اهتمام هزيل
مكانة القصّة القصيرة اليوم لدى القرّاء هي جزء من مكانة الثقافة العامة الضعيفة لدى القارئ، فهي تعاني من هزال الاهتمام ذاته الذي يلقاه الأدب بشكل عام، في ظلّ اكتساح الثقافة المرئية والرقمية للساحة، وفي ظل الاضطراب الفكري والفني السائد. من ناحية أخرى نلاحظ أنه ما إن يبرز كاتب قصة ممتاز مثل محمد المخزنجي في مصر، أو غيره في البلدان العربية، فإن الاهتمام بالقصّة ينتعش ليؤكد أن القصّة ما زالت تشغل مكانها الأثير لدى القرّاء، وأن المسألة رهن بما يقدّمه مبدعو القصة في عالمنا العربي.
بالطبع جددت القصة القصيرة أساليب كتابتها بشكل حاسم بعد أن تخلت في الستينات عن شكل القصة التقليدية الإدريسية الذي رسّخه يوسف إدريس وسعيد حورانية وعبدالسلام العجيلي وآخرون. ثم جدّدت القصة أساليبها في الثمانينات باقتحام عالم الواقعية السحرية، والانفتاح الفكري على تيارات فلسفية وفنية مختلفة، إلا أنّ ذلك التجريب الكبير لم يفقدها أهم مميزاتها كشكل فني، لكنه منح تلك المميزات أجنحة لتحليق أقوى في أفق أكبر، وخلال ذلك صانت القصة القصيرة شكلها كجنس أدبيّ مستقل، ومع التداخل المشروط المدروس بين لغة الشعر والسرد القصصي، فإن ذلك التداخل لم يبتلع شكل القصة وفن السرد لصالح الشعر. معظم كتاب القصة القصيرة الكبار يتمتعون بلغة شعرية، لكن طبيعة اللغة الشعرية لا تعني أننا إزاء انتقال من السرد إلي الشعر.
لا أعتقد أن الرّواية دفعت القصة القصيرة إلى الخلف. ولم يحدث أبدًا أن دفع شكل أدبي شكلا آخر إلى الخلف. الأشكال المتنوعة التي تستند في حياتها وبقائها لضرورة تاريخية وفنية لا تزول، قد تبهت أحيانا، لكنها سرعان ما تعود متألقة. هناك الآن اهتمام خاص بالرواية يعود بالأساس لحاجة القراء إلى تفسير شامل للأوضاع الاجتماعية والإنسانية التي يعيشونها من دون أن يجدوا رؤية تفسر تلك الأوضاع في شمولها وتضافرها السياسي والاجتماعي. لكن ذلك لا يعني إزاحة أو زحزحة القصة القصيرة للوراء.
القصة القصيرة قادرة على التعبير بكفاءة عن واقعنا العربي الإنساني، المشكلة في كتّاب القصة وليس في القصة. المشكلة في النغمة وليس في القيثارة، وغير صحيح في اعتقادي أن كتّاب القصة القصيرة يهجرونها لصالح الرواية. لدينا أدباء لا يكتبون سوى القصة القصيرة، ويعكفون على تطويرها. وقد اتسعت القصة القصيرة عبر تاريخها الطويل للتعبير عن الهموم الكبيرة بمختلف أنواعها، ومازالت قصص أنطون تشيخوف تبز في عبقرية ذلك التعبير روايات كاملة، وأيضا قصص أو. هنري، وأندريه بلاتونوف، ولويجي بيرانديللو، وغيرهم. لقد أثبت ذلك التاريخ الطويل من الإبداع أن بوسع القصة كجنس أدبي أن تفتح ذراعيها لأكبر الهموم وأن تعبّر عن ذلك باقتدار عبقري. وهناك قصص قصيرة كتب لها أن تتمتع بالخلود أكثر من عشرات ومئات من الروايات.
وأرى أن مستقبل القصة القصيرة ممتد ومفتوح، إما انتعاشها ورواجها، أو بالعكس شحوب الاهتمام بها، فالأمر مرهون بشروط أخرى مثل: حالة الثقافة العامة، واهتمام الصحف الثقافية بذلك الجنس الأدبي. سكان مصر الآن تسعون مليون نسمة، وليس لدينا سوى ثلاث مجلات ثقافية؟ من أين للقصة أن تنتعش؟ هذا يشبه أن تطالب سمكة بالحياة في الصحراء. مستقبل القصة رهن إلى حد كبير بالاهتمام الثقافي بها، لكنها في كل الحالات ستواصل البقاء والتطور وتمنح الناس المزيد من اللحظات الجميلة الغنية بالشعور والفكر.