انتصار التخييل وانهزام الواقع
من بين أكثر العلاقات الفنية توتراً هي تلك التي وصمت بآثار عميقة؛ تلك العلاقة المتوترة القائمة بين التاريخ وأبنائه العرب. ومن وجهة نظر أدبية، نجد أن كل ابن يرسم صورة أبيه من زاويته المخيالية والفكرية المغايرة أسلوباً وطرحاً ورؤية فنية عن الأخرين، فمنهم من كتب عن أبيه ملاحم للتغني والتمجيد، ومنهم من خلده في مآثر السرديات الكبرى، ومنهم من هجاه وشجب فعله. ومن شرنقة هذه العلاقة الأوديبية المعقدة، يحق لنا التساؤل؛ كيف خيّل العربي روائياً، أباه الذي لم يمنحه سوى الهزائم والخيبات والخذلان؟
حينما تحدث جورج لوكاتش عن علاقة الواقع بالمتخيل؛ لاحظ أن الروائي يشكل انسجام عالمه السردي من صلب التفكك الذي يعايشه في الواقع، ولعلنا إن بنينا فكرتنا حول الرواية التاريخية العربية على هذا الانعكاس الإيجابي؛ سنجد بأن سلوكية الاستجابة السردية تقتضي أن تكون كتابة التاريخ وبنائه المخيالي في الرواية العربية، هي عملية إعادة بناء لما عايشه الروائي في عالمه من جور التاريخ ووقائعه، وما تلقّاه في مساره من هزائم لم تعد معالم مرجعية لهذا التاريخ وحسب، بل صارت معالم مشهودة للسردية العربية التي بلغت من شعرية تخييل الهزيمة في نصوصها، مسافات تضاهي عمق الجراحات التي تركها التاريخ في الذاكرة الجماعية، والاستلاب الذي سمم اللاوعي الفردي للمثقف الروائي.
أولا- مفارقة التخييل الروائي
بين المسافتين يلتقي التاريخ بكل مفاهيمه الحوادثية والتوثيقية وشخصياته الاعتبارية، بفن الرواية بزخمها التخييلي الذي يستوحي قوته من طاقة التسريد التي تذيب في مصهرها كل ما دب على وجه التاريخ من فواعل، تشكل الموقف السردي من تبئير بعضها، وتسجيل أبرزها أثراً وأكثرها إثارة ووخزاً لذائقة الروائي وذاكرته، ومن بين تلك المثيرات الواقعية يتشكل فنياً ما يسمّى الخيارات السردية، التي تشكل الموقف والرؤية الإبداعية من العالم، والتي يطرح حولها النقد الكثير من الاستفهامات:
– هل يمكن للرواية بطاقتها التسريدية أن تمنح فنياً صورة موضوعية لأيّ شخصية أو واقعة تاريخية يستدعيها خطابها؟
– هل يملك التخييل في حبكاته وتوجيه مصائره السردية مبررات لما لم يتفق حوله الناس في الواقع ولم يبرره التاريخ؟
– في لحظة التسريد هذه؛ هل يفي روائي التاريخ للتاريخ الذي يستدعيه في نصه، أم لموقفه السردي منه؟ أم لفن الرواية والتخييل الذي يشرع أبواب التاريخ على كل المكاشفات والشكوك والألاعيب السردية، بما هي السمة التي تجعل من كل عمل امتلك زمامها، عملاً روائياً؟
– هل يمكن تحقيق الالتقاء بين صفحات السرد، بين ما تناثر من شتات على صفحات التاريخ؟
إننا أمام إشكالية يشبه الجميع فيها بين التاريخي والروائي، فكرة اختلاق فضاء برزخي يلتقي فيه الكائن المتحقق والممكن الافتراضي، في لحظة تقاطع وانسجام لا تتحقق خارج فرصة التخييل السردي التي يقتنصها روائي مصاب بتاريخه، وفي طبعته العربية، مهزوم في تاريخه.
