بابل الثانية
شكّل موضوع الهُويّة وإعادة تعريفها، المحور المركزيّ في الرواية اليهوديّة المكتوبة بالعربيّة، أو التي كتبها روائيّون يهود عاشوا في بلدان عربيّة، وكتبوا عن أحوال طائفتهم، أو تلك الروايات العربيّة التي كانت أحوال اليهود موضوعا لمتونها السرديّة، أقصد بذلك هُويّة الجماعة اليهوديّة في بيئة ثقافيّة عربيّة-إسلاميّة، ففي تلك الروايات تعوم رغبة صريحة في ذكر تفاصيل الحياة اليومية على خلفيّة من الشعور بالاقتلاع وعدم الاندماج، والبحث عن هُويّة بديلة تخطّيًا لهُويّة ملوّثة، مع الرغبة في الابقاء على الهوية الأصلية؛ فمعظم الروايات اليهودية المكتوبة بالعربية عرضت شغفًا منقطع النظير بالبيئات الأولى، فقد اشتبكت بالمرجعيّات الاجتماعيّة الحاضنة لها على نحو يتعذّر معه فكّ الاشتباك بينهما، فلا يمكن تعريفها إلاّ بتلك المرجعيّات وأحداثها التاريخية، وباللغة التي كتبت بها.
عدّت هجرة اليهود من العراق إلى إسرائيل في مطلع خمسينات القرن العشرين نوعا من الاقتلاع من وطن عاشوا فيه مدة طويلة جدا، ووقع تهجيرهم القسري في ظروف سياسية بالغة الحساسية على خلفية ظهور دولة إسرائيل في فلسطين، مما عدّه كثيرون هجرة إجبارية مناظرة لتهجير اليهود إلى العراق في حوالي منتصف الألف الأول قبل الميلاد، إذ اعتبروا حياتهم الجديدة في إسرائيل “نفيا بابليا ثانيا” وذلك يناقض الرواية الشائعة القائلة بأن إعادة اليهود إلى “أرض الميعاد” تحرير لهم من شتات طويل، فثمة تنازع في صلب مفهوم الهوية.
في بحث استقصائي كتبه زفي بن دور بعنوان “النفي اللامرئي: اليهود العراقيون في إسرائيل” عرض فيه حقائق التهجير في ضوء جديد مخالف للرواية الاسرائيلية الرسمية القائلة بعودة اليهود إلى وطنهم الأصلي بعد شتات طويل، وكشف الظروف المعقّدة التي رافقت تلك العملية التي جاءت أقرب ما تكون إلى حالة انتزاع من الوطن الأصلي تحت طائلة الخوف المبالغ فيه، وعلى هذا اعتُبر المهجّرون في إسرائيل صنفا من اللاجئين-المواطنين، فهذا “الوضع الغريب الذي فرض على يهود العراق من حيث كونهم مواطنين ولاجئين في آن ليكشف عن الفجوة المعيقة التي ما فتأت تتّسع بين أنموذج العودة اليهودية التي تروّج لها الأيديولوجية الصهيونية، والتاريخ الفعلي المُعاش للعديد من هؤلاء اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل.
بيّن هذا الوضع على نحو جليّ أن الصهيونية وهي الأيديولوجية التي استندت في وجودها إلى مفاهيم الخلاص وإنهاء النفي والعودة والإعادة أنتجت في جوهرها أشكالا جديدة من النفي تحرص هذه الأيديولوجية على إبقائها لامرئية؛ لأن المعنيين بها هم نفس الأشخاص الذين أسهم خلاصهم في إنكار احتمالية النفي ذاتها. على وفق ذلك، فإن حالة النفي الدائم التي عبّر عنها السواد الأعظم من الكتاب اليهود من أصل عراقي لا يمثل نفيا من العراق، فحسب، ولكن، والأهم، نفيا عن الحل. وفهمهم الغريب هذا لوجودهم بوصفه نفيا مزدوجا يبدو متوافقا إلى حدٍّ بعيد مع السرد المزدوج لدولة إسرائيل”.
