انتشار البروتستانتية

الكنائس الإنجيلية ضمانة لمعارك الرجعية والشعبوية
الثلاثاء 2019/01/01
كنيسة إنجيلية في مونريال
 

مع ظهور التنظيمات الإسلامية الأصولية ووصول الإسلام السياسي إلى السلطة في أكثر من بلد، ساد الاعتقاد لدى أغلب المحللين بأن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا في العالم خلال العشريات الأخيرة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك، فقد أثبتت الدراسات أن الديانة البروتستانتية الإنجيلية هي التي ما فتئت تنتشر في شتى القارات، وتعزز موقعها على حساب الكاثوليكية وحتى الإسلام، إذ بلغ عدد معتنقي هذه الديانة 640 مليونا في العالم، منهم 208 في آسيا و93 في الولايات المتحدة و127 في أميركا اللاتينية. بل إن بعضهم لا يتردد في وصف انتشار هذه الديانة عبر العالم بالغزو. ويتساءل: هل هي الذراع الدينية لوكالة الاستخبارات الأميركية؟ أم نتاج العولمة؟ أم فودو مسيحي؟ أم صيغة جديدة للمسيحية في القرن الواحد والعشرين كما يزعم معتنقوها؟

ظهرت الإنجيلية في أوروبا، وخاصة في فرنسا خلال عهد لويس الرابع عشر، في بداية الحركة الإصلاحية التي تخلت عن الحضور القرباني الفعلي، وهو حضور يقع في صميم الكاثوليكية ويشمل الإنسان في كليته، جسدا وروحا وفكرا. ولسدّ ذلك النقص الراديكالي، اقترح الفرنسي جان كالفان (1509-1564) ديانة تلح على المعنى الحرفي لنصوص الكتاب المقدس، كمصدر وحيد للإيمان المسيحي، أو ما أطلق عليه ديانة النص والجبرية. ولكن سرعان ما ظهر فرع من البروتستانتية عُرف بالكلفانية المقاتلة، تمرد أنصاره ضد اضطهاد البروتستانت عقب إلغاء مرسوم نانت عام 1685، وكان أتباع ذلك المذهب يدعون إلى ديانة القلب والاختيار الفردي، فنشأت بين الطرفين معارك انتهت بقهر أنصار ذلك الفرع، الذي ما لبث أن عاد بعض أتباعه إلى الظهور في شكل سلميّ، فيما لجأ آخرون إلى أميركا لممارسة طقوسهم ونشر مذهبهم. ومنذ ذلك التاريخ والحركات المتفرعة عن البروتستانتية تتفرع وتتشعب وتأخذ أوجها متعددة حتى يوم الناس هذا، في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر، حيث وسمت بعض الكنائس والحركات البروتستانتية بالإنجيلية لتمييزها عن البروتستانتية الليبرالية. والمعلوم أن أول صحوة إنجيلية في الولايات المتحدة ظهرت عام 1727، تحت تأثير دعاة من إنكلترا مثل القس جون ويسلي (1701-1791) الذي نشر ديانة القلب والتنوير، عقبتها صحوات أخرى في الأعوام 1792، 1830، 1857، 1882، وأخيرا صحوة عام 1904 التي شهدت مولد الخمسينية (نسبة إلى عيد الخمسين، وهو عيد مسيحي يحتفل به بعد عيد الفصح بخمسين يومًا)، وكذلك “الديانة الأميركية” وضلوعها في الخيارات السياسية، التي تبدت بشكل جليّ في عهد جورج بوش الابن.

بعد مرور خمسة قرون على ظهور كالفان، يغزو الإنجيليون العالم ببروتستانتية بعيدة عن تصوره، فإذا كان رجل الدين الفرنسي يقول إن النص المقدس هو السلطة الوحيدة في مادة الإيمان، فإن الإنجيليين يعتقدون أنه السلطة الوحيدة في كل المواد بما فيها العلوم، ثم يختلفون في تبيان ذلك. فهم لا يقدمون الأجوبة نفسها ولا يملكون المواقف نفسها من جهة أصول الكون والإنسان. بعضهم لا يؤمن بنظرية النشوء والارتقاء، بل يعتقد أن الله خلق الأنواع كما نراها اليوم، (أي الثباتية fixisme)، وأن الحياة على كوكب الأرض تعود إلى بضعة آلاف من السنين فقط، وهي نظرية تخالف معطيات العلم. فيما آخرون يحاولون التوفيق بين الدين والعلم في حدود ما لا يعارض عقيدتهم. ولكن تلك التفرعات تلتقي في نقطة وهي استنادها إلى الأساليب الفرجوية والعاطفية وتمرسها بأسلحة التواصل والتسويق الأكثر طلائعية لكسب المزيد من الأنصار.