ثانياً- التأسيس العربي ومساءلة تاريخ الأسلاف
عاج أب الرواية التاريخية جورجي زيدان، يشرع بوابات التاريخ العربي الإسلامي، على أسئلة عصرها وعصرنا معاً، ويبث في زخمها الحوادثي مؤوّلات شتى من صلب منطق التخييل، مقيماً حوارات عدة مع التراث العربي الإسلايم، ووضع في مضامين رواياته التاريخية، بنوداً استشفها النقاد بحصافة؛ لصياغة خصوصيات الرواية التاريخية العربية، والتي رسمت الحدود الفنية بين هذا النوع الأدبي وليد المجتمع الحديث، وبين أنماط سابقة عملت أدبياً على أرخنة بعض الظواهر التراثية، كالمقامة والقصة والأدب والكتابة الملحمية، إذ لم تعد الرواية التاريخية في معالجتها للماضي، تهدف -كما الملحمة- إلى التغني به وتمجيده، بل إن استدعاء الماضي إلى زمن الحاضر يطرح أمام الأديب والأدب والقارئ معاً، قضايا تجعل من مخاطبة التاريخ، ذات وظيفة فنية وفكرية ونقدية، وتمنحه أهمية استراتيجية في مساءلة الحاضر، كون الماضي قد جاء ليقرأ الحاضر، ويلامس قضاياه الراهنة، ويتجه برؤياه إلى المستقبل، وليس الماضي المُستعاد كما يعتقد.
فالتاريخ في الرواية تموقف لراهن الكتابة، وهدف من أهدافها الفنية، كما يمكن أن يكون في أيدي بعض الروائيين وسيلة لتحقيق غايات أيديولوجية، ومكاسب انتمائية أو تكتلية تخدم بعض القطبيات في العالم، وهي بهذا تتجاوز في رسائليتها، أدبية الأدب، وروائية الفن الروائي، إلى مواطن وغايات استراتيجية في حياة من جعلوا الكتابة وسيلة للاصطفاف الأيديولوجي، والاستغلال المصلحي، وكلها غايات خارج روائية، لكنها تُنجز باسم الرواية التاريخية، حينما يوظف التاريخ باعتباره وسيلة، وليس غاية فنية وفكرية راجعة، وقيمة مضافة إلى الأدب والفن والتموقف منهما.
على شتات الغايات المختلفة من استحضار التاريخ في الرواية، تفرّق الروائيون العرب في تناولهم لهذه التيمة فمنحوها تشكيلات وألوان وأساليب تجريبية تجاوز الابتكار فيها المحاكاة، وقد احتد التاريخ وتغوّل في الكتابة الروائية بعد هزيمة (1967)، أو النكبة العربية، التي أخذت بثورها تستشري في جسم الرواية التي عبّرت عن الوطن المهزوم بعديد الصور والمشاهد والأساليب، تسجيلية وواقعية ورمزية. حيث لم يعد الروائي العربي بعد هذه الرزية التاريخية قادراً على إخفاء ندوبه، أو مواقفه السردية فيما يكتب.
وبعد تمظهر التاريخ المهزوم في كل مظاهر الحياة السياسة والاجتماعية والفكرية والفنية، برز من بين أبنائه من الروائيين العرب؛ من وظّف التاريخ الحوادثي في أعماله بصورة تسجيلية لخدمة قضية وطنية، وقومية في صورة أعمال غسان كنفاني، التي لم تكن تاريخية محضة، بقدر ما كانت أدباً للقضية، التي تسكن الكاتب، بأسلوب بوليسي تراوح بين البوليسي والرمزي. بمسحة قومية وسمت كتاباته كما وصمت عصره. لتتعدد بعده النماذج والصور السردية في التعبير المخيالي عن الهزيمة التاريخية، في الرؤى السردية لأبرز الروائيين العرب.