تركت هذه الحالة الملتبسة من الاقتلاع أثرها في وعي ولاوعي الكتاب اليهود من أصول عراقية، إذ ذهب شمعون بلاص إلى أن مغادرة اليهود للعراق كانت “مأساة إنسانية لا سبيل إلى الخلاص من آثارها”. ولم يعترف بانتمائه للأدب العبري. بل إن سيرته الذاتية الحوارية جاءت بعنوان “وطن في المنفى”. واعترف سمير نقّاش الذي رفض الكتابة بالعبرية، بأن الرحيل من العراق كان “بمثابة صدمة شكّلت سنوات حياته اللاحقة وتركت أثرا لا يمحى فيها” ما دعاه إلى الهروب من إسرائيل بصحبة عمّه عائدين إلى العراق، لكن وشاية أدّت إلى اعتقالهما في لبنان مدة ستة أشهر أعيدا بعدها إلى إسرائيل، بعد أن صودرت مخطوطاته التي كان يحملها معه، وكل ما نشره نقّاش من نصوص سردية عكس “الآفاق الواسعة لخياله الفكري وتعلّقه العاطفي بوطنه الأم، العراق”، ومنها كتابه “قصص وأشواق لبغداد”.
لم يقتصر الاحساس بالنفي الجديد من العراق إلى إسرائيل على نقّاش وحده، بل شمل ذلك سامي ميخائيل الذي عبّر عن خطأ قبول الهجرة “ما أن وصلتُ إسرائيل حتى نشبتْ الحرب بين دولة سامي ميخائيل ودولة إسرائيل”. وعلى هذا يبدو “أن العراقيين في إسرائيل هم أبطال المنفى وضحاياه في آن”. وطبقا لـزفي بن دور فإن أيّ نظرة سريعة على السرود التي كتبها يهود العراق تكشف “ولع الغالبية العظمى من الكتاب اليهود من أصل عراقي بموضوعة المنفى”، فمعظم تلك الآثار الأدبية وقف طويلا على “لحظة محدّدة من تاريخ اليهود العراقيين: لحظة الرحيل عن العراق” ولم “تترك شاردة ولا واردة إلا ووثّقتها وصوّرتها”.
وكانت لحظة المغادرة هي المنعطف التاريخي بين ضربين من الحياة: أليف اعتاد اليهود عليه، ومضطرب لم يكن محسوبا، وقد وصف نقّاش ذلك بقوله “إن الوصول إلى إسرائيل لم يكن يعني شيئا لليهود العراقيين، بل إنها لحظة الرحيل عن العراق بكل ما تفاصيلها ومدياتها ونتائجها التي صيّرت لحظة الرحيل الحدث الأكثر إيلاما في حياة اليهود العراقيين”. وعلى هذا تميزت “الكتابات العراقية في روعة تعبيرها عن تلك العلاقة الفريدة التي تربط مؤلفيها بوطنهم الأم-العراق”. ظهر تلازم بين كثير من الأعمال السردية وحاضنتها العراقية مما جعل فصم الصلة بينهما لا فائدة منه.
ما هي المستندات السردية التي تؤكّد ذلك؟ قدّم نعيم قطّان في روايته “وداعًا بابل”، كشفا بأوضاع اليهود العراقيين في بغداد خلال أربعينات القرن العشرين، فجاء النصّ سيرة نشوئيّة لجيل من الكتّاب الشباب عاصروا أحداث الحرب العالميّة الثانية. وعبّر قطّان شأن غيره من الكتّاب اليهود العراقيين عن الارتباك الذي أفرزته مفاهيم ثابتة للهُويّات العرقيّة والدينيّة والثقافيّة، وشخصيّاته الأساسيّة تتنازعها رؤى مفارقة للجماعة اليهوديّة، لكنها منحبسة في إطار مقيد لمفهوم الهوية، ولم تتعدّاها إلى طرح هُويّة جامعة كانت تحلم بها، فلم تنس سوء التفاهم بين الجماعة الإسلاميّة الكبرى والجماعة اليهوديّة الصغرى، فشُغلت بما يمور داخل الجماعة الأخيرة، وبخاصّة نهب “الفرهود” ممتلكات بعض اليهود في عام1941.
قبع مفهوم الهوية الأصلية في الخلف متواريا، فالعراق وطن أصلي للجماعة اليهودية وإن تناوشتهم فيه الأضرار، على أن هذا المفهوم للهوية جاء مبهما، فحينما تتوالى الأخطار على فئة معينة من الناس تنكفئ على نفسها تُلملم تصورا مضطربا للهوية يحتمل تعارض العناصر وتضاربها.
