج العقل الصندوقي العقل الخطبي. لقد تعارف الناس بأن خطباء الجمع والآحاد والسبوت هم شيخ وخوري وحاخام وما شابههم، يعتلون المنبر ويلقون على الناس خطبة في موضوع ديني حول الخلق والخير والعقاب والثواب وآداب السلوك.. الخ. لكنهم يعودون في كل ما يقولونه إلى الكتب المقدسة وأقوال الأنبياء والفقهاء، والقصص وسيرة الصالحين. إذاً، هم من الزاوية العملية لا يقولون شيئاً من إبداعهم، بل يستندون إلى قول سابق هنا وأثر تم هناك.
ولا يحسبن أحد بأن خطباء الجمع والآحاد والسبوت وقف على شيوخ كل دين، بل لتجندن في كل مبحث معرفي في الفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية خطباء، لا شغل لهم سوى ترديد ما قال هذا المفكر أو ذاك، وما كتب هذا الفيلسوف أو ذاك، وما ألف هذا الناقد أو ذاك، وما أتى على ذكره عالم الاجتماع هذا أو ذاك، وهكذا.
والعقل الخطبي يقف بالمرصاد أمام كل قول جديد شكل انزياحاً عن مألوفهم من القول. وهو أقرب إلى ما سماه ابن رشد الخطاب الخطبي.
يتميز العقل الخطبي، بعامة، بأن عقل يقول ما يعرفه الناس وما هو متوافق مع رغباتهم وذهنيتهم، ولهذا يتوافر العقل الخطبي على شهرة كبيرة من الجمهور، فالجمهور يميل إلى ما يعرف.
ولا يحسبن المرء بأن العقل الخطبي هو المختلف عن العقل الجدلي والعقل البرهاني كما جاء عند ابن رشد، وإنما هو حاضر في كل صنوف المعرفة والأدب.
فالقصيدة الجمهورية التي تمتلئ بالقدح والذم والشتائم العامية تجد استحساناً شديداً لدى الجمهور بمعزل عن قيمتها الجمالية والفنية المبدعة.
وبالتالي فإن جمهورية العقل الخطابي تمنحه حضوراً لدي كل الجماعات الجمهورية على اختلاف مشاربها.
العقل النكوصي والعقل الساكن
ينتمي العقل النكوصي إلى وعي زائف بحركة التاريخ، وعي لديه ثقة باستعادة ما تقدم عليه الزمن وماتت شروط ولادته إلى غير رجعة، في وعي كهذا ينام المستقبل في الماضي وما على الإرادة النكوصية إلا إيقافه ليغدو حاضرا. ونحن نشهد اليوم انبعاث العقل النكوصي بطريقة لم تخطر على بال روح التاريخ. فالحركات العنفية الشيعية كأحزاب الله وأنوار الله والخلافة والنظرة وما شابه ذلك في بلدان كثيرة لديها ثقة مطلقة بأنها قادرة على استعادة الماضي. وهم صم عن نداءات التاريخ.
أما العقل الساكن فهو لا يختلف كثيراً عن العقل النكوصي. لأنه هو الآخر ينفي المستقبل الحقيقي، الموجود في الآتي الجديد، ويظن آثماً بأن سلطته الدكتاتورية لا تجري عليها نواميس التغير والتحول والتبدل، إنه عقل مصاب بداء الصمم التاريخي الذي لا يسمع صرخة التاريخ التي صاغها الوعي الشعبي: بقاء الحال من المحال.
إن قوة العقل السكن العنفية العسكرتارية والأمنية والميليشياوية قادرة على إطالة زمن السكون، ولكنها تفضي إلى انحطاط كلي مجتمعي، لا يبقي ولا يذر حين انفجاره.
يرفع العقل النكوصي والعقل الساكن في وجه عقل التغير والسيرورة والعصر شعار الخصوصية التي يتحجج بها لرفض أي مطالبة بالتغيير، وهو يعلم بأن الخصوصية التي يتبجح بها ليست سوى حجة أيديولوجية زائفة.
وكلما كان العقل الساكن هزلي وكوميدي كانت نتائج انهياره مأسوية، ولكنها سمة من سمات المسخرة التاريخية.
يظن العقل النكوصي والعقل الساكن بأنهما بتسلحهما بالأيدي بالأيديولوجيات ذات الشعارات الأخيرة لدى الجمهور قادرين على الانتصار على منطق التاريخ والحياة. هذا الوعي الزائف يلغي أي نوع من أنواع الحوار، لأنه وعي لا يعترف بالأصل بالآخر المختلف.