ثالثاً- التخييل التاريخي المقَنَّع (مُدُن عبدالرحمن منيف)
بتوالي الهزائم، أخذت الرواية العربية طرقاً أخرى مختلفة في استقصاء العلل والبحث والعزاءات، ولو تخييلياً، وفردها أمام القارئ. في بداية الثمانينات، يأتي جهد عبدالرحمن منيف في خماسيته “مدن الملح”: [التيه- الأخدود- تقاسيم الليل والنهار- المنبت- بادية الظلمات]، التي لا تعتبر رواية تاريخية أيضاً لكنها وظفت التاريخ الرمزي المشير بأكثر من إصبع سردي موجه إلى تاريخ السياسات والممالك العربية، ولعل قوة هذا العمل تنبع من القدرة الهائلة في توظيف الرمز والقناع، في وظيفة مزدوجة، بل وضدية؛ قوامها الحجب الذاتي للمقاصد الإشارية شكلاً، والتعرية السياسية الغيرية مضموناً، وفي كلا الشقين، يوغل الروائي في التنكيل بتاريخ الفساد السياسي والاقتصادي والأنظمة القبلية المتخلفة التي ترهن حرية شعوبها ومقدرات أوطانها في بلاد الكاتب وباقي الدول العربية التي عاش مرتحلاً بينها (سوريا/ العراق خاصة)، ما أدّى إلى منع هذا العمل التخييلي الضخم من دخول بلدان عربية عدة، ليس لخطورته التاريخية بل لحمولته الرمزية، وأساليبه الفنية في جلد السياسي بسياسته، وبتاريخه، وبفساد بطانته، أما التاريخ فكان كمصطنع رمزي الزمن والتأثيث (كما جورجي زيدان) تمثله شخصيات نمطية تشير إلى شخصيات عربية معروفة في تاريخ وسياسة تلك البلدان سواء بما تقلدته من مناصب أو بما تسببت فيه من واقترفته من أعمال وبيلة على شعبها وأمتها. كما أن هذه المدن المخيالية باعتبارها فضاءات رمزية في امتدادها المأساوي، تشمل قطراً عربياً، وجزءاً من إنسان هذا الكون الذي يتغذى مع خبز يومه؛ التبعية والقهر بثمن النفط؛ هذا الحبل السري الوحيد الذي يمثل سبب عيشه وهلاكه. ليغدو الفضاء الزمني الرمزي، والفضاء المكاني المتخيل، الوجهان المقابلان لثنائية السياسة والاقتصاد، لتصنع تلك الثنائيات القطبية، الجدل التراجيدي لصراع الإنسان العربي مع تاريخه في هذا العمل الروائي.
وهو تخييل متعدد الأبعاد، جعل من هذا العمل ملحمة روائية، تضيف الكثير من صنعة التخييل وتقنية التاريخ المُقَنّع، الذي إذ يعكس صنعة روائية بليغة، فإنه يتمثل واقعاً مقموعاً جعل القناع لغة تعبيرية تنزاح عن الواقع لتحيل على وجه الوضع التاريخي العربي الشائه، وشبكة من التيمات المتظافرة في رسم لوحات بديعة عن الهزيمة، تضيف صيغاً ابتكارية مختلفة الإحالات من التماثل الرمزي، والمحاكاة السوداء، والصيغ الحكائية التجريبية إلى الأدب الروائي عربياً وعالمياً.
رابعاً- تخييل التاريخ الغابر- شخصيات ووقائع
ترى ما الغاية من استحضار تاريخ الغابرين وتسريد وقائعه وإحياء شخصيات لتخاطب الإنسان العربي في القرن العشرين؟ الأكيد أن محافل التاريخ الغابر لم تأت لتكرر على القارئ ما فعلته في أزمنتها، ولا لتذكره بأمجاد موطنه. وتذكره بالأسلاف الأوائل.
حين استحضر نجيب محفوظ التاريخ الفرعوني في ثلاثيته (عبث الأقدار- رادوبيس- كفاح طيبة). ورابعتها، العائش في الحقيقة التي تروي سيرة أخناتون، فإن قادة وملوك الفراعنة الذين يخاطبوننا في هذه الأعمال، لم يأتوا ليكلمونا عن انتصاراتهم وهزائمهم وأزماتهم، بقدر ما كانوا وعاءً رمزياً وتمثيلياً، وأدوات فنية موجهة لمحاورة مآسي الوطن العربي عموماً ومصر خصوصاً، من خلال ثلاثي (الملك- العسكري- الشعب)، وهو ثلاثي رئيسي ليس في رسم إشكالية هذه الأعمال وحبكتها فقط، بل نجدها تصنع مأساة الوطن والإنسان العربي، وترهن مصيره، لذلك جاء سرد هذا الثالوث قائماً على بنيتين: الشخصية/والحدث. فيكون النص قصة شخصية تاريخية حين يتعلق الأمر بالقصر والقيادة ودائرة الحكم. وهو قصة حدث حين يتعلق الأمر بالمبادئ ومصائر الشعوب والقيم والأبعاد الفكرية. وما المسميات والممثلين، سوى دوال سابقة لمدلولات راهنة.