تحدّث قطّان عن “اللهجة اليهوديّة” ولم يشر للعبريّة بوصفها لغة اليهود، وبتلك اللهجة قصد العربيّة المحكيّة ليهود العراق، وبها يختلفون عن سائر ناطقي العربيّة في العراق وسواه، “في العراق يكفي حضور مسلم واحد في مجلس ما كي تفرض لهجته نفسها على الجميع. ولكن هل هي لهجة عامّيّة فعلاً؟ لكلّ طائفة دينيّة في بغداد طريقتها في الكلام. وسواء كنّا يهودًا أم مسيحيّين أم عربًا، فكلّنا نتكلّم العربيّة. نحن جيران منذ قرون إلاّ أنّ اللكنة وبعض المفردات ظلّت علامات مميّزة وفارقة. يكفي أن يفتح أحدنا فمه ليشي بهُويّته. في كلماتنا محفور شعار أصولنا”.
لوّثتْ لهجة اليهود من طرف لهجة البدو المسلمين، هذا أمر مزعج لليهوديّ الذي يجد نفسه عريقًا في انتسابه التاريخيّ للعراق، فيما البدو مجرد جماعة طارئة حديثة العهد فيه. وردت إشارة إلى ذلك، أيضًا، في رواية “فيكتوريا” لسامي ميخائيل لتعزّز هذه الفكرة التي شُغل بها قطّان، إذ تستعيد فيكتوريا، الشخصيّة الرئيسة في الرواية، تميّزها اللغويّ وما يفصلها عن الجماعات العراقيّة الأخرى بوصفها يهوديّة، وهي تتّجه إلى النهر للانتحار، “كانت اللغة العربيّة التي جرت على لسانها لغة حضريّة قديمة ورقيقة بخلاف اللهجة الإسلاميّة البدويّة التي قدمت منذ عهد ليس ببعيد من الصحراء إلى الأماكن التي أصبحت خرابا، وفقدت خصوبتها”.
رغب “نسيم” في رواية “وداعا بابل”، في طرح هُويّته اليهوديّة من خلال لهجته، فهو يريد صون تلك الهُويّة بجعل لهجتها وسيلة للتداول، ولن يقبل أن تكون موضوع انتقاص، فحينما يستخدم المسلم اللهجة اليهوديّة، فإنّما ليسخر ويزدري، فلهجة المسلمين تستبعد لهجات الآخرين، وتفرض حضورها، فيتوارون خلف كثافة هذه اللهجة شاعرين بالإقصاء. جرى التواطؤ على قبول هذه الاستراتيجية اللغويّة في المحافل العامّة، لكنّ نسيمًا بتعمّده النطق بلهجته اليهوديّة قصد أن يعيد النظر بكلّ ذلك، فالشراكة تقتضي اعترافا بوسائل التعبير، ومنها تقاسم لهجات العربية، فلا عجب أن قدّم الراوي الاستدراك الآتي “في مجموعتنا لم نكن يهودًا ولا مسلمين. كنّا عراقيّين مهمومين بمستقبل بلدنا، وبالتالي بمستقبل كلّ منا. على أنّ المسلمين كانوا يحسّون بأنّهم عراقيّون أكثر من الآخرين. ومهما قلنا لهم: هذه أرضنا ونحن هنا منذ خمسة وعشرين قرنًا، وإنّنا سبقناهم إلى هذا المكان، فإنّهم لا يقتنعون. نحن مختلفون. هُويّتنا ملوّثة. فليكن. قرّر نسيم أن يتحمّل مسؤوليّة اختلافه، وأن يفرض الاعتراف بهذا الاختلاف. لم يكن راغبا في الإقناع، ولا كان يحاول تقديم براهين. كان يعرض أمرا واقعا: نحن يهود ولا نخجل من ذلك”.