كتب

وقد عكف الفرنسي باتريس دو بلانكيت في كتاب بعنوان “الإنجيليون يغزون العالم” على دراسة هذه الظاهرة بعد أن وقف على ضخامة دينامية الحركات الإنجيلية في القارات الخمس، ولاحظ تزايد إقبال الفرنسيين، الشبان والفقراء بخاصة، على المجالس الإنجيلية، في وقت تشهد فيه الكنائس الكاثوليكية الفرنسية تناقصا مطردا، حيث يكاد الحضور يقتصر على المسنين والبورجوازيين. مثلما لاحظ حرارة رواد الكنائس الإنجيلية وبرود رواد الكنائس الكاثوليكية، رغم أن الأولى تركز في قداسها على الخطيئة وآلام المسيح والجنة والنار، أي تلك التي تخلى عنها الكاثوليك منذ سبعينات القرن الماضي، لكونها في نظرهم تنفر الإنسان المعاصر. وهو ما دفعه إلى البحث في جذور الظاهرة الإنجيلية ثم القيام بدراسة ميدانية في فرنسا وخارجها، كالبرازيل وكوريا والولايات المتحدة وإسرائيل، ليحيط باختلافاتها وفروقها، ويستنتج صلاتها بالشعبوية السياسية.

فأما عن الاختلاف، فقد لاحظ دو بلانكيت أن بعض التيارات كنائسية (أي تدعو إلى جمع كل الكنائس) وبعضها الآخر ليس كذلك، ويضرب مثلا على ذلك بالملتقى المسيحي الدولي بنيروبي عام 2007، الذي فتح باب لقاء تركز على التبادل الروحاني، حيث تبين أن كثيرا من الإنجيليين ضد التعميد، لكونه في رأيهم اختيارا يحق للفرد الراشد الذي رضي بالمسيح منقذا، ولا يحق للطفل القاصر، ومن ثم كانوا يعيدون تعميد الكاثوليك في سن البلوغ. وهذا لا يخالف فقه المعمودية بحسب الفاتيكان فقط بل يخالف مذهب كالفان نفسه في هذه المسألة. ويسوق دو بلانكيت مثلا آخر عن سرّ القربان المقدس (أي لحظة تقاسم الخبز والنبيذ) فبعض الكنائس الإنجيلية تعتبر أنه خاص بمن عُمّد كبيرا بالتغطيس، فيما تقترحه كنائس إنجيلية أخرى لكل الحاضرين، بغير تمييز.

وأما عن صلة تلك التيارات بالشعبوية السياسية فتتجلى في فترة حكم جورج بوش الابن، الذي شجع وكلاء التبشير الأميركان وكذلك الكوريين والبرازيليين على نشر الديانة البروتستانتية الإنجيلية في العراق ومنطقة القبائل في الجزائر وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، لمواجهة ما يسمونه “الإسلام الشيطاني”. مثلما تتجلى الآن مع ولاية ترامب، برغم ظهور أشكال إنجيلية جديدة تقطع مع نزعة المحافظة البوشية، حيث ينتمي الإنجيليون اليوم إلى حركات احتجاجية واجتماعية وإيكولوجية وتجريبية.

وقد تمكنت الحركات الإنجيلية في وقت وجيز من تشكيل وزن سياسي هام في عدد من الديمقراطيات الغربية، بل صارت مصدر التحولات الشعبوية في كثير من البلدان، فهي التي ساهمت في وصول زعيم اليمين المتطرف جايير بولسونارو إلى سدة الحكم في البرازيل، وهي التي أوصلت قبله دونالد ترامب إلى السلطة، وهي التي دفعته إلى تأييد سياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونقل عاصمة الكيان الصهويني إلى القدس. كل ذلك بتمويل من الأثرياء الأميركان وحكومتهم، حتى أن الكاردينال غودفريد دانيلس، أسقف مالين – بروكسل ندد عقب زيارة أداها إلى أميركا اللاتينية بتناسل الطوائف المسيحية في البرازيل عن طريق ضخ ملايين الدولارات، للحد من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية.