مما جعل العمل التاريخي عند نجيب محفوظ حواراً رمزياً بين شخصيات وأحداث غابرة من حيث زمن القصة، لكن حوارها الرمزي يلتفت إلى واقع العصر العربي الذي طبعت فيه الرواية. وهو ما يسمى بزمن الخطاب. وهذا ما يجعل السرد التاريخي المحفوظي بأسره أدباً للالتفات الرمزي.
وعلى نفس المنوال، لكن بتركيز أكبر على الوقائع تكتب مواطنته رضوى عاشور ثلاثية تاريخية التفاتية الخطاب، ومن حلقات الهزيمة ومسلسلها العربي الدامي، تظهر بعد حرب الخليج الثانية، وتحديداً سنة (1994)، ثلاثية غرناطة للروائية (غرناطة- مريمة- رحيل)، والتي يمكن اعتبارها العمل التاريخي الأول والأصيل بمعايير الرواية التاريخية الحديثة.
تبني رضوى عاشور صرحها في تسريد فضاء الأندلس على فكرة الفردوس المفقود، وهي استعارة مكتملة الأركان لهزيمة عربية مدوية في تاريخ الهزائم العالمية، كما أن الثلاثية مبنية على نسق أسطوري يحاكي كوميديا دانتي أليجيري، لكنها محاكاة مقلوبة من حيث كون الشاعر الإيطالي قد بدأ ملحمته بالجحيم، ثم المطهر، ثم النعيم، بينما بدأت هي بالنعيم (غرناطة) ثم البرزخ (مريمة)، ثم الجحيم أو الخروج من الفردوس (رحيل) والطرد منه.
هكذا بنت رضوى صرحاً روائياً مرحلياً لبلاغة الهزيمة على صرح تاريخي مرجعي للهزيمة، من جهة، وعلى صرح ملحمي عالمي الأثر (كوميديا دانتي) من جهة ثانية، لكن في طبعته العربية التي تبدأ على شاكلة أساطيرنا جميعاً بالفراديس والبدايات الجميلة، وتنتهي بالخسران المبين، والطرد من النعيم، وتكمل الروائية ثلاثيتها على سؤال، تلخصه الثلاثية، بأسرها: لماذا لم نحفظ درس التاريخ الذي أضحى جحراً نلدغ منه مراراً عكس مقولتنا المأثورة التي تنفي على المؤمن اللبيب أن يلدغ من الجحر نفسه مرتين. تاركة فراغاً سيميائياً متسع التأويل لذلك الجواب الذي يعرفه الجميع ويتبرم منه الجميع.
وسواء أكان قناعاً أم التفاتاً أم رمزاً لمحاورة التاريخ في الرواية العربية، فإن الحدث فيها هو المهيمن، حتى وإن برزت الشخصية البطلة بصورة الفاعل والمنفعل، لأن الحدث (الهزيمة) في النهاية يبقى هو العنوان الأبرز، الذي صاغ تلك الشخصيات وحوارها، حتى لو كانت بنيات السرد بأسرها تشير وترمز وتقنع وتلتفت، وتنزاح وتتخيل، وتصنع المفارقة، فإنها تقدم للقارئ المثقف مكاشفة روائية ناقدة للتاريخ الراهن، حين تجلده بالتواريخ الغابرة والحديثة، بهذا الخطاب الرمزي.