من الصحيح أنّ الأغلبيّة تتفاجأ حينما تقترح الأقليّة موقفا مغايرا؛ فالتبعيّة ترسّخ بفعل الغَلبة، لكنّ صدعا كالذي انتظره سليم لم يقع، إذ قُبلت الخصوصيّة اليهودية المُقترحة، وهُضم الاختلاف الذي طُرح بغتة أمام الجميع، وكسب نسيم رهان “لأوّل مرّة أخذ مسلمون ينصتون إلينا باحترام. صرنا لائقين بلهجتنا متألّقين في ملابسنا الخاصّة بنا. أفواهنا أخذت تستعيد أشكالها الحقيقيّة. تلك الأشكال التي ما انفكّت تستعيدها منذ أجيال في حميميّة البيوت. كنّا نتجلّى من خلال صورة في تناغم تامّ مع وجوهنا ودون أيّ نشاز مع تفكيرنا. أصبحنا غير مصبوبين عنوة في قالب جماعيّ غريب عنّا وغير واضح المعالم. كنّا هناك في فرادتنا الهشّة والمتوهّجة. ولم تبق تلك الفرادة علامة إهانة ولا رمز ازدراء. أصبحنا غير مضطرّين إلى التخفّي وراء ستائر مساواة وهميّة. صارت ملامحنا تخرج من الظلّ وتتشكّل دون أن تشبه أحدا. كنّا هناك بوجوهنا السافرة، وقد تم تعرّفها والاعتراف بها أخيرا”.
يختلف رهان التعبير عن النفس عند الأغلبيّة عمّا هو عليه عند الأقليّة. يريد نسيم أن يتطابق مع هُويّته اليهوديّة في محيط إسلاميّ كبير، لكنّه يتسبّب في خدوش متواصلة للآخرين، فهو يريد أن يقف معهم على قدم المساواة بوصفه مواطنا، ولكن بخصوصيّة يهوديّة، غير أنّ الآخرين يريدون حشره ضمن يهودية في موقع أدنى منهم. ولهذا يلازمه نوع من الاستفزاز، وما لا يقبله سواك، فليس من العدل أن تقبله.
تخطّى نعيم قطّان عتبة الارتياب الفردي حول الهوية الذي وصفه في” وداعا بابل” إلى وصف الارتياب الجماعي في روايته “فريدة”، فقد أرادت النخبة الثقافية العراقية في النصف الأول من القرن العشرين اندماجا ثقافيا عابرا للانتماءات الدينية والعرقية والمذهبية من أجل بناء مجتمع حديث تنصهر فيه كافّة الأطياف، لكنّها فشلت بسبب تصاعد الأيدولوجيات القوميّة والدينيّة، والإيمان بالمرويّات التأسيسيّة حول الأديان والعقائد، فهو اندماج أخفى نزاعا مبطّنا دفعت به الأفكار القوميّة العربيّة، والأفكار القوميّة اليهوديّة، ما أدّى إلى انقسام المجتمع حول تلك الأيديولوجيات وغاياتها، وما لبث أن ظهر نزاع أعمق يتّصل بالتشكيلات الكبرى للمجتمع العراقي، استمدّ فاعليته من التمايز المبنيّ على سرد خياليّ يقول بالتفاضل، ويضمر التوجّس، بل الكراهية.
عبّر قطّان عن ذلك بصراحة “مهما تفانى اليهود في التعبير عن وطنيّتهم، وفي نفي أيّ ميل للصهيونيّة، وفي إنكار أيّ صلة بالصهيونيّين القادمين من الغرب، فإنّهم يظلّون يهودا، أي مشكوكا في ولائهم”. تتحرّك الشخصيّات في الرواية اليهوديّة العربية على خلفيّة شعور جماعيّ بوقوع كارثة، فمصير الشخصيّات الأساسيّة فيها غامض، وعلاقاتها بالمكان طارئة، وغالبًا ما تلوح مظاهر ذعر يكون مصدره الآخرون أو الطبيعة أو التاريخ.
يتغذّى الارتياب الجماعيّ من فرضيّة لها صلة بالرواية التوراتيّة للتاريخ، إذ تدّعي الجماعة اليهوديّة أنّها عراقيّة أصليّة، وأنّ العرب طارئون قدموا من الصحراء. وثمّة دمج لا يخفى بين تاريخ الجماعة اليهوديّة وتاريخ العقيدة اليهوديّة، فطبقا للرواية التاريخيّة فإنّ الجماعة اليهوديّة سُبيت من مملكة “يهوذا” ودمّر هيكلها في عام 587 ق. م، واقتيدت إلى بابل في عهد الملك الكلدانّي “نبوخذ نصّر”، حيث دوّن الأحبار من الأسرى كتاب التوراة، ثمّ كُتبت شروحاته الأصليّة المتمثّلة بالتلمود.