العقل الآلي يدمن البقاء في الكهف، والمرور بجوار الحياة، والبقاء على الشواطئ البليدة، والهروب من نور الحقيقة. إنه المتعة بالعجز، لا علاقة له بالجمال، غريزة تمشي على قدمين، وذوق وضيع موروث.
العقل التقميشي
يعرّف التقميش في اللغة بأنه الجمع من هنا وهناك. فيكون التقميش في الكتابة التفصيل واللصق كما تقول عامة العرب. والكاتب القمّاش لا يخرج عن كونه يعمل عمل النمل، فيما الكاتب المبدع يشتغل شغل النحل.
يحط العقل على هذا النص أو ذاك، ويبدأ بالعرض، ويحشد ما شاء من الفقرات حول الموضوع، وينظمها ويسردها إما تباعاً أو كيفما اتفق. ولن تتزود إذا كنت من أهل العلم والمعرفة بأيّ زادٍ جديد يغني معرفتك من القمّاش. ولكنك إن كنت ممن يسعى للمعرفة دون عناء، ولست من أهلها، فإنك قد تجد ضالتك عنده. غير أنك إذا جعلت من القمّاشين مصدر معرفتك، فإنك لن تعرف حقيقة الفكرة. فإذا ورد هيجل في نص مقمش فهذا لا يعني أنك قد تعرفت على هيجل، بل ويحصل أحياناً بأن القمّاش نفسه على غير دراية بهذا الفيلسوف. الكتابة من حيث أهميتها هي كتابة عن فكرة لمعت في ذهن الكاتب وجعلته يفكر بها، وراح ينقل تفكيره هذا على الورق، وعلى صفحات الكمبيوتر الآن. ويمكن القول إن الكتابة النظرية هي تفكير بالفكرة.
ماذا يعني أن نفكر بالفكرة؟ ها أنا قد لمعت في ذهني، وأنا أتأمل بعض المكتوب في وسائل النشر، فكرة التقميش. إذاً الفكرة تولد عبر التأمل في وقائع الحياة، فتكشف عن صفة جوهرية لهذه الواقعة أو لمجموعة من الوقائع، فتجعلها موضوع تفكير وأسئلة. ولكن في البداية تصف الواقعة التي ولدت الفكرة، أي تعرض الفكرة. ها أنا قد وصفت الظاهرة التي هي التقميش، لكني لم أسأل بعدُ السؤال الأهم: ما الذي يحمل كاتباً ما على التقميش؟ لماذا يتحول كاتب إلى قمّاش؟
في الجواب عن هذا السؤال أبحث عن الأسباب الممكنة المتعلقة بالقمّاش. فالقماش لا يتوافر على عقل استدلالي منطقي، من جهة، كما لا يتوافر على قوة عقلية مبدعة، من جهة أخرى، إنه كاتب ويعوزه الهاجس المعرفي، فلا يقيم علاقة جدية بالموضوع كما أنه فقير بالزاد المعرفي.
لهذه الأسباب مجتمعة، أو لأحدٍ منها، يستسهل القمّاش الكتابة بالجمع من هنا وهناك، ولديه من أدوات الربط اللغوية ما يكفي لإيهام القارئ بوحدة النص.
إذاً التقميش تعبير عن عقل تقميشي، وطريقة في التفكير، فالتقميش ليس مجرد انعكاس لضعف في الكتابة فقط، وإنما هو ثمرة ضعف في الضمير الأخلاقي في كثير من الأحيان.
فالقمّاش يقوم أحياناً بدور السارق دون أن يعلن عن مصدر سرقته، ولحسن الحظ فإن «النت» اليوم مراقب مجاني للسرّاق القماشين. ولكن هناك نوعاً من القماشين الذين يثقلون النص بالمراجع والأسماء الكبيرة، ويعتقدون بأنهم بذلك يقدمون جهداً بأمانة علمية.
لكن الفكرة الجديدة، التي تلمع في الذهن، تستدعي معها كل طاقة التفكير والتوتر الذي لا يكف عن جعلك متيقظاً على نحو تشعر فيه بالغيبة.
ولا يحسبن أحد أن التقميش وقف على كتاب النثر فقط، بل إنك لتجدن من الشعراء من حشد من هذا الشاعر أو ذاك صوره ومعانيه مقلداً لا مبدعاً، أو قد تجد شاعراً يحشد الصور المألوفة العامية ويفصحنها فتنال استحسان العوام. وهذا النوع من التقميش الشعري موجود على نطاق واسع.