خامساً- الرواية التاريخية التجريبية في الجزائر
رغم أن الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وحتى واسيني الأعرج (في بداياته)، قد تَبَّلوا أعمالهم بالتاريخ أحداثاُ وإشكالات ومحاورة، فإن توظيف هذا الأخير في أعمالهم، لم يجعل منها تاريخية، لأن التاريخ فيها كان أداة اشتغال ولم يكن موضوعاً رئيسياً كتبت تلك النصوص لأجله. كونها كتابة بالتاريخ وليست للتاريخ. أو على الأقل كتابة لتخييل التاريخ. وقد عرفت الرواية التاريخية الجزائرية تجريبات وتخريبات عديدة في مسارها، ولعل أبرز التجارب فيها كانت هذه الثلاث:
1- الرواية التاريخية النقدية
يعتبر الروائي محمد مفلاح؛ الأب الفعلي للرواية التاريخية الجزائرية بمفهومها النقدي لا الكلاسيكي، حين كتب رواياته “الانفجار-1983″، ثم “خيرة والجبال-1988″، ثم “شعلة المايدة- 2010″، وأخيراً “شبح الكليدوني-2015”. وما يميز أعمال مفلاح الروائية التاريخية، هو خطها النقدي، من حيث تنكرها للتاريخ الرسمي ذي الطابع الملحمي المبهرج بالقداسة الدعائية والشرعية والمركزية الرسمية، فيما يركز قلمه على التاريخ الهامشي بكل ما يحمله من مسكوت عنه في المؤسسات الرسمية، ويعلي من أصوات المقموعين الثوريين والمشردين في المنافي، ويلقي الضوء باهراً على خطايا الأوائل بكتابة ملحمية معكوسة لا تتغنى أو تمجد، بل تجلد وتحقق وتنبش في آثار الآباء الحقيقيين للثورات ومعاني الانتصارات الشكلية التي تلد الأزمات والعاهات والتشوهات المستديمة وتورثها للأجيال، فضلاً عن حوارات تسائل الآباء المزيفين عن مكاسبهم، ممن سطوا على المنجزات، وتصنعوا شرعية مغشوشة.
وبقدر ما انشغل محمد مفلاح بمركزة التاريخ الهامشي وتهميش التاريخ المركزي، المعتمد في المقررات الرسمية، فقد برزت الرواية التاريخية النقدية لديه، بصورة أبلغ من خلال جملة من الثنائيات لعل أبرزها: الرسمي والهامشي، المعلن والمنسي، الشرعي والزائف، المُظهر والمضمر، الاستبداد والاستعباد، الثوري والانتهازي، المدني والريفي، الحكومي والعرفي، المكرس والطابو، المؤسسة والعرف، الباش آغا وشيخ الزاوية، الحاكم والدرويش، ولا نهائية من الثنائيات التي تمثل طبقية جدلية منحت للكاتب معيناً تخييلياً لا ينضب، كأنما وقع على كنز موضوعاتي أتاح له أن يشق درباً مختلفاً ولوناً جديداً، في الرواية التاريخية العربية، ارتأينا تسميته بالرواية التاريخية النقدية.