يقصد بهذا ظهور جماعة دينيّة منفيّة بلا وطن، فاكتسبت وطنا بالمعايشة التاريخية الطويلة. لكن فكرة المنفى ظلت قابعة في المخيلة العامّة كجزء من فكرة الشتات، وهي فكرة مكينة من المرويات اليهودية، وينبغي وضع حدّ لها في نهاية المطاف طبقا للوعود الغزيرة في تلك المرويات. عُدّت بابل موطنًا يهوديّا، فهم سكانها الأصليّون، وهذا لا ينسجم مع الرواية الرسمية التي روجت لها الصهيونية، ونظر إلى العرب على أنّهم عصبة غازية تدفقت من صحراء شبه الجزيرة، فقد جاؤوا حاملين تقاليد الغزو الصحراوي، وعند حدوث أيّ احتكاك يكشف العربيّ المسلم عن معدنه البدويّ الأصيل: النهب والسلب والقتل “مع أوّل انفراط للقوانين والرقابة يستعيد المسلمون غريزة الذبح”.
يبدو العراق وطنا أصليا لأبنائه اليهود، فيما لم تقع الاشارة لإسرائيل على الإطلاق. ولكن ارتسمت صورة سلبيّة للمسلمين بوصفهم غزاة بالطبيعة، وينبغي الحذر منهم. ففي عمق المخيّلة اليهوديّة يترسّخ خوف من المسلمين، ولطالما حذّرت الجدّة، في رواية قطّان، أبناءها وأحفادها من مغبّة الذهاب إلى الأحياء الإسلاميّة كي لا تقع المخالطة الكاملة، فكلّ تفكير بعلاقة مع المسلمين قد يتبعه توثيق الروابط والصلات، وذلك يعني دخول المسلمين في المنطقة اليهوديّة.
وبالمقابل نظر المسلمون إلى الجماعة اليهوديّة بريبة؛ لأنّها غير حائزة على سمة المواطنة الكاملة، ولكون اليهود يغلّبون الانتماء للعقيدة على الانتماء للوطن. حدّد الموروث الدينيّ المواقع والرُتب وقرّر الأدوار، وفي ضوء ذلك بدا الاندماج اليهوديّ داخل الجماعة الإسلاميّة متعذّرًا في الرواية اليهوديّة، وإن حصل فهو مصطنع يقوم على فكرة الخداع، لأنّه من الباطن نزاع مؤجّل سيعبّر عن نفسه في ظلّ أيّ أزمة. لا تحوز الشخصيّات استقلاليّة كاملة فهي رهينة التحيّزات الدينيّة، ولهذا تتعرّض إلى مضايقات، إذ لم يقع هضم الأغيار في ثقافة نهضت على مبدأ الفصل بين الأديان والمذاهب والأعراق. المبغى والمقهى هما المكانان الوحيدان للشراكة والاندماج. وقد طوّر قطّان هذا الموضوع في راوية “فريدة”؛ فالمغنّية اليهوديّة الشهيرة تصبح عشيقة لأحد أهمّ رجالات بغداد، فالمتعة الجسديّة لا هُويّة لها على نقيض التخيلات العرقية والدينية. تتراجع التخيّلات الفاسدة إلى الخلف حينما تحضر متع الجسد.
شكّلت أحداث “الفرهود” اختبارًا فاصلاً بين المضيّ في انتماء اليهود للعراق وطنا لهم، أم البحث عن وطن بديل حيث ترتسم دولة إسرائيل في الأفق، ففي الأرض “المقدسة” كمنَ الوعد الأخير بالطمأنينة والشعور والانتماء، وكلّ ما سوى ذلك عارض ولا سبيل لاختبار صلابته؛ فكّر “سليم عبد الله”، في رواية “فريدة” وهو يتأهّب للرحيل إلى إسرائيل عبر إيران “طهران ليست سوى محطّة، بضعة أشهر ويغادرها نحو مكان آخر حيث سيكون عليه أن يخترع لنفسه عالمًا آخر، وحيث سيكون عليه أن يولد من جديد رجلا جديدا.
هناك سيتلاشى ماضيه في ماضي شعب بأسره”. فكرة اختراع وطن تنفي فكرة الوطن الطبيعي، غير أنه أفصح عن حلمه التوراتيّ، وهو يخاطب عشيقته “فريدة” قبل وقت قصير من مغادرة بغداد “سنلتقي في بلد جديد نبنيه بأيدينا، سنشيّد لنا بيتا ونعيش حياتنا الجديدة. لن يكون لأحد أن يشهر في وجهنا إصبعه. لن يكون لأحد أن يشعر تجاهنا بالغيرة أو الاحتقار. سنكون أشباهًا ونظراءَ وسنتكلّم لغة واحدة. اللغة التي سنتعلّمها. وسيكون لكلّ كلمة المعنى الذي نراه”.