ومن أغرب أنواع العقل التقميشي وجود ظاهرة العقل التقميشي السياسي، وهذا النوع من العقل تجده في هروب الشخص في اللحظات الحاسمة من التاريخ التي تستدعي موقفاً واضحاً وصريحاً ومعلناً من الصراع. فتراه يقدم خطاباً يقوم على نوع من الحياد أو مع هذا وذاك. أو اتخاذ موقف يردفه بـ«ولكن». ولكن هذه هي لكن التحسب والمحطة الاحتياطية للانتقال. والتقميش أياً كان نوعه وصنفه إفقار للحياة وفقر في الحياة.
العقل الآلي
دعك يا صديقي، من فكرة تعين العقل في التاريخ عند هيجل. واذهب إلى تعين عقل الفرد في الحياة. الإنسان عقل يظهر، في الاعتقاد يظهر، في القيم العملية يظهر، ويظهر في اللغة، في عالم الجمال، يظهر في الحب والكره وفِي العلاقة مع الآخر.
الإنسان بوصفه ظهور عقله، وتعينه بالممارسة، لا يستطيع أن يختبئ وراء القناع، ويجب أن لا يفعل ذلك.
هناك نوعان من العقول الفردية التي تنتمي للكلام: العقول الآلية والعقول الحرة. ومعرفة ظهور العقل الآلي أو الحر المتعينين في الكلام لا تحتاج إلى كبير عناء. فالسيرة الذاتية للحبر لا تتغير بتعدد ألوان الحبر، لأن للكلام روح واحدة.
العقل الآلي هو عقل بقال متخصص بإنتاج سلعة للبيع. فيما العقل الحر يصنع أفقاً للطيران.
العقل الآلي لا يحزن ولا يحب لأنه بلا قلب، ولا يغضب لأنه بلا كرامة، ولا يفكر لأنه عدو الحقيقة.
شتان بين خوف العقل الآلي وقلق العقل الحر.
العقل الآلي يخاف على وضعه، يخاف أن يخسر وضعه، ولهذا فإن الخوف على الوضع لا ينجب إلا تعلم الزحف على ركب لم تعد تحس بالألم. والخوف على هذا الوجود الزائف يولد لدى العقل الآلي الحقد على الوجود الأصيل الذي يعيش فيه ومن أجله العقل الحر القلق.
العقل القلق قلق بسبب الوجود، ومن أجل الوجود، عقل يعيش دائماً باحثاً عما وراء.
وتلاحقه فكرة لا معقولية الوجود الذي يختزن في داخله العدم.
العقل الآلي يخاف من الموت، ويتشبث بالحياة بأظافر متسخة أو عليها آثار دماء اغتيال آخر.
فيما العقل الحر يسخر من الموت لأنه يسخر من وجود لا معنى له إلا ذلك المعنى الكلي الذي يمنحه له لعقل الحر القلق.
العقل الآلي يخون، والعقل الحر يتمرد. العقل الآلي يخون من أجل وضعه، يخون سيده من أجل الخضوع لسيد آخر، العقل الحر يتمرد على العالم على الوضع ولا سيد له، سوى سيادته على ذاته وعلى الوجود كله.
يتساءل العقل الآلي بنوع من الحمق المكثف: كيف لذات أن تفقد وضعها الخاص المعلوم من أجل الوضع العام المجهول؟
يعود تساؤل كهذا إلى طبيعة العقل الآلي حيث المستقبل لديه هو حاضره فقط، إنه يتشبث بروح حاضره، ولا يخون حاضرة إلا لقاء حاضر شبيه أكثر امتيازاً وأصفاده مشابهة للأصفاد التي خانها.
أجل العقل الحر يحلق باحثاً عن أجوبة لأسئلة أجنحة المتمردة، الأسئلة التي لا تنفد، لأنها بنت الوجود الأصيل.
بين متعة الوجود الزائف بزيفه وفرح الوجود الأصيل بأصالته فرق في معنى الحضور. كالفرق بين ماهية الأشياء الجامدة، وماهية وجود الذات، وجود الذات الذي لا ينفصل عن انتقالها الدائم لصناعة وجودها النوراني.
العقل الأعشى
لست بمناقش ما إذا كان الأعشى يعرف الحقيقة ولا يريد أن يراها، كل ما أعرفه بأنه لا يرى الواضح والمتميّز من الوقائع والحقائق، وليس هذا فحسب بل ويقدّم عُشْوه على أنه الحقيقة بذاتها..
العقل الأعشى هو الذي أعمته مصالحه الضيقة عن الاعتراف بالحقيقة والواقع، فراح يختبئ وراء اللغة الميتة التي ما عادت تهزّ عرقا في جسد أحد من الناس. أن تكون شاعرا وأعشى فتلك فضيحة الفضائح، ليس من شيمة الشاعر، الذي هو في ماهيته روح يتمرّد على اللغة والعالم والقبح والعبودية، أن يكون ذا عقل أعشى يدافع عن الشر.