2- الرواية التاريخية المفارقاتية
لعل التجربة الثانية في هذا القطر العربي التي لفتت انتباه النقاد هي رواية الأمير (مسالك أبواب الحديد) لواسيني الأعرج، التي خصصها صاحبها لسيرة الأمير عبدالقادر مؤسس الدولة الجزائرية، وإذا بالقرّاء يكتشفون أنها سيرة غيرية للقس الفرنسي مونسينيور ديبوش، الذي كان البطل الرئيس لهذا العمل، الذي لم يكن الأمير فيه سوى أكسسوار سردي يضيء (كشخصية مساعدة ثانية) جانباً من حياة قس الحملة الفرنسية “مونسينيور” إذ تأتي شخصية الأمير عبدالقادر في المرتبة الثالثة بعد الراوي والمساعد الأول للقس وخادمه “جون موبي” وهو الذي أسند له دور الراوي، على الرغم من أن الرواية قد تزينت في غلافها بصورة أنيقة للأمير عبدالقادر. ولعل تسمية “الرواية التاريخية المفارقاتية”، هي الأنسب لهذا العمل، الذي وظف فيه الروائي بطلان أحدهما بطل رمزي للعنوان والغلاف، وهو الأمير، والثاني بطل حقيقي ووظيفي للمحتوى والمغامرة وهو القس الفرنسي “مونسينيور ديبوش”، الذي منحه الكاتب في نهاية الرواية جنازة فردوسية ملائكية، بل ملكية لم يحظ بها في الواقع أيّ قائد جزائري عبر التاريخ، ولم يمنح سكان الجزائر للقس الفرنسي تاريخياً ما منحوه له من تجلّة وقداسة في جنازته الروائية المتخيلة في رواية الأمير. مما يشير إلى أن كل مظاهر التاريخ في هذه الرواية ليست سوى ملحقات ووسائل تبتغي غايات ما وراء تاريخية، بما فيها شخصية الأمير نفسه، الذي كان أحد اللواحق الفنية لإبراز الشخصية الاعتبارية للبطل “مونسينيور” في هذا العمل. مما يدفع القارئ إلى طرح سؤال يخرج بدوره عن التاريخ، كما خرجت عنه هذه الرواية:
– ترى لماذا قام الكاتب بتنكير التاريخ لصالح القس الفرنسي، في رواية تحمل عنوان كتاب الأمير؟ وجعل له خدماً جزائريين بداية من الأمير عبدالقادر وانتهاءً بالمراسيم الملكية التي تقدسه (في جنازته الأسطورية) من طرف الشعب الجزائري. وهو ما لم يحدث قط لا في الواقع ولا في الخيال، عدى في تخييل هذه الرواية؟ وهذا السؤال الواقع خارج التاريخ يتساءل ويبرر في الوقت نفسه الهدف الماوراء تاريخي لهذا السرد. بينما يشتغل على أدوات فنية التوظيف، تاريخية الانتماء.
وضمن النمط نفسه (الرواية التاريخية المفارقاتية)، تطرح الكاتبة الشابة هاجر قويدري، روايتها التي حملت عنوان “الرايس” التي كان التاريخ فيها ديكوراً للحياة العاطفية للبطلة مريم، أما “الرايس حميدو”، أحد أشهر رياس البحر في الأسطول الجزائري، إبان فترة الحكم العثماني، الذي تحمل الرواية اسمه في عنوانها، وصورته غلافها، فلم تمنحه الكاتبة الكلمة مطلقاً، بل كان موضوعاً لكلام غيره وخاصة البطلة مريم. ما يجعله، ليس فقط شخصية ثانوية (من وجهة نظر فنية)، بل هامشية حين حرمته الكاتبة من النطق والخطاب. وهذه أسلبة تحمل وجهين: أحدهما تجريبي، والآخر تخريبي. مع أن العمل فيه اشتغال تخييلي وفني على سائر البنى الفنية للسرد التخييلي المعاصر.
والأمر المشترك بين الروايتين (الأمير لواسيني الأعرج، والرايس لهاجر قويدري) والذي جعل رسم لوحة المفارقة في سردهما التاريخي هو أن الشخصيتين اللتين تزعمتاً بطولة الغلاف والعنوان (إيهاماً للقارئ أنهما البطلان)، يجدهما القارئ، إما في مقام ثانوي أو هامشي. بينما تمنح بطولة المتن لغيرهما.
3- الرواية التاريخية الذهنية
من منظور استبطاني تتجه فيه كاميرا الرواة الخمسة (وهم في الوقت ذاته الأبطال المتناوبون على الرواية)، نحو العوالم الداخلية والذهنية أكثر من تصوير العالم الخارجي المحتدم بالأحداث، يكتب الشاب عبدالوهاب عيساوي رواية “الديوان الإسبرطي” مدوناً هزيمة الجزائر المزدوجة، حين استباحها الأتراك ردحاً من الزمن، ثم سلموها للفرنسيين على طبق وانسحبوا عائدين إلى وطنهم (بعد انهيار الدولة العثمانية)، فيما بقي المؤرخون والملحميون الجزائريون، يتبجحون بمروحة الداي حسين التي صفع بها القنصل الفرنسي بيار دوفال سنة 1830، فكانت إيذانا بسقوط حكم الأتراك في الجزائر، ودخول الجيش الفرنسي، ليعيث في هذا البلد فساداً لما يقارب قرناً ونصف القرن.