أصرّ “سليم عبد الله” على أن يظهر بوصفه ضحيّة دينيّة، وتجاهل الأخطاء الشخصيّة التي سقط فيها، ومن الصعب تخريج هجرته من العراق على أنّها نتيجة اضطهاد مقصود يقتضي مغادرة الوطن، فهي بحث عن حلّ لشخص هارب من وجه العدالة. قد يقع خلاف في كونه متورّطا في جريمة قتل صديقه اليهوديّ “ساسون قره غولي”، فسيرته الشخصيّة، وعلاقته بالقتيل، وصلته بالمغنّية “فريدة” ترجّح أن تلفيق سبب دينيّ لهروبه لا يمكن الأخذ به، فقد عاشر المومسات، وضارب بالأموال، ثمّ سقط في سلسلة من الأخطاء أنقذته منها عشيقته، وتمكّنت من تهريبه من السجن بعد حكم بالمؤبد وإيوائه في منزل عشيقها “جواد هاشم” مدير شرطة بغداد، وهيّأت له الفرصة ليعيش بعيدا عن الأنظار، وهو ما سهّل له أمر الهرب إلى طهران تجنّبًا لإلقاء القبض عليه.
فكيف تلتصق بتأمّلاته أسباب أخرى للهجرة لها صلة بهُويّته اليهوديّة؟ قضيّة إنتاج هُويّة زائفة لسليم بوصفه يهوديّا مضطهدًا على خلفيّة من أوضاع قلقة ليهود العراق أمر لا تدعمه أسباب سرديّة مقنعة في النصّ، فخروجه أقرب ما يكون إلى عمليّة تهريب قامت بها عصابة غامضة، وليس من العدل أن يبحث عن تخريج يهوديّ لقضيّته. فقد جاءت نهايته ملفّقة.
تنجرف شخصيّات قطّان في تيّار الحياة البغداديّة، وتلامس روح النزاع الكامن بين الطوائف والأقليّات، ويدّعي بعضها أنّه منخرط في المشروع الوطنيّ العابر للانتماءات الدينيّة والعرقيّة، لكنّها تقع أسيرة هُويّتها الدينيّة الضيّقة، ويظهر المسلمون بدوًا أشرارًا اكتسحوا المجال العامّ، وسيطروا عليه.
لم تكن الجماعة الإسلاميّة بريئة من استشراء ثقافة الكراهية في أوساطها وفي علاقاتها بأصحاب الأديان الأخرى، لكنّ انكفاء الجماعة اليهوديّة على نفسها في أحياء خاصّة، رسّخ في المخيال الجماعيّ أنّها تشكيل هشّ في علاقته بالآخرين، وإقرار بعدم الرغبة للانتماء في الجماعات الكبرى، بغية الحفاظ على الهُويّة اليهوديّة، ففكرة “الغيتو” تقليد ملازم للأخلاقيّات اليهوديّة العامة؛ لأنّ الجماعة موعودة بأرض أخرى طبقًا لرواية التوراة، ويزداد الأمر تعقيدًا بالنسبة إلى العرب، حينما يدركون أنّها تتطلّع إلى إقامة “وطن قوميّ” على حساب جماعة عربيّة من السكان الأصليّين، فيقع صدام بين المرويّات يغذّي سوء التفاهم بمزيد من الشكوك.
يشعر اليهوديّ بأنّه مقتلع، وقد أجبر على العيش في منفى مؤقت، لكنّه موعود من الربّ بتصحيح الخطأ في يوم ما، والعودة إلى الوطن، فيما يرى المسلم أنّ الأخذ بهذا الوعد سيؤدّي إلى اقتلاع جماعة عربيّة من فلسطين.
توازت في كتاب “وداعًا بابل” هُويّتان ملتبستان، هُويّة الراوي وهُويّة طائفته اليهوديّة، وكلتاهما مرتهنتان بوعد، ومنجرفتان إلى مصير غامض بسبب صعاب الاندماج في الوطن الأصلي. لا تعثر الطائفة على أيّ نوع من الطمأنينة في بلد يعاد فيه تعريف الهُويّات، ولا يجد الراوي إنّه قادر على العثور على نفسه، فهو بانتظار سبي جديد كما سبي أجداده إلى بابل، سوف يختار الراوي فرنسا بوصفه فردًا، لكنّ جماعته سيعاد أمر ترحيلها مرّة أخرى إلى “منفى” جديد بمزيج من الترهيب والترغيب. هذه الدائرة من الارتحال الدائم العابر للأزمنة والأمكنة نجد لها مثالاً باهرًا في شخصيّة “شلومو” التي تمثّل المركز الجاذب لكلّ شيء في رواية “شلومو الكرديّ وأنا والزمن” لسمير نقّاش.