ليس من شيمة الروائي الذي هو في حقيقته كائن جوّاب للعالم وللفضاء المجتمعي أن يكون أسير صغائره، سواء كانت مصالح ضيقة أو هوية أضيق. قد تقتلك الدهشة من جمهور كبير من أكاديميي جامعاتنا، يعيشون داخل قاعات الدروس دون أن تكون لهم علاقة بما يجري في أوطاننا، بنوع من الترفع الزائف، أو قل هروبا من الواقع عبر ترفع زائف. وإن المرء ليتساءل كيف لأكاديمي ممتلئ عقله معرفة ويكون في الوقت نفسه ذَا عقل أعشى؟
لا شك أن هذا الفقر الروحي الذي يحول دون اندراجه في شؤون الحياة، ويحول دون انحيازه إلى صناع الحياة، لا يجعل من عقله عقلا أعشى فحسب، بل وأعمى بالمرّة.
أجل لا يكون العقل الأعشى إلا ثمرة للروح الأعشى، أو تعبيرا عن الروح الأعشى.. ومن حسن حظ الحياة أنها تخلق على نحو دائم العقل البصير والروح الوقاد، وعند ربيع العرب الدليل.
والأدوات الأساسية للتفكير هي المفاهيم. والمفاهيم هي كلمات – أسماء تدل على أشياء: إنسان، طريق، مجلة، طعام، بيت.. الخ. وفي الحياة اليومية لكي نفكر نستخدم مئات المفاهيم الشائعة. وبالتالي فإن البشر في حياتهم العادية يفكرون وفق مفاهيم الحياة العادية. هذا المستوى من التفكير عملي جداً وشائع بين الناس أجمعين من شرق الأرض إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
ولكن هبّ أن شخصاً أراد أن يفكر بالكون فهل يستطيع أن يفكر بالكون بمفاهيم الحياة اليومية؟ أو هل يستطيع أن يفكر دون أن يكون ممتلكاً لمفاهيم علم الفلك ودلالاتها، كالحركة وسرعة الضوء، والانفجار الكبير، والثقب الأسود، المادة المظلمة والطاقة المظلمة الخ. إذا راح يشخص يتحدث عن علم الفلك دون أن يمتلك مفاهيم علم الفلك فإنه عملياً لا يفكر. فالتفكير العلمي مستحيل دون مفاهيم العلم.
فمستوى التفكير العلمي يتحدد بمفاهيم كل علم من العلوم وليس بمفاهيم التفكير العادي الذي يتحدد بمفاهيم الحياة اليومية العادية.
ولقد لاحظت ظاهرة عامة في الوطن العربي راحت تستفحل وهي أن عدداً ممن يتحدثون في مجال المشكلات الاجتماعية والسياسية لا يمتلكون العدة المفهومية للعلوم الإنسانية فتراهم لا يفكرون.
فهم يستسهلون الحديث في عالم السياسة عبر أحكام القيم والقَدْح والذم التي لا تقول شيئاً عن الواقعة السياسية.
كيف يمكن الآن أن نفكر ونقدم خطاباً في فهم ما يجري في بعض بلدان العرب دون أن عدة مفهومية خاصة مستخدمة في الفكر السياسي أو علم السياسة أو الفلسفة السياسية كمفاهيم: الدولة، وصورة الدولة ونمط الدولة، والسلطة، والعصبية، والذهنية، والمصلحة، والأيديولوجيا والطبقة، والفئة، والنخبة، والعلاقات الدولية، والقانون الدولي، والفاشية، والديمقراطية، والدكتاتورية، وعبادة الفرد، والشعب، والأمة، والمجتمع المدني، والعنف، والحزب، والنقابة.. الخ.
وقائلٍ يقول هل إذا فكر الإنسان باستخدام هذه المفاهيم يكون تفكيره صحيحاً؟ طبعاً ليس بالضرورة أن يكون تفكيره مطابقاً للواقعة، ولكن الاختلاف يظل في حقل التفكير العلمي فقط الذي قد تفسده المصلحة والانحياز. فضلاً عن ذلك إن هذه المفاهيم هي جزء لا يتجزأ من مناهج التفكير. لكن المفاهيم نفسها ذات حياة وتتجدد بتجدد الواقع نفسه، فالعقل ابن الحياة هو عقل المفاهيم المتجددة، وعقل الإبداع المتجدد، وهذا هو العقل النقيض للعقل المنتحر.