لكن ما يفرّق رواية عبدالوهاب عيساوي عن أعمال سابقيه الجزائريين الذين وظفوا التاريخ كوسيلة وأداة لغايات متعددة، هو أن التخييل لديه قد وظف كل الجوانب الفنية والتوثيقية والفكرية في هذا السرد، كوسائل ولواحق مكرسة حصراً لاستهداف التاريخ وتخييله في الرواية، وهذا هو الأصل في بنية الرواية التاريخية التي لا توظف التاريخ من أجل غرض خارج عن مداره، وإنما تقوم بتسريد كل شيء في العالم غير الروائي من أجل تخييل التاريخ روائياً.
لكن الغريب في هذه الرواية المطولة ذات الـ384 صفحة، هو قلة أحداثها التي لم تتجاوز الثلاثة:
1- إرهاصات ما قبل الحملة.
2- إبحار الأسطول الفرنسي نحو الجزائر.
3- إمضاء معاهدة الاستسلام. وتسليم الجزائر للفرنسيين. وبين هذه الأحداث الكبرى الثلاث تدور محكيات ضمنية وتفاصيل حول حياة الشخصيات في الجزائر.
ولعل تهميش الأحداث وندرتها في رواية تاريخية تستهدف فترة زمنية منقسمة بين العهدين العثماني والفرنسي في تاريخ الجزائر، راجع بالأساس إلى طبيعة الخيار السردي الذي انتهجه الروائي وهو السرد الاستبطاني (الذهني)، أي كان رؤية إلى الداخل وليس رؤية من الخارج. ما جعل موضوع التاريخ نفسه خطاباً ذهنياً خاضعاً لوجهات نظر مختلفة (الفرنسية/ التركية/ الجزائرية)، وهو ما شكل خصوصية السرد التاريخي ونوعه الاستبطاني، ومحاولة تشكيل رؤية موضوعية للتاريخ عبر تناقض وجهات نظر توزعت بين ثلاثة أقطاب متناحرة وشريكة في صنع تاريخ الجزائر.
ومن جهة ثانية، نسجل بأن الوصف الاستبطاني (الذهني) للتاريخ، أضر بشكل بالغ بمفهوم الحدث التاريخي الذي تقوم عليه الرواية، حيث كان السرد موجهاً للداخل ومهتماً بنفسيات ومشاعر الشخصيات، أكثر من كونه وصفا خارجياً للحدث التاريخي، أي أن الحدث الخارجي كان مهمشاً لمصلحة أثره الداخلي، وانعكاسه الذهني والنفسي على الشخصيات.
ومن جماع هذه التجارب والمشاريع السردية التاريخية العربية، يمكن أن نستل، إضافات إنجازية عدة لشعرية السرد التاريخي، ومسارات جديدة ومختلفة شقتها تلك التجارب السردية العربية في صرح التخييل التاريخي، إذا ما استوقفنا كل تجربة من تلك التجارب الروائية العربية التي بنت كل منها وقائعها المخيالية وبلاغتها في تصوير المشاهد واللوحات، من صلب رؤيتها التراجيدية للخلفية الهزائمية لتاريخها الواقعي، والتي يمكننا رصدها بوضوح باعتبارها خلفية مرجعية للمشاريع السردية التاريخية التي تناولناها، مؤكدة أن البعد المأساوي في خطابها لا يختلف عن المأساوي العالمي من حيث جذوره الفكرية والفلسفية، التي تربط مصائر شخصياتها بخيط قدري، وطالما كان التاريخ العربي ببعديه: الدموي سواء في الفتن الداخلية، أو الهزائمي المرتبط بالحروب الخارجية، قدراً قاسياً على إنسانه، وأباً طاغية، لا تتوقف سلالته الأوديبية عن التناسل والتمظهر التخييلي والرمزي الذي يسم العلاقة الصراعية بين الرواية والتاريخ العربيين.