تثير رواية نقّاش جملة من الأسئلة المتّصلة بهُويّة اليهوديّ الذي كلّما توهّم إنّه وجد ملاذًا في بلد ما اقتلع من جديد، فكأنّ ثمّة سخطًا ربّانيًّا لا يزول إلاّ بعودته إلى أرض الميعاد. يتنازع اليهوديّ المُساكن للأغلبيّة الإسلاميّة انتماءان، انتماء خاصّ لطائفة دينيّة، وانتماء عامّ لثقافة كبرى، فشلومو بن يهوذا كتّاني الكرديّ، تلازمه الطقوس اليهوديّة وأدراج التوراة وصرر المال حيثما كان، ولا ينفكّ يحمل معه كتاب الصلوات وشال الصلاة، ثمّ الحزامين الجلديّين اللذين اعتاد المؤمنون من اليهود على لفّهما حول رؤوسهم وأذرعهم في أثناء الصلاة. وهو شديد الحرص على تناول اللحم الحلال، وكلّ ذلك من التقاليد التي ترسّخت خلال العصور الوسطى عند اليهود، ويعاد تمثيلها في هذه الرواية بوصفها جزءًا من هُويّة اليهوديّ.
لا يخفى التماثل الاستعاري بين شلومو الكرديّ وبين سمير نقّاش، فهما يعرضان رؤية مأساويّة حول الاقتلاع، فكما أنّ المؤلف عاش في العراق وإيران والهند وإسرائيل ثمّ بريطانيّا، فإنّ بطل روايته دُفع إلى خوض تجربة مناظرة في عالم افتراضّي يغطّي هذه الأمكنة؛ فالرواية شهادة سرديّة ذاتيّة على ترحّل بين مدن وبلدان يستعيدها شلومو الذي عاصر نحو قرن من الأحداث، وهو شيخ هرم في مستعمرة “رامات غان” في فلسطين، حيث ختم مسار حياته الطويلة في هذه المستوطنة، وهي التي توفي فيها نقّاش في عام 2004، فتطابقت نبوءة الشخصيّة مع حال المؤلّف. وكان شلومو حريصا على رواية سيرة حياته، بوصفها حكاية اعتباريّة ليهوديّ عاصر أحداث القرن العشرين في إيران والعراق، “يحلو لي أن أعيد حكايتي ألف مرّة قبل أن يطويها معي الموت والنسيان”.
لاحت في أفق العالم المتخيّل للرواية قوى غامضة تكافئ العمل الخيّر لشلومو بانتقام فادح، فعلى المستوى الشخصيّ بدا مكافحا في بسط فكرة التسامح والأخوة والشراكة بين الجميع، مهما كانت أديانهم وأعراقهم، ولكنّه على المستوى الرمزيّ كان منقادا لقوّة مبهمة دفعت به إلى ترحّل متواصل. فقد رجّحت رؤيته للعالم أنّ الإنسان مُساق بقدريّة إلى مصير مأساويّ، إذ لم يمت أحد في الرواية موتا سعيدًا بين أفراد أسرته، وكافّة الشخصيّات لاقت حتفها في ظروف صعبة تراوحت بين القتل والموت البطيء جوعا، وكلّ فعل بشريّ مرجعه إرادة إلهيّة غاضبة لا يمكن استرضاؤها، فإلى جوار شلومو يتساقط القتلى، جراء نزعات مدعومة برغبة الله، وكأنّهم يفتدون بأنفسهم شبحا متعاليا. سعى شلومو طوال الرواية إلى جمع أدلّة تؤكّد عبثيّة الوجود البشريّ على الأرض، وما دامت الحياة سلسلة طويلة من الأحزان تنتهي بالفناء، فلا حاجة بالإحساس الدنيويّ المبهج، لأنّ الجميع بانتظار موت محتّم. يدفع اليهوديّ ثمنًا لعذاب دائم لا يمكن تفسير أسبابه.