تلك الكنائس الإنجيلية في أميركا اللاتينية بدأت تنتشر منذ مطلع السبعينات على أطراف المدن الكبرى، في الأحياء التي تناستها الدولة والمصالح العامة، بفضل الحركات الاجتماعية ونقابات العمال، وأحزاب اليسار، حيث بادرت بفتح أبوابها لاستقبال الفقراء وضعاف الحال. وقد ازدهرت المذاهب بأنواعها – معمدانية، كالفانية، ميتودية، خمسينية – وأضحت تستقطب الناس تحت مسميات عديدة كرابطة حياة الله، الحياة الجديدة، مجمَع الله، أو الكنيسة الكونية لمملكة الله في البرازيل التي يديرها الأسقف الشهير إدير ماسيدو، صاحب ثاني شبكة تلفزيون في البلاد. تلك الكنائس تنخرط في الميديا والسياسة والأنشطة الثقافية، دون أن يربطها رابط واضح غير الوقوف مع زعيم اليمين المتطرف بولسونارو الذي رفع شعار “البرازيل فوق كل شيء. الله فوق الجميع!” لأنها كانت تؤيد تنديده بزواج المثليين والإجهاض والجندرة.

في إسرائيل أيضا توجد جماعات إنجيلية قدمت أساسا من الولايات المتحدة، اختلطت بالمستوطنين داخل المستوطنات التي أقامها اليهود في الضفة الغربية، والتي يسمونها كما يسميها الصهاينة “يهودا والسامرة”، وتساعدهم في أعمالهم وفي حياتهم اليومية. وقد قررت تلك الجماعات البقاء لتشهد النبوءة التوراتية التي تعلن عودة كل اليهود إلى أرض إسرائيل، كمقدمة لعودة المسيح، وإقامة مملكة الله على الأرض لمدة ألف عام. وقد وجدت فيها حكومة اليمين المتطرف سندا دينيا، باسم عقيدة بروتستانتية قائمة على قراءة محرَّفة للنص الديني، وسندا ماليا حيث ما انفكت تضخ بلايين الدولارات لتمويل المؤسسات اليهودية. وكان نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس في ديسمبر 2017 بمثابة انتصار لليمين الإنجيلي الأميركي، قاعدة دونالد ترامب الانتخابية.

سيستر أكث- نموذج القداس الإنجيلي
سيستر أكث- نموذج القداس الإنجيلي

ولم تسلم فرنسا هي أيضا من هذه الظاهرة التي طغت على الكنيسة البروتستانتية بوجهيها التقليدي واللوثري، حيث ما فتئت الكنائس الإنجيلية تتنامى بشكل ملحوظ، حتى فاق عددها 2500 كنيسة، تستقبل أعدادا متزايدة من الشبان والمهمشين. ويفسر سيباستيان فات، عالم الاجتماع المتخصص في تلك الحركات، ذلك الإقبال بالعوامل التالية: أولا توافد إنجيليين مهاجرين من أفريقيا وفيتنام ولاوس وكوريا وسريلانكا والبرازيل، فضلا عن جزر الأنتيل. ثانيا حملات التبشير الميدانية، وطريقة الاستقبال التي تقدم للمستضعفين والمرضى. ثالثا، الأساليب العصرية التي يقام بها القداس، حيث غالبا ما يُرافق العبادةَ رقصٌ وإنشاد، كما في شريط Sister act لإميل أردولينو، خلافا للاحتفالات الكاثوليكية والبروتستانتية التقليدية، التي تتسم بالتقشف.

والخطر يكمن في أن الإنجيليين ينتمون إلى كنائس مستقلة، تمتح من بروتستانتية راديكالية يلهج بها قساوسة نصبوا أنفسهم بأنفسهم، ودأبوا على النهل من التوراة لدوافع صراعهم الشرس ضد المثلية والإجهاض وممارسة الجنس خارج الزواج والبحث في خلايا الأجنة أو القتل الرحيم. وهم إلى ذلك يرفضون كل عمل تأويلي وتأريخي للنصوص المقدسة، ويعترضون على الداروينية، ويستغلون حسن نوايا شعوب أفقرتها العولمة بتكثيف وعود “الشفاء” و”تبديل المعتقد” و”الازدهار”. كما أنهم مبشرون نشيطون، يقاومون كل شكل من أشكال التسامح الأخلاقي في القول والفعل، ويتصدون للحداثة التي تعتبر في رأيهم غريبة عن الله. تلك التيارات الإنجيلية تُصدَّر إلى أميركا اللاتينية وإلى المدن الآسيوية والأفريقية الكبرى كعودة إلى الأصول، تغلب عليها العاطفة والبساطة وسهولة الدخول في الدين الجديد، وعمليات علاج نفسية براغماتية تُقترح على الإحباط الفردي والجماعي، معززة بقنوات تمويل قوية. ولئن رأى بعض الملاحظين في هذا الانتشار وسيلة لتعديل الكفة مع الإسلام الراديكالي، فإن آخرين يبدون قلقهم من هذا التطور المنحرف للبروتستانتية التي كانت على مرّ التاريخ في طليعة الأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وباتت ضمانة أخلاقية ودينية لأبشع معارك الرجعية والشعبوية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.